في مهرجان فينيسيا: جيمس بوند شاذ جنسيا، متهتك وداعر

Print Friendly, PDF & Email

وأنا أقف في طابور الصحفيين والنقاد قبل الدخول لمشاهدة فيلم “كوير” Queer جاءت صحفية إيطالية من الخلف وتقدمت لتسبقني في الدخول وكنت في موقع متقدك كثيرا قرب الباب، فسألتها: أين تذهبين؟ فقالت: أريد أن أقف قبلك هناك؟ فقلت: لماذا تقفزين؟ فقالت ضاحكة: بل أنا أطير. قلت على سبيل السخرية والمداعبة: دعينا نطير معا إذن.. ثم سألتها: ما الذي نفعله هنا ونحن على وشك مشاهدة فيلم عن رجل عجوز متهتك، فاجر، يطارد شابا لكي يقضي وطره معه؟ قالت في حكمة أوروبية: نعم.. لكن هذا ما أصبح عليه العالم اليوم.. العالم يتغير!

من المؤكد، على الأقل بالنسبة لما أعرفه وسبق أن شاهدت من أفلام، لا يوجد ما يضارع فيلم “مثلي الجنس” للمخرج لوكا جوادانينو، سوى فيلم فاسبندر الأخير (قبل وفاته في 1982) أي فيلم “كيريل”. والمقصود ما يحتويه من جرعة صادمة واضحة، مباشرة، من الجنس المثلي، أو إن أردنا رد الأمور إلى أسمائها الحقيقية، “الشذوذ الجنسي”، وهو التعبير الذي يفزع منه كثيرا بطل فيلمنا هذا.

“كوير” أو “مثلي الجنس” تعبير حديث نسبيا، أختلق لكي يمحي الاحتقار عن “المثليين” باستبعاد فكرة كونهم شواذا، فهم بهذا المعنى أو بكلمة أخرى هي “gays” يصبح الميل الجنسي لنفس الجنس، أمرا “طبيعيا”. وأما في اللغة العربية الكلاسيكية يكتسب المعنى من كلمة “لوطيون” أو “لواطيون” أو “اللواط” مفهوما دينيا، يحمل الإدانة المستندة على نصوص في الكتب المقدسة.

المخرج الإيطالي لوكا جوادانينو، الذي يعمل في الولايات المتحدة، هو نفسه “شاذ جنسيا”، وسبق أن عبر عن اهتمامه بتطبيع فكرة “الشذوذ” وجعلها “مثلية” طبيعية، في بعض أفلامه السابقة مثل “ادعوني باسمك” Call Me by your Name و”المتحدون” Challangers. وهو يقتبس هنا رواية قصيرة للكاتب الأمريكي وليم بيروز (1914- 1997)، “كوير” التي كتبها مع روايتين آخريتين هما “مدمن” Junkie و”رسائل الياغا” The Yaga Lettersعن فترة إقامته في المكسيك.  ومعروف أن “كوير” Queer تروي بعضا من سيرته الذاتية، وفيها ما يشبه الاعترافات الصريحة لذلك تأخر نشرها إلى عام 1985 رغم أنه كتبها في الخمسينيات، وأحداثها تدور أيضا في نفس الفترة.

وفي نقلة هائلة مدهشة بل وصادمة للجمهور الذي ارتبط طيلة أكثر من 15 عاما مع دانييل كريج في دور العميل السري البريطاني الأسطوري جيمس بوند، فكريج يقوم هنا بدور رجل أمريكي فاسق، هجر بلاده وجاء إلى المكسيك، الى مدينة مكسيكو سيتي، لكي يتيح لنفسه المجال لتعاطي المخدرات التي أدمن عليها (وكانت تعد جريمة يعاقب عليها القانون في الولايات المتحدة) والبحث عن المتع الشاذة مع الفتية، فهو في النصف الأول من الفيلم، يذرع شوارع المدينة ليلا، يتسكع، ويتردد على البارات، يفرط في تناول الكحول، وكأنه يسعى لتدمير ذاته، فهو شاذ جنسيا، يريد أن يتمسك بذكوريته ولا يصل لمرحلة التهتك، لكنه في الوقت نفسه، لا يريد أن يشعر بالتدني أو الدونية بسبب ميوله الشاذة.

سيصبح هذا الرجل، “وليام لي” مغرما بشاب أمريكي عشريني ذي عينين حالمتين، هو “إيوجين ألبرتون” (يقوم بالدور درو ستاركي). هذا الشاب ليس “كوير” كما يردد كثيرا، ولكن هذا لا يجعل “لي” يتراجع عن محاولة إغوائه بشتى الطرق، وتروق الفكرة للشاب، فيستسلم مرة ومرتين، لكن لي يطمع فيما هو أكثر من هذا، أن ينال حب الشاب، ويعرض عليه بالتالي أن يذهب معه في رحلة إلى أمريكا اللاتينية، للبحث عن نبات يسمى “الياغا”، يقال إنه يمكن أن يتيح لمن يتعاطاه القدرة على التخاطر العقلي، أي معرفة ما يدور في أذهان الآخرين، القريبين منه، وتحديدا “إيوجين” فهو يريد أن يعرف ما إذا كان هذا الشاب حقا يحبه أم أنه يقضي الوقت معه والسلام، مستمتعا بما يغدقه عليه، ومن خوض تجربة التعرف على بلدان لا يعرفها كما أعرب له عندما اقترح عليه الفكرة.

“لي” يدور دائما في نفس البذلة الكتان البيضاء، والقبعة، والنظارات التي تكشف عينيه بوضوح، وهو ينفق عن سعة، من المال الذي آل إليه عن طريق الإرث.. وفي النصف الأول من الفيلم، يظل ينتقل من حانة إلى أخرى، ومن مطعم إلى آخر، ويستقر في النهاية على ما يشبه حانة خاصة بالمثليين من أمثاله.

ومع الانتقال إلى غابات الإكوادور في أمريكا الجنوبية يتخذ الفيلم أسلوبا متخلفا عن أسلوب الفيلم- نوار، الذي يصبغ مشاهد مكيسكو- سيتي، رغم أننا لا نشاهد جريمة أو مجرمين، لكنها أجواء تذكرنا بما استقر في الذاكرة من أفلام صورت في نفس المدينة، خصوصا وان مشاهد النصف الأول تدور عادة في الليل، في الظلام، أو تحت إضاءة خافتة وباستخدام ألوان قاتمة، وخلفية موسيقية وأغان رومانسية تعود إلى الخمسينيات، بحيث يختلط الفيلم- نوار مع القصة الرومانسية.

يحمل “لي” باستمرار مسدسا يضعه حول خصره، ولكنه لا يستعمله، بل يريده كضمانة فقد للحماية في حالة تعرض لأي اعتداء في مدينة ممسوسة بلمسة الشر، إن استعرنا عنوان فيلم أوروسون ويلز البديع Touch of Evil الذي يدور في المدينة نفسها.

أما في النصف الثاني فسيلتقي الاثنان بامرأة، عالمة نباتات تقيم منذ عشرات السنين في الغابة، محمية بنوع قاتل من الثعابين، تدرس وتجري التجارب على النباتات الغريبة، وهي نفسها امرأة غريبة كل الغرابة، شكلا وسلوكا، فنحنن لا نعرف ما إذا كانت طيبة أم شريرة، لكنها تضحك باستمرار على كل تساؤلات “لي” أو تعليقاته المقصودة. وهي سوف تتيح لهما تجربة نبات الياغا، وسوف يتأكد لي أنه الشاب لا يحبه كما كان يرغب ويشتهي.

رغم غرابة الفكرة والموضوع والرواية، إلا أن دانييل كريج يقدم أداء مدهشا، فيه الكثير من خفة الظل التي تضفي أجواء كوميدية، وهو يهيمن بشخصيته على الفيلم، كما يعكس الحوار الذي وضع على لسانه، نوعا من الثقافة الرفيعة، والقدرة أيضا على التفلسف أو فلسفة الأشياء عندما يخاطب الشاب معربا له عن حيرته، وتردده، وعذابه، ومع ذلك، تصميمه على اغتراف الممتع بما فيها الإدمان الذي لا يستطيع له دفعا، لمشتقات الأفيون.

من حيق الأسلوب هناك كما أشرت، شرخ يحدث عندما ينتقل جوادانينو من المدينة إلى الغابات، ومن الواقع إلى عالم أشبه بالسحر والصور الخيالية السحرية التي تبدو كما لو كانت صادرة من عقل يهلوس بتأثير المخدرات أو نبات الياغا على الأقل. وهنا سنرى الكثير من المشاهد الصادرة من عالم الأحلام والهواجس، في صورة جماليا، بديعة ولكنها لا تضيف شيئا.

والهلوسات في الفيلم كثيرة، وعليك أن تقبل حقيقة أن “العالم يتغير” كما قالت الناقدة الإيطالية الحكيمة، أو ترفض الفيلم وما يصوره الفيلم، ولكن رفضك لن يغير شيئا من حقيقة أننا نعيش فيما بعد سقوط العقل والمنطق.. وتغير معنى الحب.

Visited 10 times, 1 visit(s) today