وودي ألين: إشكالية الحب والجنس والبحث عن السعادة

لقطة من فيلم "آني هول" لقطة من فيلم "آني هول"
Print Friendly, PDF & Email

لا أعرف من أين أبدأ … وهذه الكلمة – لا أعرف من أين أبدأ – هي كلاشيهية جداً، إذ يستخدمها ضعفاء الكتًّاب كاعتذارٍ مسبق عن رداءة ما يكتبون وعن تفككه. ولكني بالفعل عند الحديث عن وودي ألين لا أعرف من أين أبدأ!

على كل حال سأحاول محاكاة طريقة “ألين” نفسه وأفتتحُ بطريقته؛ سأقص عليكم حكاية سريعة ومنها أبدأ.

في حديث مع أحد الأصدقاء قلتُ له: “إني خائفٌ من أن أمضيَ في حياتي عشرين سنة أُخرى، ثم أتوقفُ لأنظر الماضي فأجده لا شيء، ثم أتطلع إلى المستقبل فأجده كذلك لا شيء. أكون بذلك قد أضعت من حياتي ما فات منها وما هو آت. هل سيفيد الندمُ حينَها؟” أو كما قال نجيب محفوظ في “ميرامار”: ما جدوى الندم بعد الثمانين؟!

بعد أشهر قليلة من هذه المحادثة، شاهدت فيلم “أي شيء آخر”.. تفاصيل ألين المعتادة: علاقة معقدة بين رجل وامرأة ، نكاته المراوغة عن اليهودية، الأداء العصبيّ وطريقة الحوار ذاتها.  ولكن.. ولكن الفيلم به هذه المرة مسحة أجدُها غريبة على سينما وودي ألين. الدور المساعد الذي يلعبه هو في الفيلم: شخصية “دُوبل”. حول هذه الشخصية يُنسج الاختلاف الذي ألمسه هذه المرة. ولكن قبلَ أن أوضح هذا الاختلاف، دعونا نتفق حول بعض النقاط التي أراها من ثوابت هذا المخرج.

إن الفنون التعبيريّة هي – ولا شك – وسائل تطهير لأرواح الفنانين، ودروب كشفٍ عن أعماقها. ومن ثمَ فإن كل عملٍ فنيّ، ذاتياً كان أو قومياً أو إنسانياً أرضياً، فإنه لن يفلتَ من ترسبات هذه الأرواح: ذكريات الطفولة.. المخاوف.. الأحلام.. الاتجاهات.. إلخ، في علاقة معقدة شديدة التشعب. سينما ألين هي مثال شديد المباشرة لهذه العلاقة، التي اختزلها هو لتصبح أفلامُه – في معظمها- هي انعكاسٌ لنفسه وصلاتها المركبة مع ما حوله ومن حوله؛ بحيث يصبح البطل هو تطابق لشخصية وودي ألين الحقيقيّة، بطلٌ يحمل ذات أفكاره وهواجسه ومشاعره وأراءه، بل ويعبر عنها كذلك بذات طريقة ألين العصبية المضطربة المتقطعة المُدافِعة، مما يوضح السبب الذي يجعله يقوم بأداء دور البطولة في معظم أفلامه، مما دفع البعض – ولا أراهم على خطأ – إلى الاعتقاد بأن ألين يمارس بذلك نوعاً من التطهر الروحيّ أو العلاج النفسيّ.

ونستطيعُ أن نلخصَ كلَ ما فات في كلمة واحدة نصف بها سينما ذلك المبدع العبقريّ ألا وهي “الذاتية”، تلك الذاتية التي يستطيع هو بحس وروح فنان صادق، أن يستخرج من لُبِها الشخصيّ معانٍ إنسانيّة عامة، يشعر بها (كلُ إنسان) … فيصبح هذا البطل الذي يعبر عن ذاتية شخص صانعه، هو في حقيقته وبعد تجريده من الشكل الخارجيّ، إنسانُ هذا العصر، وتصبح معاناته الذاتية، هي معاناة عامة، أو بكلمة اُخرى: إن قمة الذاتية والخصوصية هي قمة العمومية والإنسانية، كما أخبرنا من قبل عظيمُ الأدب الروسيّ أنطون تشيخوف.

وأولُ هذه العلاقات التي نلمسها واضحة في أفلام المخرج، هي تلك التي تربطه بأمه، ويمكن أن نلخصَ هذه الصلة في عبارة يقولها هو في افتتاحية المقطع الذي قام بإخراجه من فيلم “حكايات نيويورك”.. إذ يقول متحدثاً عن أمه: “أنا أُحبها، ولكني أتمنى لو أنها اختفت”.

في ظنِّي أن هذه العلاقة مع أمه هي بداية التعقيد في الصلات التي صاحبت وودي ألين بقية حياته، فهي الأم المتسلطة التي تتعامل مع ابنها بهيمنة تامة، وبطريقة لا تتغير منذ أن كان ذلك الصبي ذا العوينات السميكة، أحمر الشعر، قصير القامة، نحيل الجسد. لم تتبدل هذه النظرة قط في عيني الأم، بحيث خلقت علاقتها به سجناً تشتد قسوته بمر السنين، لتجعل التحرر من وراء قضبانه هدفاً دائماً لحياة ابنها الحبيب، ولتجعل العلاقات مع النساء في نظره هي معادلٌ جديد لهذا السجن وإن اختلفت التسميات، وهنا يظهر التعقيد الثاني: المرأة. ولكن قبل أن نتطرق للحديث عن المرأة في حياته، فثمة بُعد آخر في (علاقة الأم) يجب أن نعيه تماماً، بُعدٌ يتأتّى بالأساس من (يهودية) هذه الأم التي هي بمثابة عامل تذكير دائم – كما يشير أُستاذنا د.عبد الوهاب المسيري- لابنها الذي يعيش داخل المجتمع الأمريكيّ بكونه مختلفاً عن هذا المحيط؛ فهو ليس (واسب WASB) بل (يهودياً) ويجب أن يحافظ على هذا النقاء اليهوديّ، فهذه الوالدة – كما نراها في الفيلم سالف الذكر- لا تقبل إلا أن يتزوج ولدها من امرأة يهودية تحمل ذات صفات الأم، وترفض تمامًا فكرة زواجه من امرأة من نساء الأغيار – أي امرأة غير يهودية حسب التعبير العبرانيّ- تأكيداً على يهودية الابن، بل ومنعَ (تمامِ) ذوبانه في المجتمع، فاليهود – كما يقول الأستاذ عباس العقّاد- يحبون أن يعتبروا أنفسهم (عِرقاً)، أو بتعبير آخر: دولة داخل الدولة.

من فيلم “كل ما تريد أن تعرفه عن الجنس”

عند الحديث عن المرأة في سينما / حياة وودي ألين يجب أن نعترف بأننا نخوض في أرضٍ زلقة، أو دغلٍ شديد الإظلام والغموض؛ هذا أن علاقات الحب بشكلها الكلاسيكيّ .. بمنهجها الأمريكيّ أو غير الأمريكيّ هي شيءُ لا أظنُ أنه قد دار يوماً في ذهن ألين.

الحب والجنس

ربما يفسر لنا ذلك نكتة يرويها هو لنا في افتتاحية فيلم “آني هول” إذ يخبرنا: “هناك نكتة قديمة تقول: أنا لا أقبل أن أنضمَ لنادٍ يقبل أمثالي أعضاء فيه”، ثم يضيف: “هذه هي علاقتي مع النساء”. فدائماً ما نرى أبطاله يتركون علاقاتٍ بها قدرٌ من الاستقرار النسبي إلى علاقة غامضة نوعاً، بها شيءٌ ما غير سليم، مما يؤدي بهذا البطل إلى حالة من الاضطراب، تصل بالعلاقة – غالبا – إلى الانفصال، الذي يلقي ألين دائما ً – وهو اليهودي الذي يشعر بالاضطهاد المتواصل- بذنبه تجاه المرأة، لتصبح هي هادمة هذه العلاقة. وهنا يظهر أحياناً نوعٌ من الحنين إلى العلاقة السابقة ويتولد الندم كما رأينا في فيلم “منهاتن”.

المدهش في الأمر أن وودي ألين يبحث عن حبٍ حقيقي بين ثنايا هذه التشابكات، وهو في ذلك فاشلٌ أبدياً، لكنه يصر على ذلك رغم تهكمه المتواصل على طقوس علاقة الرجل بالمرأة بمنهجها الأمريكيّ، الذي يبدأ بالدعوة إلى كوب من القهوة أو كأس من الشراب، ثم الدعوة على العشاء، التي إن تمت بنجاح تؤدي إلى بدء المواعدة  Dating، ثم تبدأ علاقة الجنس، ثم الاحتفلات بأعياد الميلاد والذكريات السنوية، وتنتهي هذه العلاقات دومًا بالانفصال إما قبل إتمام الزواج أو بعده. كل هذا لا يروق السيد ألين – كما قلت- ولكنه يستمر فيه، فيما يُعد من أبرز تعقيداته الشخصية التي لا تنتهي. ولكن ما يؤدي بالأمر إلى مرحلة اُخرى من التعقيد هو ظهور إشكالية الجنس.

ما هو الجنس؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تعتمد بالأساس على التكوين الذاتيّ للفرد، وهي من ناحية أُخرى مؤشرٌ لمقدار ما فاز به هذا الفرد من الحضارة. وعلى ذلك فإن هناك تباينًا عظيمًا بين الإجابات المحتملة، والتي نعرض منها ما يلي:

– الجنس هو وسيلة للتطور والحفاظ على النوع من الانقراض.

– الجنس هو وسيلة للتمتع والإشباع الجسديّ.

– هناك رأيٌ لا يرى للجنس أهمية أو هو يُعلي من قدر المشاعر فاصلاً بينها و بين الممارسة الجسدية.

– الجنس هو طريق للتواصل ووسيلة للتعبير.

– الجنس هو وسيلة لشحن الإنسان نفسيًا بطاقة تساعده على اتمام مهام أكبر.

وهذه النظرات هي جميعًا عندنا ليست متناقضة بل متكاملة أشد التكامل، ولكن الفارق يأتي في ترتيب الأهمية، الذي يختلف من إنسان إلى آخر. والجنس عند “ألين” يقدِّم التعريفَ الرابع؛ الجنس هو وسيلة تواصل وتعبير عن الحب، وهو في ذلك شديد الإيمان إلى حد التعصب، إلى الحد الذي يجعله عندي – أحياناً – مطبقًا لمبدأ شوبنهاور الذي يجعل من (الحب) لفظة مهذبة للتعبير عن (الرغبة الجنسية)، ويؤكد لنا ذلك أنه يجعل من امتناع المرأة عن علاقة الفراش مؤشراً لبرود الحب وفتور العلاقة، ثم يأتي الانفصال في النهاية كنتيجة حتمية لهذه الحالة. ولكنه بين كل هذا لا يجرد الجنس من معناه .. مطلقًا .. بل يحافظ عليه كشعورٍ وحالة، فنحن مثلاً نرى في بعض حكاياته امرأة تمارس الجنس تحت تأثير الكحول أو الماريجوانا أو حتى تحت تأثير التنويم المغناطيسيّ، هذه امرأة لا يقبلها وودي ألين ولا يحبها، وهي عنده إنسان غير مكتمل الإنسانيّة؛ إذ أن الجنس  في هذه الحالة يُفَرَّغُ من معناه فيصبح – كما يوضح لنا د. المسيري في حديثه عن ألين- حركاتٍ يأتي بها الجسد، دون أن تكون لها دلالة روحيّة ما، مما يجعله جنسًا لا يحل “أزمة المعنى” وهذا لا يناسب “ألين” .

ثمة إلماح أخير قبل أن ننهيَ حديثنا عن الجنس والمرأة في سينما هذا المؤلف: على الرغم من الموجة التي شهدتها السينما الأمريكية منذ بدايات السبيعينات والتي كانت تفترض أن الخوض في أمور الجنس والعنف بشكل سينمائيّ سوف يؤدي تلقائيًّا إلى تخفيف الكبت المخزون في المجتمع الأمريكي، تلك الموجة التي عضدها خروج السينما من تحكم الرقابة الكُنسية الكائنة قبل هذه الفترة، على الرغم من هذا التحرر إلا أننا لا نرى – في أغلب الأحيان- أيَ ممارسات جسدية أو مشاهد عارية عند وودي ألين، ولكننا نرى دومًا حوارات تدور بشأن الجنس، ونرى أثره في حياة الشخصيات. وأنا لا أعدُ ذلك مزية أو نقيصة في أفلامه ولكنه شيء ملفت، أظنه راجعاً بالأساس إلى كوميدية العرض التي ينتهجها ألين في معظم الأحيان.

نيويورك. المدينة اللامعة، التي تستقبلنا أنوارها قبل أميال من داخل المحيط. تمثال الحرية، مبنى “الإمبايرستات”، حي “منهاتن” العريق و”وول ستريت”. المتاحف ودور الأوبرا، قاعات السينما والمسارح، المطاعم الفاخرة، دُور النشر والمكتبات الضخمة. نيويورك، العاصمة الاقتصادية للولايات، والمدينة التي بُنيت على شاكلتها عشرات المدن الحديثة في العالم. قليلة هي الأفلام التي تقف أمام كل هذا لتخبرنا بحقيقة مغايرة؛ تخبرنا عن الشوارع الخلفية لهذه المدينة، أو تخبرنا عن الوجه الآخر للحضارة. نيويورك التي وُلد فيها ألين، وفيها عاش، وفيها صنع معظمَ أفلامه.

بوصف هذه المدينة، وفي افتتاحية كوميدية أُسطورية يبدأ فيلمه “منهاتن” ويقول: “لقد عشق مدينة (نيويورك) ومجّد كل جزء فيها .. بالنسبة له – أياً كان الموسم- كانت لا تزال مدينة موجودة بالأبيض والأسود.. لقد ترعرع على الزحام والصخب من الحشود وحركة المرور.. بالنسبة له كانت (نيويورك) تعني المرأة الجميلة.. وشباب الشارع الأذكياء الذين يعرفون كل الزوايا فيها.. على الرغم من أنها بالنسبة له كانت كناية عن انحطاط الثقافة المعاصرة.. وقلّة النزاهة التي جعلت الكثير من الناس يأخذون الطريق الأسهل.. كم كان صعباً بالنسبة له أن يتواجد في مجتمع منزوع الحساسية بسبب المخدرات وصخب الموسيقى.. التلفاز.. الجريمة.. القمامة.. كانت (نيويورك) مدينته وستظل كذلك دوماً”.

بهذه العبارات التي تبدو متناقضة يلقي ألين برأيه عن مدينته الحبيبة في وجوهنا، نيويورك التي هي عنده مثالٌ لكل مدينة حديثة، فيها بطله هو إنسان هذا العصر، الإنسان الذي يعاني من المهزلة الأخلاقية والمعرفية في مجتمعه، ولكنه مشاركٌ فيها رغم كل شيء، بل هو صانع لجزء منها. وهنا تظهر عدة تساؤلات:

هل نحن نعيش في مجتمع متحضر أم مجتمع زائف التحضر؟

هل يفيد التقدم الصناعي والعلمي إن تزامن معه انحدار في أخلاق الناس وأرواحهم؟

ما فائدة الاطلاع على الفنون التي تدعو في جملتها إلى قيم الحق والصدق والتضحية، ما فائدة كل هذا إذا ما فصلناه عن واقع حياتنا؟

الفن والأخلاق

هذه أسئلة ثلاثة، نجيب عن ثالثها أولاً، ثم ثانيها. ومن هاتين الإجابتين نعرف حقيقة تحضرنا من زيفه وهذه هي الإجابة عن السؤال الأول.

في التساؤل الثالث نقول: تخيل معي هذا المشهد: رجل وامرأة في مكان لبيع الكتب والاسطوانات الموسيقية …إلخ. الرجل متزوج، والمرأة في علاقة جادة مع أحدهم، الرجل والمرأة يتحدثان عن موزارت وتشيخوف وفيلليني وغيرهم من رُسل الفن، الذين أثروا البشرية بطهر فنّهم، ولكنهما –الرجل والمرأة- في حديثهما هذا إنما يبطنان نوعاً من المغازلة، ويمهدان بها – وإن لم يصرّحا – لعلاقة قادمة، هي في أساسها هدم وخيانة لعلاقة الرجل بزوجته الحالية، وعلاقة المرأة بحبيبها. هذا الموقف يراه ألين داعياُ للغثيان، ومثيراً لإشكالية عنيفة في سينما هذا المخرج، وهي: إشكالية الفن والأخلاق، والتي تدخل بدورها تحت مظلة إشكالية أعم، وهي: التحضر والإنسان. ومن عندها نبدأ الإجابة عن التساؤل الثاني.

وفيه نقول بعبارة مختصرة: إن التقدم في جوانب الحياة المادية للإنسان، يماثله تأخر في الشق الروحانيّ، وهذه هي كارثة الحياة في المجتمع الصناعيّ الماديّ. إن تراكمات الحداثة – وباتخاذ نيويورك مثالاُ لها – تؤدي بالإنسان إلى نوع من الغرور، ذلك الغرور الذي يهدم كل الثوابت التي عرفها بغريزته، وآمن بها بفطرته، ومن ثمَّ نفقد قدرتنا على القياس؛ إذ أننا نقف على أرضٍ مجهولة المعالم، لا نعرف فيها معاني للخطأ أو الحرام، ولا نعرف ماهية الجمال والقبح، تختلط المفاهيم فنفقد قدرتنا على تمييز الأشياء.

إنها كارثة “النسبية” – كما يقول د.عبد الوهاب المسيري- التي تنسف كلَ مطلقات أخلاقية أو معرفية، لنصبح في ظلامٍ نتخبط فيه. نلمس هذا الإظلام في حياة “إيزاك” بطل فيلم “منهاتن”، وعلاقته بثلاث نساء؛ الأولى هي زوجته السابقة التي هجرته مع ابنهما الصغير لتعيش مع امرأة أخرى في شذوذ جنسيّ، ثم تقدم بعد فترة من طلاقهما على تأليف كتابٍ عن تجربة زواجهما المنقضية، مدرجة فيه أدق تفاصيل علاقتها الجنسية مع زوجها.

لقطة من فيلم “حنا وأخواتها”

أما الثانية فهي فتاة صغيرة في السابعة عشرة من عمرها، تحب البطل وتتعلق به بصدق، لكنه يهجرها إلى امرأته الثالثة. وهذه المرأة الثالثة –التي لعبت دورها ديان كايتون- هي شخصية غريبة الأطوار، برع ألين من خلالها في تقديم فكرة ” النسبية المعرفية” بمعالجة كوميدية منيرة، من خلال أرائها عن معروضات أحد معارض الفن الحديث، ثم سردها لبعض الفنانين والكتّاب المُبالغ في تقييمهم – في رأيها – والذين صنعت لهم ناديًا خاصًا في خيالها مثل: سكوت فيتزجيرالد و كارل يونج وفنسنت فان غوخ وإنجمار برجمان، مما يثير دهشة إيزاك الذي يعرض عليها متهكمًا أن تضيف “موزارت” إلى هذا النادي!

 كما نرى وصْفها لزوجها السابق بكونه أسطورة جنسية وأنه قد علمها الكثير، لنرى هذا الزوج في النهاية فيدهشنا مظهره القصير، الأصلع الذي يدفع ألين إلى وصفه بالقرد. أما عن علاقاتها فإننا نراها في بداية الفيلم في علاقة مع صديق البطل، وهو شخص متزوج، ولكنها لا تأبه بذلك في البداية، ومع مرور الأحداث تنجذب إلى شخصية إيزاك، فتمضي إليه تاركة حبيبها المتزوج معللة ذلك بكونه متزوجًا، وأنها لا تشعر بجدية العلاقة، ومع مرور الأحداث تفقد اهتمامها بـ “إيزاك”، وتعود إلى حبيبها الأول.

وهي بين كل هذا لا تشعر بأي تأنيبٍ أو نداء من ضمير، فيما يشكل مهزلة أخلاقية تُضاف إلى أفعال الزوجة الشاذة التي لا تتحرج من فضح نفسها ووالد ابنها في كتابٍ تؤلفه. وفي النهاية يقف البطل ليتأمل سوء الموقف الذي انتهى إليه، مدركًا أن قصورَ نظرته وسوءَ اختياراته كانا من أسباب هذا الموقف. وهنا يتذكر نقطة النور في كل هذا الإظلام؛ الفتاة الصغيرة التي أحبته بصدق، فيهرع إلى الشارع، ويركض في الطرقات إلى بيتها، فيوافيها وهي على وشك مغادرة البلاد إلى لندن لمدة ستة أشهر. فيقف عندها مبدياً ندمه الصادق في مشهد دافئ، قلما نراه في سينما ألين، وفي حوارٍٍ نخلص منه إلى نتيجة نهائية: إن البراءة في هذا المجتمع إما أن تهجره، وإما أن تنضج، والنضج عند وودي ألين هو معادلٌ لفقدان الروح الجميلة، ليصبح الإنسان مسخاً مثل بقية المسوخ التي تجوب شوارع منهاتن، لذا يطلب من هذه الطفلة ألاّ تنضج، وهذا – بالطبع – مطلبٌ لن يتحقق. وينتهي الفيلم بصورة شهيرة لـ “منهاتن”، هي نفسها التي بدأ بها الفيلم؛ وكأن ألين يخبرنا بأن هذه هي الحياة في نيويورك.

ومن ذلك، أظنُ أن إجابة التساؤل الأول قد أمست واضحة.

يهودية وودي ألين

في مدارس أمريكا يقولون للأطفال، أن بلدهم هي حلمٌ، هي أرض يجتمع البشر من مختلف الأعراق والألوان والأديان، يجتمعون بلا اختلافات في بلدٍ حر، تستقبلك “الآنسة حرية” عند بوابته الشرقيّة.

ولكن الواقع يخبر هؤلاء الأطفال بكذب المدرسة؛ يخبرهم عن فشل المجتمع الأمريكيّ في تمام هضم الفوارق بداخله، لينتج شخصية متحررة من كل اختلافات الأصول، بل يخبرنا التاريخ القريب، عن أماكن كان يُمنعُ من دخولها (الزنوج والكلاب واليهود).

في هذا المجتمع الذي لم يتحرر بأي حال من عنصرية، في حي بروكلين الشهير، وُلد لعائلة مهاجرة يهودية، الطفلُ ألان ستيوارت كونسبرج. دعونا نتخيل موقف هذا الطفل الذي يسمع كلمة “يهوديّ” من الناس حولَه على أنها نقيصة وعارٌ يُوصم به البعض من سكان ذلك المجتمع، ثم يعود الفتى ذاتُه إلى البيت،  ليسمع من أمه عن نقاء جنسه اليهوديّ، واختلافه عن المجتمع المحيط به. ليقع الفتي بين شقيّ رحى بمعنى الكلمة؛ إذ يتساءل: هل اختلافه النابع من يهوديته، هو اختلاف إيجابيّ كما تؤكد الأم، أم هو اختلاف سلبيّ كما يؤكد واقع مجتمعه الذي يحياه.

مع مرور الزمن، ومحاولات هذا الطفل للاندماج في هذا المجتمع، والتي تُقابل بالرفض، يظهر لديه نوعٌ من الـ”بارانويا”، نلمسه جليًّا في نبرة (الدفاع) التي تلازم حوارات وودي ألين، بغض النظر عن كونه مُتَّهمًا أم لا. ومع تقدم العمر، تظهر المرأة في حياته، لنجد أنه إلى جانب إشكاليات الحب والجنس وعلاقة الأم، تظهر النظرة اليهودية إلى أنثى (الأغيار) التي هي جزءٌ من ذلك المجتمع الذي يرفض ألين، مما يجعل محاولاته للاندماج في حياتها، تنتهي بالفشل. ومن ناحية أُخرى فإن أصله اليهوديّ يراها كعاهرة لا يصح لرجل يهوديّ أن يتزوجها. وهذا ما رأيناه في فيلميّ: “آني هول” و”حكايات نيويورك”.

في الفيلم الأول نرى كثيرًا من التفاصيل التي تكلمنا عنها في الأسطر القليلة الماضية؛ إذ نجد الأسرة اليهودية وطفلها الصغير، الذي نرى تطلعاته إلى العالم من حوله، ومع نضجه، يظهر الشعور القويّ بالاضطهاد، ثم  نلحظ رفضه لفتاة يهودية، وإعجابه بالأمريكية الشقراء “آني”، وبداية دخوله إلى عالمها، ثم فشل هذه العلاقة في النهاية. وبين البداية والنهاية، نرى نظرة أسرة الفتاة للبطل اليهوديّ “آلفي سنجر”، ثم اللقاء المُتَخيل بين “آني” وأسرة “آلفي”، لندرك في النهاية حجم الفجوة والاختلاف بين العالمين.

أما في فيلم “حكايات نيويورك”، فهناك البطل اليهودي الذي يغير اسمه، ويمضي إلى داخل مجتمع الواسب، ويحب فتاتهم، ولكن الأم – والتي تمثل الأصل اليهوديّ- ترفض هذه العلاقة كما قلنا من قبل.

في هذا المجتمع الذي يعاني من أزمة أخلاقية صارخة، وبين هذين الاتجاهين المتضادين: الأصوليّ والاندماجيّ، يعيش البطل وودي ألين اليهودي الفاشل باحثًا عن معانٍ لهذه الحياة، فالإنسان فيها يعيش في التعاسة والشقاء والبؤس، والأسوأ أنها تنتهي سريعًا بموتٍ لا مفر منه. فإذا كانت الحياة شقاء وتعبًا وموتًا في النهاية، فلماذا يتمسك بها الإنسان، ويحارب من أجل البقاء فيها؟!

هذا هو السؤال الذي يطرحه بمباشرة فيلم “حنَّا وأخواتها”. في بداية البحث عن الجواب يتجه ألين إلى الدين، فيصطدم برجاله، ورجال الدين عند وودي ألين هم أحط حفنة من النصابين عرفها التاريخ البشريّ؛ إذ يبيعون الوهم للناس في سبيل تحقيق منافعهم الشخصية، ويحمل منهم “شعلة النصب” في أيامنا هذه “المعالجون النفسيون”. ويمكن أن نلخص رأي ألين حولهم في تلك الحكاية التي يرويها في فيلم “زيليج”، إذ يقول: “ذهبت إلى المعبد، لأشكو إلى الحاخام، وأطلب منه النصحَ، فقال لي: سوف أعلمك دعاء يريح نفسك، ثم قرأ عليّ أحد الأدعية العبريّة. فقلت له: ولكني لا أفهم العبرية، فقال لي الحاخام: يمكنني أن أعلمك العبرية مقابل مائة دولار”.

لقطة من فيلم “النائم”

في “حنَّا وأخواتها” نشاهد “ميكي”، الشخص المصاب بوسواس قهريّ من المرض، مما يدفعه لإجراء الكثير من الفحوصات الطبيّة، وفي إحدى المرات يخبره الطبيب بشكوكٍ حول إصابته بورمٍ مخيّ، ولكن يظهر خطأ هذا الاحتمال لاحقًا، فيشعر ميكي بسعادة بالغة، ولكنه يتنبه إلى حقيقة هامة: في كل الأحوال هو سيموت في النهاية.

هنا يبدأ البحث عن معنى الحياة. يبدأ بالاتجاه إلى كتب المفكرين والفلاسفة، ولكنه يفشل في إيجاد ما يريد، ثم يتجه إلى اعتناق الكاثوليكية – وهو اليهوديّ الملحد- ولكنه يتركها بعد بضعة أيام، إذ وجدها –على حد تعبيره- مثل شخصٍ، يقول لك: “مُتْ الآن، وسأدفع لك لاحقًا”، ثم يفكر بعد ذلك في اعتناق أحد الأديان التي تؤمنُ بتناسخ الأرواح، ولكنه يتراجع إذ يجد أن الأمر هو محض هُراء. وفي النهاية يقرر أن كونًا بمثل هذا الشر والسوء، لا يمكن أن يكون له إله خالق. ومن هذا المنطلق الإلحاديّ، ومن خلال نظرة ألين للموت – وهي تشبه النظرة الإغريقية الأسطورية؛ حيث مملكة الموتى وحارسها “شارون”، وما إلى ذلك- تصبح الحياة بلا معنى؛ فهي حفاظ على جسد سيتلف في النهاية، وينتقل إلى العدم. ويصبح  الإنسانُ بذلك كائنًا، يركض في هذه الدنيا بلا هدف، على طريق ينتهي بهاوية حتمية. ومن ثمَّ يقررُ الانتحار، ويقدِم عليه، ولكن بينما هو على وشك إطلاق الرصاص على رأسه، تطيش طلقات البندقية، وتصيب المرآة المعلقة وراءه، وتجذب الأصوات الجيرانَ في بنايته، فيطرقون عليه الباب، و يُصاب ميكي بحالة من الذعر والتشوش الشديد. وبعد ذلك يخرج إلى الشارع، ويدخل إلى احدى دور السينما، ليهدئ من روعه، وهناك يجد الحل؛ إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة: التفاصيل البسيطة، والأشياء الصغيرة التي يكمن وراءها الجمال الحقيقيّ، والمعنى وراء حياتنا، إذ تُوجد السينما، يُوجد الحب، الذي هو أعظم الطاقات الكامنة داخل نفس البشر. وينتهي الفيلم، وقد تحققت له السعادة الحقيقية أخيراً، مع زوجة يحبها، وطفل ينتظره داخل رحم هذه الزوجة.

مرثية سينمائي

طالما سخرت ممن يدعون معرفتَهم لأنفسهم، فالإنسان جاهل بنفسه تماماً، ولكن إن كان هناك استثناءٌ لهذه القاعدة، فإنه وودي ألين؛ إنه يعرف نفسه حقاً، وهو سيدُ المعبرين عن أنفسهم. ولكن ألين مثال للمثقف المشوَش؛ الذي يعرف أسئلته، ويعرف أجوبتها، ولكنه غير قانع بأيٍّ من هذه الأجوبة، وهنا مكمن التشوش.

أنا لا أعرف من أين أبدأ الحديث عن وودي ألين، ولا أعرف كذلك أين أنتهي؛ فالرجل هو كتلة من التساؤلات والاضطرابات تمشي على قدمين. وقد أنفق هو كلَ حياته في محاولة الوصول إلى الإجابات، ولكنه بذلك قد وقع في الشَّرَك الذي حذرنا منه – نحن الرجال – تولستوي من قبل؛ فهذا الروائي الروسيّ العملاق يرى “أن المفاجأة التي يخبئها الزمان للرجال، هي التقدم في العمر”، هذا هو ما (شعرتُ) به في فيلم ألين “أيُ شيء آخر”.

إنها مرثية مخرج قد ترك العنان لهواجسه وإشكالاته، ثم توقف ليسأل الناس عن الوقت، فأخبروه أنه قد أنفق من عمره سبعة عقود. سبعة عقود بين أمه والمرأة والجنس ونيويورك والمعنى والدين، وفي النهاية: لا شيء.

نرى هذا المخرج وهو يؤدي شخصية ديفيد دوبل الناصح الأمين لشاب صغير يُدعى جيري فوك”، شاب يشبه ألين وهو بعد كاتب صغير مغمور، شاب في الحادية والعشرين من عمره، يعيش في نيويورك، في علاقة مركبة مع فتاة مضطربة، وموقف عجيب من مدير أعماله الذي استخدمه ألين كرمز للأم، ومعالجه النفسيّ الذي يرمز بشكل واضح لرجل الدين، فتكون نصيحة “دوبل” لذلك الشاب، أن يهرب من كل هذا، وأن يتعامل بمباشرة مع كل هذه التعقيدات؛ ينصحة بأن يهجر الفتاة، وينهي العقد الذي يربطه بمدير أعماله، ويتوقف عن زيارة معالجه النفسيّ، وأن يترك نيويورك إلى لوس أنجلوس ليبدأ حياة جديدة.

وإني أرى أن وودي ألين في هذا، إنما يقدم لنفسه نصيحة أو بالأحرى أمنية، كان يجب أن يتبعها منذ شبابه الأول… ولكن الماضي لا يعود.

* ناقد سينمائي من مصر

Visited 159 times, 1 visit(s) today