فيلم “حد الطار”.. محاولات الخروج من دائرة القهر

Print Friendly, PDF & Email

أروى تاج الدين

تتيح المنصات فرصة جديدة لإعادة المشاهدة وتأمل الأعمال السينمائية التي ربما شوهدت على عجل في دور العرض أو أثناء مشاركاتها في المهرجانات السينمائية، كما تتيح الفرصة أيضاً لجمهور أكبر للتعرف على الإنتاج السينمائي لدول مختلفة، والذي لم يحظ بفرصة عرض جيدة في دور العرض المحلية. لذا كان وجود فيلم “حد الطار” ضمن مجموعة من الأفلام السعودية التي أصبحت متاحة الآن على منصفة نيتفلكس، فرصة عظيمة لمشاهدة جديدة متأنية وإعادة تأمل.

“حد الطار” هو التعاون الثاني بين المخرج عبد الله الشلاحي وكاتب السيناريو مفرج المجفل، وهو أيضاً العمل السينمائي الثاني في مسيرتهما بعد فيلم “المسافة صفر” الذي قدماه في 2019، لكن يظل “حد الطار” هو الفيلم ذو البناء الأكثر تماسكًا واتزانًا والأكثر قوة على مستوى السرد البصري، ومن ثم كان هو بطاقة لتقديم الشلاحي ومجفل إلى جمهور العالم العربي من خلال عرضه ضمن مسابقة أفاق السينما العربية بمهرجان القاهرة في 2020، وحصوله على جائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة أفضل ممثل لـ(فيصل الدوخي).

القاهر المقهور

يدخلنا الفيلم إلى عالم من المقهورين الذين يمارسون فيه القهر أيضاً على غيرهم، والجميع مدفوعون نحو مصير يحاولون مقاومته، ويرزخون تحت وطأة الظروف الاجتماعية والمادية وسلطة العائلة، بالإضافة إلى انسحاقهم كبشر ينتمون إلى طبقة أقل بحكم فقرهم ومهنتهم كمغنين في أفراح ومناسبات العائلات في مطلع الألفية.

ورغم ما ينشرونه من بهجة وسعادة في مناسباتهم، لا تتورع تلك العائلات عن احتقارهم وإهانتهم ورميهم بالحجارة إذا أتوا فعلًا لا يعجبهم. إنها دائرة مغلقة يُمارس فيها كل فرد سطوته على من يقع تحت سلطته، سواء بسبب البنوة أو بامتلاك ما يمكنه من التحكم في الآخر وتوجيهه نحو تحقيق ما يرغب أو ما هو مجبور عليه.

يمثل هذا العالم كل من “شامة” (أضوى فهد) ابنة فرقة غنائية تعمل في أحياء الأفراح، يضغط عليها أهلها لتتعلم عزف الأورج الذي سيمكنهم من أحياء أفراح الشيوخ من أجل دفع الدية لإبنهم سرور وإخراجه من السجن. أما هي فلا تريد أن تعمل في مهنة أمها التي تجعل الناس يتعاملون معهم على أنهم بشر من درجة أقل، ومع ذلك تحاول أن تجد مصدرا آخر للحصول على المال المطلوب لدفع الدية الذي سينقذ ابن خالها وحبيبها من حكم الإعدام، فتضطر إلى إدعاء حبها لجارها دايل (فيصل الدوخي) ابن الأسرة الميسورة وسليل عائلة السيافين، ومحاولة إغواءه بالزواج منها حتى تستطيع افتداء حبيبها بمال مهرها. وفي نفس الوقت تقوم بالضغط على دايل حتى لا يقبل بمهنة السياف وتضع رفضه للعمل شرطًا لقبولها الزواج منه.

ويقع دايل أيضاً تحت سطوة عمه الذي يضع يده على ميراثه من أبيه، ويحاول إجباره على قبول مهنة العائلة، والانصراف عن فكرة الزواج من بشامة بسبب مهنة أمها، ورغبته في تزويجه من ابنته الجوهرة، فيرهن موافقته على إعطائه ميراثه بالانصياع له وقبوله بشروط الحياة التي يقدمها له.

تعاني أسرة شامة أيضاً من أزمة جمع مال الدية في ظل قلة العمل وصراعهم مع الفرق الأخرى من أجل الحصول على فرصة لإحياء أفراح الشيوخ، ويجدون نفسهم مضطرين إلى إدخال آلة جديدة إلى الفرقة بينما لا يوجد عندهم ما يمكنه العزف عليها، فيحاولون إجبار شامة على تعلمها والانخراط في عمل الأسرة.

هناك أيضاً خط فرعي ينتمي لذات فكرة ثنائية القاهر المقهور، وهي شخصية منوة (عجيبة الدوسري)، التي تتألم من محاولات زوجها لاستمالة بدرية (راوية أحمد) – أم شامة – حبه القديم وإظهار اهتمامه بها بسؤاله عنها وإمدادها بما تريده من بقالة مجانًا، فتقوم بالاستيلاء على النساء العاملين معها وتكوين فرقة لمحاربتها.

 الغائب الحاضر

 تبدو شخصية “سرور” هي المحرك الرئيسي للدراما ولأفعال الشخصيات في الفيلم على اختلاف مواقفهم منه، والذي يظل حضوره المعنوي في أول فصلين من الفيلم، من خلال حوار الأبطال وقوته الدافعة لاختياراتهم، أقوى وأكثر تأثيرًا من ظهوره في الثلث الأخير في عدة مشاهد لم تضيف جديدًا إلى الفيلم ولم يكن وجودها مؤثرًا في الحكاية.

بل إن غيابه المادي أضفى عليه مسحة أسطورية جعلته مثل القوة السحرية التي تدفع بالأبطال نحو المصير الذي يُجاهدون لتفاديه، فتسعى عائلته للعمل المستمر والدخول في صراع مع أبناء مهنتهم من أجل الفوز بالأفراح الكبيرة ذات الدخل الوفير، وتستدين بدرية وتوشك أن تسجن لتوفير مبلغ الدية، وتدعي شامة حبها لدايل وتدفعه نحو الزواج منها للحصول على المهر الذي ستنقذ به حبيبها.

وهو أيضًا الخصم المباشر لدايل الذي يحاول مكافحة سيرته وذكرياته وحبه الكامن في قلب شامة رغم إنكارها المستميت، ويدفعه اكتشافه لسر شامة إلى قبول المهنة التي يرفضها لينتقم منه وينفذ فيه حكم الإعدام بيديه.

مخرج واعد

كما ذكرنا آنفًا، يعد “حد الطار” بطاقة تعريف مخرجه عبد العزيز الشلاحي إلى عالم السينما، رغم كونه فيلمه الثاني، فهو دليل على أننا أمام مخرج ذو رؤية يمتلك لغة سينمائية جيدة يستطيع التعبير عن مضامين حكايته من خلال سرد بصري سلس ومحكم دون فجاجة أو إقحام، بدايةً من طريقته في تحديد الزمن الذي تدور فيه الأحداث من خلال لوحة إعلانية على الطريق لسيارة موديل عام 2000، ثم تصويره للحارة الفقيرة وأزقتها وشكل الحياة في بيوتها من الداخل والتي تبدو طبيعية تمامًا ومعبرة عن واقع الطبقة التي تسكنها.

أيضًا الطريقة التي قدم بها البطلين (شامة ودايل) لأول مرة معًا، من خلال تصويرهما من خلف السياج المعدني المثقوب الذي يسد شباك شامة، وكأن كل منهما سجين حياته التي يحاول الفرار منها، كما يمكننا اعتبار هذا السياج هو الحد الشفاف الذي يفصل بين عالميهما، يمكنهما من رؤية بعضهما ويتبادلان الأشياء من خلال ثقبه الضيق، لكنه أيضًا يمنع كلا منهما من النفاذ إلى عالم الآخر.

ويخبرنا أداء الممثلين الطبيعي والمتزن للشخصيات التي يؤدونها من خلال انفعالات موزونة دون الوقوع في فخ الافتعال الذي يصيب هذه النوعية من الموضوعات، أننا أمام مخرج قادر على إدارة ممثليه، ويمكنه توجيههم نحو أداء قوي ومؤثر دون الكثير من البكاء والصراخ، كما يمكننا نحن المشاهدين من التوحد مع مشاعرهم والتأثر بمعاناتهم.

Visited 2 times, 1 visit(s) today