“سبكتر” .. تحية من جيمس بوند للجواسيس القدامى!

Print Friendly, PDF & Email

سلسلة أفلام جميس بوند ليست مجرد مجموعة أعمال سينمائية ناجحة، إنها بالفعل ظاهرة ثقافية ترتبط بسنوات الحرب الباردة، ويبدو أنها ستواصل معنا النجاح فى القرن الحادى والعشرين.

أسرار النجاح، أولها شخصية بوند نفسه، الذى يترجم حلما بشريا بإنسان يمتلك خصائص تعود إلى عصر الإنسان الأول، الذى لم يكن يعترف بالحدود، والذى كان يجعل من الرجل صائدا لأى امرأة، كما أن هذا الإنسان الأول كان يمتلك تصريحا  مفتوحا بالقتل.

كل ذلك عاد من جديد مع العميل البريطانى 007 ولكن بعد أن أضيفت ملامح الإنسان العصرى: بوند يعمل فى خدمة جهاز استخبارات عريق، بل إنه يعمل فى خدمة صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا ذات التقاليد العريقة، كما أنه إنسان لبق، ظريف، وجنتلمان، يعرف كيف يغازل، بالإضافة الى أنه يستخدم أحدث تكنولوجيا عالم السلاح والسيارات.

 بوند بهذا المعنى ليس مجرد جاسوس، أو صانع مغامرات عابر للحدود وللقيود، ولكنه يترجم تاريخ الإنسان، ويكثفها فى رجل واحد، إنه إنسان الغريزة وقد اندمج مع إنسان العقل، ومسدس بوند ليس مجرد سلاح للقتل، ولكنه أيضا تعبير عن قدرته الجنسية مع النساء.

كل أفلام بوند تعبر عن هذه الثنائية التى تجمع بين فوضوية ما قبل الحضارة، وحريتها شبه المطلقة، والتزام وتأنق الإنسان المتحضر، الذى يعمل فى خدمة إحدى أعرق الدول الديمقراطية.

ستجد ذلك أيضا فى فيلم بوند الجديد “سكبتر” “Spectre” أو “الشبح” من إخراج سام ميندز، بل إن هذا الفيلم يمكن اعتباره تحية للجواسيس القدامى، ولعالم الجاسوسية الكلاسيكى الذى يمثله بوند.

إنه أحد أكثر أفلام بوند حميمية لأنه يتعلق بمهنته، وبأسرته، وبماضيه، وبحاضره، ثم بمستقبله.

فيلم “سبكتر” يقدم أيضا التحية  لسلسلة  أفلام بوند، وذلك بالإحالة الى شخصيات ظهرت فى أفلام سابقة، وفى النهاية لن يربح بوند بمفرده مثلما هو الحال فى كل مرة، ولكن سيربح الفريق القديم الذى يعمل معه، وتربح رئيسته الراحلة التى ستكلفه بالمهمة من خلال شريط مصور، كما ستربح الفتاة التى أحبها، والتى يبدو مستعدا أن يفعل أى شىء من أجلها.

النجاح هنا جماعى رغم أن بوند فى المقدمة، إنه نجاح المهنة نفسها، ونجاح القدرات الخاصة للبشر، فى مقابل نظرية تكديس المعلومات.

يقول فيلم “سبكتر” إن المعلومات قوة، ولكنها ليست كل شىء، فالأهم البشر الذين يجمعون المعلومات، ويفكون رموزها، ويقومون بتحليلها، الأهم هو بوند وفريقه، والجاسوس التقليدى الذى يذهب بنفسه ليعرف، ولينفذ بيده، والذى لا يمكن الإستغناء عنه أبدا.

مهمة شخصية

ولأن الفيلم يقدم التحية لجهاز التجسس، فإنه يبدأ بتنفيذ مهمة شخصية بتكليف من إم رئيسة بوند السابقة (جودى دينش)، والتى ماتت فى فيلم “سكايفول” “skyfall”، ولكنها تركت وصية مسجلة بالصورة، تطلب فيها من جيمس بوند أن يقتل رجلا فى مكسيكو سيتى يدعى سكيارا، ويقوم بوند بذلك فعلا بعد مطاردات عنيفة فى عيد الموتى المكسيكى، ومن هذه المهمة الشخصية، ستتسع الدائرة كثيرا، لأننا سنكتشف أن مقتل سكيارا صاحب الخاتم المنقوش عليه الإخطبوط، سيفتح ملفات أخطر، تتعلق بفريق بوند بأكمله، وبجهاز الإستخبارات البريطانية بأكمله.

الصراع فى فيلم “سبكتر” يتم إذن على مستويين: محاولة لتنظيم جهاز الإستخبارات البريطانى، يقوم به  شخص يدعى ماكس، مما سيؤدى الى دمج عدة إدارات معا، بل وإنشاء مبنى أحدث، والتخلى عن الجواسيس القدامى، الذين يتجاوزون فى تنفيذ مهامهم، ويقترح ماكس أيضا إنشاء تحالف بين أجهزة مخابرات تسع دول كبرى، ونتيجة هذه التغييرات، سيصبح بوند مستبعدا وتحت المراقبة، وإن كان إم الجديد (رالف فينيس) لا يشعر بالإرتياح، رغم غضبه من تجاوزات بوند، الذى هدم تقريبا نصف مدينة مكسيكو سيتى!

أما المستوى الثانى للصراع، فهو محاولة بوند كشف ما وراء سكيارا من تنظيم خطير، يقود تفجيرات من هامبورج الى تونس، وبالطبع سيفعل ذلك دون تكليف رسمى، وإنما بتواطؤ مس موني بينى مساعدة إم السمراء، وكيو ( بن ويتشاو)، الشاب الذكى الذى يمد بوند بأحدث الإختراعات والسيارات.

هنا يلتقى الخطان، فاثنان من الفريق القديم لبوند يدعمانه، وكأنهما يعارضان خطة ماكس فى تطوير جهاز المخابرات البريطانى، وبعد فترة سينضم إم شخصيا لدعم بوند فى طريقته التقليدية، ثم سيأتى الإكتشاف الذى سيجهز تماما على خطة التطوير، عندما نعرف أن ماكس عميل لزعيم تنظيم الشبح، لاختراق المخابرات البريطانية، وكذلك مخابرات دول أخرى، وبالتالى السيطرة على معلومات باتساع الكون، وهكذا يتحول ثأر شخصى بتكليف من إم الراحلة، الى عملية إنقاذ لجهاز التجسس بأكمله.

أيقونات عالم بوند كما هى: أحدث سيارة، صوته وهو يعرّف بنفسه، العالم كوطن (تنتقل الأحداث بين مكسيكو سيتى وروما وجبال الألب السويسرية وطنجة، كما نبدأ دوما من لندن ونعود إليها فى النهاية)، ومن أبرز الأيقونات مساعدة الجميلات لبوند، اثنتان يقيم معهما علاقة جسدية عابرة (واحدة تظهر فى المكسيك، والثانية هى لوسيا (مونيكا بيلوتشى) أرملة سكيارا التى ينقذها من الموت فتمنحه جسدها)، أما الثالثة فهى الطبيبة مادلين سوان (ليا سيدو) التى يقع فى حبها: جاء ليحميها بتكليف من والدها، عضو عصابة “الشبح” المنتحر، ولكن بوند وقع فى غرام مادلين، وستبقى معه حتى النهاية.

الماضى يعود

لا تعود إم بعد موتها من فيلم “سكايفول” “skyfall” فحسب، بل يعود ماضى جيمس بوند الشخصى أمامه، إنه يشك فى أن قائد منظمة “الشبح” هو ابن الرجل الذى قام بتربية بوند فى طفولته، بعد أن فقد والديه فى حادثة تسلق للجبال، وسيتأكد هذا الظن، عندما يظهر فى طنجة ارنست سترافو (بأداء مميز من كرستوفر والتز)، وكانت تلك الشخصية قد ظهرت  من قبل فى أحد أفلام بوند القديمة. الآن سنعرف أن سترافو هو نفسه ابن الرجل الذى تبنّى بوند، وقام بتربيته، وكان الابن يحقد على بوند بسبب هذه الرعاية، بل إن هذا الفتى الشرير قام أيضا بقتل والده.

ولكن هذه الخصوصية العائلية ستعود لتصب من جديد فى التيار الرئيسي للفيلم، والذى يدافع عن الجهاز والجاسوس التقليدى. سترافو ليس فقط جزءا من ماضى بوند العائلى، ولكنه زعيم منظمة الشبح التى جندت ماكس لاختراق جهاز المخابرات البريطانى، وإزاحة بوند، بل إن كل الذين فقدهم بوند فى مغامراته السابقة، خصوصا من النساء، كان سترافو الشرير سببا فى موتهم. إنه يريد تدمير بوند إنسانيا ومهنيا فى نفس الوقت.

يصبح الصراع فى النهاية واضحا: منظمة مشبوهة وعميل يريد تدمير جهاز الجاسوسية فى قلب لندن، يواجهه بوند وفريقه بل ورئيسته الراحلة. من أجل ذلك، كانت مشاهد النهاية فى لندن، ورغم انهيار المقر القديم لجهاز المخابرات، إلا أن العلم البريطانى يرفرف من جديد، بعد القبض على سترافو، ورغم أن بوند يأخذ حبيبته مادلين ويرحل، إلا أنه يعود ليأخذ أحدث سيارة سريعة من كيو، فى إشارة الى استعادة الفريق لمكانته، وفى انتصار للجاسوس التقليدى، على فكرة تكديس معلومات عن كل شىء، بل ومراقبة الجواسيس أنفسهم.

لا يوجد فاصل بين حياة الجاسوس العامة أو الخاصة، ولا فاصل بين مهمة شخصية، وأخرى يكلف بها. والفريق المتفاهم يمكن أن يعمل على إنقاذ الجهاز نفسه. بوند ما زال بطلا استثنائيا، يتلاعب بالطائرة الهليوكبتر وكأنها دراجة هوائية، بدعم من مخرج فاهم، وموسيقى تصويرية مبدعة، ومونتاج متدفق،  ولكنه أيضا قادر على تحمل الضربات من مطارد عتيد، وقادر كذلك على تحمل التعذيب المروّع. صار بوند أقرب نسبيا الى الشخص العادى، دون أن يفتقد قدراته الخاصة، التى تظهر فى الوقت المناسب، ُثم إنه يمتلك قلبا يعشق ويحب، رغم حركته شبه الآلية فى الجرى والعدو.

دانييل كريج أصبح من أفضل من لعبوا شخصية بوند، لقد فهمها من الداخل، وعرف كيف يصنع  نسخته الخاصة منها، وكان كريستوفر والتز ندا حقيقيا لبوند رغم قلة مشاهده. الشرير هنا قوى ومؤذ وعنيد، وله حضور واضح، بل إنه لن يموت فى النهاية، سيقبض عليه فقط ، مما قد يمهد لظهور قادم فى فيلم جديد، إذا لزم الأمر.

وبينما كانت مونيكا بيلوتشى أقرب الى امرأة هجرها شبابها، فظهرت عليها التجاعيد، فإن ليا سيدو كانت مليئة بالحيوية، ومناسبة تماما لنموذج مختلف من نساء بوند. إنها فتاة عملية وجريئة، وأنثى تتمتع بجسد رياضى، وهى تحب بوند حقا، ويبدو أنها سيصبح لها دور قادم فى السلسلة، إذا تطلّب الأمر ذلك، وكان بن ويتشاو مناسبا تماما لدور كيو المساعد الذكى .

الخطر فى فيلم “سبكتر” على بريطانيا نفسها: على جواسيسها، وعملائها، وجنودها الذين يرمز إليهم بالحروف. الخطر على فكرة العنصر البشرى الذى ينفذ المهام بالطريقة التقليدية، ورأى الفيلم واضح فى الإنحياز الى هذا العنصر، وعلى رأسهم بوند، الذى نفّذ وصية رئيسته الراحلة، فأنقذ جهاز المخابرات البريطانى كله.

Visited 131 times, 1 visit(s) today