“الزمّار”.. عن القهر والسؤال والوعي والتمرد

نور الشريف في "الزمار" نور الشريف في "الزمار"
Print Friendly, PDF & Email

هذا الفيلم هو العمل الوحيد الذي لم يعرض في دور السينما للمخرج عاطف الطيب، لم تكن المشكلة سياسية كما قد يتبادر الى الذهن، رغم مضمون الفيلم السياسي القوي، ولكنها مشكلة منتج الفيلم نبيل بلاّن، الذي تعثر ماديا، فأصبح فيلمه خارج دائرة العرض، وجزءا من النزاعات المادية.

لكن فيلم “الزمّار” (1985) يبقى رغم مرور السنوات من أهم أفلام عاطف الطيب، وهو عمل ضروري وأساسي في اكتشاف القضايا التي شغلته، فقدم تنويعات مختلفة حولها، وكأنه يطارد سؤالا يتفرع الى أسئلة، ثم يضع يده على بعض الإجابات، مما يجعل واقعيته عميقة، آنية وعابرة للأجيال في نفس الوقت، لأن أسباب الأزمات متكررة، ولأن مشاكل الظلم حاضرة في كل العصور.

 فيلم “الزمّار”، الذي كتب له السيناريو والحوار رفيق الصبان وعبد الرحيم منصور، استلهاما من مسرحية تنيسي ويليامز “هبوط أورفيوس”، يتعامل أيضا مع فكرة القهر والاستغلال، ويجعل من بطله، المسافر والمطارد، وسيلة للوعي والتنوير، وأملا للجميع في أن ينزاح “جبل الصبر” الذي تحمله مريم بطلة الحكاية، والذي يولد أيضا مع أبناء قرية العرابة في أسيوط، مكان الأحداث والمغامرة والمأساة التراجيدية.

الوعي هو بداية السؤال، وبداية التمرد والتغيير، رغم الثمن الفادح الذي يدفعه أبطال عاطف الطيب في مقابل هذا التمرد، الوعي هو بداية تحول حسن بطل “سواق الأوتوبيس” دفاعا عن والده المريض، ودفاعا عما تبقى من الماضي الجميل، متمثلا في ورشة النجارة، والوعي هو بداية تحول أحمد سبع الليل بطل “البريء” من الامتثال الى السؤال، وصولا الى الانفجار في مشهد النهاية، والوعي هو أيضا عنوان تحوّل المحامي بطل فيلم “ضد الحكومة”، حتى ينتقل من خانة المستفيد من كوارث الغلابة، الى خانة المدافع عن الغلابة، بل إن الوعي هو سبب تمرد جعفر الراوي في فيلم “قلب الليل”، مكررا تمرد أبيه المطرود من البيت الكبير، الوعي بحقهما في حرية الاختيار، حتى لو كان الاختيار خاطئا.

الرجل والسؤال

الوعي يبدأ في أفلام عاطف الطيب بسؤال يذكرنا بسؤال ونيس، بطل فيلم “المومياء”: “هل هذا عيشنا؟”، وبطل فيلم “الزمّار”، طالب الهندسة المعارض والمسجون الهارب بسبب مسرحية، لا يجعل الشخصيات تتساءل عن وضعها فحسب، ولكن حسن، واسمه يذكرنا باسم بطل “سوّاق الأوتوبيس”، هو نفسه سؤال، يقول واصفا نفسه، بأشعار عبد الرحيم منصور العظيمة: ” ماشي في رحلة الشقا والترحال/ كأني سؤال”.

وبينما تبدو الشخصية الأصلية في مسرحية “هبوط أورفيوس” مرتبطة بالأساس بتمردها الفردي، وبينما تحقق ما يشبه الفوضى في حياة البلدة الجنوبية التي يعيش فيها، أو على حد وصف ويليامز فإن بطله يصنع في المكان ما يصنعه ثعلب دخل الى حظيرة دجاجات، فإن صناع “الزمّار” أخذوا الشخصية والمسرحية بأكملها الى آفاق أوسع وأكبر بكثير

بطل ويليامز ليس بريئا تماما، وفي ماضيه ما يشين، ولكن حسن هو رمز النقاء والحلم والإيجابية، وهو لا يتمرد لصالح نفسه فقط، ولا يعمل لمصلحته أو لمشاعره الخاصة فحسب، وإنما يعتبر مشكلة ظلمه وسجنه، جزءا من حالة الظلم التي يعشها مجتمعه.

بطل “هبوط أورفيوس” قضيته الاختلاف والتمرد في حد ذاتهما، ولكن بطل “الزمّار” قضيته العدل والوعي، بطل ويليامز يبدو كما لو كانت معركته الفوز بقلب امرأة ، وانتزاعها من زوجها المريض، بينما ل اتنشأ علاقة جنسية أصلا بين حسن ومريم، تعاطفه معها تعاطف إنساني، وانحيازه لها رغبة في رفع الظلم وجبل الصبر عن كتفها، وحسن لا يكف عن القيام بهذا الدور معها أو مع غيرها، سواء عندما كان طالبا في القاهرة، أو عندما وقف مع العمال، ودفعهم الى تأسيس نقابة في أسيوط، أو عندما بدأ في توعية عمال الفنطاس في العرابة بعملية استغلالهم، وبقيام أهل السلطة والثروة بسرقة المشروع.

حسن ثائر على الظلم، ولذلك يجد قضيته في كل مكان، وأشعاره تأخذ الحكاية الى منطقة جديدة، وتمنح قضيته خلود الفن والتعبير، والجملة اللحنية الشجية التي وضعها بليغ حمدي، والتي يعزفها حسن بمزماره، تبدو كما لو كانت خلاصة الشكوى المصرية عبر العصور.

نحن إذن أمام ثائر وفنان ساحر ومتمرد على ظروفه، تماما مثل أورفيوس في الأسطورة الإغريقية القديمة، كان أورفيوس أيضا شاعرا وعازفا ساحرا للموسيقى، وكان متمردا على قدره، الذي أخذ منه حبيبته الى عالم الأموات السفلي، لم يستسلم أورفيوس، وذهب الى هذا العالم الأسود، واستطاع بعزفه أن يحصل على إعجاب الألهة، فسمحوا له أن يعود بحبيبه، بشرط ألا ينظر إلى الخلف ليراها، ولأنه أراد أن يتأكد من وجودها، نظر خلفه فشاهدها لآخر مرة، اختفت ففقدها من جديد، وعاش حزينا، لا يريد أن يعرف امرأة أخرى.

ولكن حسن، الذي يمتلك سحر أورفيوس، شعرا وعزفا وتمردا وإيجابية، لا يقاتل من أجل نفسه فقط، ولا من أجل حبيته مثلا، ولكن قضيته عامة، إنه عدو الظلم والقهر حيثما كانا، ورغم أنه أيضا يتسبب بدون قصد في مقتل مريم، عندما ينصحها بالعودة الى العرابة، حيث تقتلها رصاصات زوجها، إلا أنه يحاول إنقاذها، ويدفع الثمن من حياته بدون تردد، إنه بطل تراجيدي صريح، يعرف نهاية مغامرته، ويقبل بذلك، وهو من بداية العناوين يؤمن بوحدته، حيث نسمع صوت الكورال على العناوين وهو يردد: “وآه يابا عليا/ لا دار ولا مرسى ولا صبيّة”، ويقول حسن شعرا داخل الفيلم واصفا بدقة لحالته: “طويت بوادي ومزارع/ ياقطر عمري يا ضايع/ وقف الزمن جوّايا/ أنده ويرجع ندايا”، وهو يعرف أنه محكوم عليه بالسفر والترحال: “من مصغري لمكبري مسافر”، ويقول أيضا :”باسافر باسافر/ باهاجر باهاجر/ إمتى حتلقى المحطة/ وترسى ياحاجر”.

الوعي بالمصير

الوعي في “الزمار” ليس فقط توعية الناس بحقوقهم، ولكنه قبل كل ذلك وعي حسن بمصيره وبقدره وبدوره، قبوله بهذه المهمة معروفة النتائج، وعيه أيضا بهموم الناس، وبأن كلامه من كلام الناس، ووعيه بعشقه الكبير للأرض وللبشر، وحلمه بأن يصنع عطاء لا يزول للأرض، أو كما يقول:” واعشي طيرك قبل ما اتعشى”، ثم وعيه الأخير بالعدو وأفراده، أولئك الذين تربوا على خير الوطن، ولكنهم لا يترددون في ذبحه وقتله من أجل مصالحهم الشخصية، نسمع صوت حسن بعد قتله في ساحة العرابة وهو يقول :”بتعيشي وهم كبير/ حواليكي بيغنوا فوارس فوق ظهور الخيل /ومخبيين السناكي في جراب القلب/ ومخبيين الغناوي في جراب الليل/ جيتلك وانا ماشي على كتفي حمل ثقيل/ لو كان جمل كان عضّ بنيابه الخزام”.

لم تعد الأسطورة في استعادة الحبيبة من الموت، وإنما في استعادة العدل والوعي، وفي مقاومة الظلم بكل مستوياته: ظلم مريم القديم، التي أحرقوا والدها، وأجبروها على حياة كالموت مع رجل عجوز مريض، ومع شقيقته العانس، وظلم دولت التي يقهرها شقيقها حفني، دون أن يراعي ظروفها النفسية السيئة، بعد أن فقدت زوجها وابنتها في حادث سيارة، وقهر العمال بمنحهم أجورا أقل في مشروع الفنطاس، وبسرقة أموال المشروع نفسه، سواء بحصول علام بك رجل الحزب و السلطة على ثمن كبير من أجل توفير أرض للمشروع، أو باسناد المقاولة ل حفني رجل الثروة، وتاجر البصل، الذي أصبح مقاولا بقدرة قادر، رغم أنه لا يعرف شيئا عن المعمار.

مقاومة الفساد والظلم تبدو فعلا محاولة أسطورية، ومريم ليست عشيقة ل حسن، ولكنها تجسيد للظلم الأبدي، وتلخص بجلبابها الأسود، وبعينيها الحزينتين تاريخا طويلا من القهر، وإسناد دورها للممثلة الكبيرة محسنة توفيق، التي اشتهرت بشخصية بهية رمز الوطن، يجعل من مريم أيقونة للصبر وللأسى، ويذكرنا بحديث حسن في أشعاره عن السيدة الحزينة التي تدير الرحى، والتي قامت رغم ظروفها، بكساء أولادها بجلدها.

القهر في العرابة ليس فقط في أحوال الرجال، المتعلقين في “قشاية” كما يقول عبد الله ل حسن، والذين لا يتوقفون على الحلم، دون أن يحققوا حلما واحدا، ولكن القهر أيضا يطال النساء، وضع المرأة والبنات في الفيلم بائس حقا، البنات عار يجب التخلص منه، وإحدى الأمهات في الفيلم تتمنى لو أن السيارة قد قتلت طفلتها، ودولت تبدو شاذة لأنها تقود السيارة بمفردها الى أسيوط، وهي عار على أسرتها، وفقا لرأي حفني، مرتين: مرة لأنها مجنونة، ومرة لأنها امرأة.

يهبط حسن الى قرية يتركها الشباب للعمل في الخارج، شيخ بلدها رضوان متواطيء ومتورط في مشروع الفنطاس، يسقون المياه، ويسرقون الناس، وشيخ خفرائها مجرم، وممثلها السياسي في الحزب لص، وحفني كبير تجارها قاتل ومجرم.

هناك بعض الطيبين مثل عنايات زوجة شيخ البلد، ومريم الصابرة الأبدية، وعبد الله العاشق الصامت ل دولت، ولكن حسن يرى أن الخير المنفرد، لا يمكن أن يهزم الشر المتواطيء والمتجمع، يتحدث عبد الله عن كيفية تحويل الموجة الصغيرة الى شلال، ويتحدث حسن عن رفض الصمت على الخطأ، لو وقف الناس معا أمام الظلم، لما صار الظلم تنينا له ألف ذراع، ولهرب الكلاب، ولتوقفوا عن نهش كل ما تصل إليه أنيابهم.

صرخة جديدة

“الزمار” إذن صرخة جديدة ضد “أولاد الكلب” كما في فيلم “سواق الأوتوبيس”، وحسن باسمه المشترك بين الفيلمين، وبأداء نور الشريف في العملين، يخوض الحرب بتجميع الطيبين في جبهة واحدة، يحاول دون اعتبار للنتائج، ويدفع الثمن حتى النهاية، ولكنه يترك ذاكرة رفض، وبذرة تمرد، وصفعة على وجه الفساد والمفسدين.

يسبق الموت الى والد حسن في “سواق الأوتوبيس”، ويسبق الرصاص الى حسن ومريم في “الزمار”، ولكن يظل المزمار نفسه، صوت الصبر والمأساة، يحمله عبد الله في مشهد النهاية، ربما سيعزف عليه هو أيضا، وربما سيستخدمه في إيقاظ النائمين والممتثلين لحياتهم البائسة، سيعود الناي للظهور في فيلم آخر ل عاطف الطيب هو “البريء” من تأليف وحيد حامد، سيُقتل سبع الليل صاحب المزمار مثلما قُتل حسن، وسيبقى المزمار ليقول ويحكي عن المأساة.

يحارب “المزمار” القبح بالشعر، وبالفعل، وبالموسيقى، وبالتحريض، يوّصّف المشكلة بامتياز، قهر وخضوع وخوف، ويحدد المواجهة من خلال الناس ووحدتهم، لكن الصراع شرس، والمعركة صعبة، وقطع عاطف الطيب المونتيرة نادية شكري من فوهة بندقية الى فوهة بندقية أخرى، وكثرة الرصاصات التي قتلت حسن، كل ذلك يؤكد أن الأعداء كثيرون، وأن الثمن ضخم وفادح، نهاية مؤرقة لا تثير الإحباط، بقدر ما تثير الغضب، لا مفر من المعركة والمواجهة، هما قدر جديد مثل قدرنا البائس بأن يتحول الفرسان الذين يغنون فوق ضهر الخيل، الى لصوص وقتلة، بدافع الطمع، فيحملون السناكي في جراب القلب، ويخبئون الغناوي في جراب الليل.

نجح عاطف الطيب في تقديم فيلم لا ينسى، باستخدام تنويعة مختلفة لنفس قضية العدل والوعي، المشاهد هنا أطول نسبيا مما اعتدنا في أفلامه، الحقيقة أن تقديم الشخصيات كان يمكن أن يكون أكثر تكثيفا وإحكاما مما رأينا، خاصة في المشاهد الأولى للفيلم، كان الفيلم حائرا لوقت غير قصير بين حسن ومريم ودولت كأبطال للفيلم، وظلت دولت بعيدة عن خط حسن ودولت لوقت كبير، وتكررت مشاهد معاناتها مع أخيها، أو لجوئها للزار أو لمقام الولي، حسن هو بطل الحكاية بلا جدال، ولذلك كان يجب دفعه للمقدمة، وخصوصا أنه هو الذي سيشعل الصراع والتمرد، كما ن قصة هروبه والبحث عنه، كانت يمكن أن تحقق صراعا إضافيا على مدار الفيلم بأكمله.

هناك مشكلة أخرى واضحة وهي علاقة حسن المتنافرة مع الشخصيات النسائية من نبوية ومريم (في البداية) الى دولت، وهي زوجة الضابط الذي كان يبحث عنه، وتعاطفه مع مريم ليس حبا، كل ذلك جعل العلاقات بين الشخصيات واهية الى حد كبير، ولكن صراع حسن في مواجهة حفني والبهوات أنقذ الموقف، وأعاد الصراع الى قوته، بالذات في مشاهد الفيلم الأخيرة.

أشعار وحوار عبد الرحيم منصور، الذي أهدي الفيلم الى روحه، من أبرز نقاط قوة الفيلم، هناك مستوى واقعي للهجة الصعيدية، ومستوى آخر شاعري يجعل من بعض المونولوجات عدودة شجية، والمكان في الفيلم، كما في أفلام عاطف الطيب عموما، ليس مجرد خلفية للأحداث، ولكن كائن حي، وعنصر أساسي في التعبير، الفقر يتمشى فى طرقات القرية الفقيرة والضيقة، والبيوت تذكرنا بالمقابر التى تزورها مريم مع حسن، وديكورات رشدي حامد على نفس الموجة، حجرة جابر زوج مريم تبدو أيضا كالسجن بقضبان سيريها العالي، وموسيقى بليغ حمدي تصنع معادلا موسيقيا مدهشا للحكاية: جملة تنوح وتبكي، ودقات طبول تحذر وتنذر، ووقع العصا على الطبلة يصاحب حضور بهوات الفنطاس، نغمة من خارج المكان، تذكرنا بمارش الجنود.

أداء الممثلين أيضا كان ممتازا: نور الشريف في هدوئه وبساطته، لا يرتفع صوته إلا في مع لحظات ثورته على الظلم، ثائر ولكنه شاعر حالم، لا يمكنه أن يسكت على ما يراه أبدا، نظراته طيبة، وحركته ناعمة مثل نسمة الصباح.

 ومحسنة توفيق في أحد أفضل أدوارها السينمائية، تعبير وجهها، وهيئتها، ولغة جسدها، كل ذلك جعلها مثل بطلة لإحدى التراجيديات الإغريقية، تبدو أحيانا وكأنها تصرخ بدون صوت، مشهد جمعها للمبات الفرح مع حسن مشهد بديع، حتى المسرات البسيطة تفسدها الغربان على الغلابة، جمال مريم وبساطتها متنافر تماما مع تعبيرات توفيق الدقن الحادة، وصوته العليل، ونظراته المخيفة.

اجتهدت بوسي كثيرا في أداء دورها الغريب، وأن ظلت مشكلتها في بعض المبالغة الحركية، وفي ضياع مخارج الحروف، خاصة عند الثورة والإنفعال، نعيمة الصغير لها حضورها الكبير في أدوار النساء القويات، وأحمد بدير مناسب تماما لشخصية البك الإنتهازي، ترك بصمة رغم قصر الدور.

دور صلاح السعدني كان في حاجة الى مشاهد إضافية تشرح علاقة حبه ل دولت، وتجعله محفزا للصراع ضد البهوات، الدور أضعف مما يجب، ولذلك جاء أداء السعدني فاترا، بعكس أداء وحيد عزت الذي قدم أفضل أدواره السينمائية تقريبا، دور حفني منحه فرصة كبيرة، وكان عزت ممتازا في تجسيد الخشونة والشراسة وسوء الخلق، إنه عنوان الزمن الجديد بكل جدارة.

صورة محمود عبد السميع، صاحب الخبرة الكبيرة في مجال السينما التسجيلية، منحت الحكاية مظهرها الواقعي، بنفس الدرجة التي منحت بها الأشعار أجواءها الملائمة، لم يرد الطيب أن تكون الأشعار موازية للنص، ولكن أراد أن تخرج من المكان ومن الصورة، الشخصيات في مشاهد كثيرة يحاصرها الظلام، وتحاول أن تضع وجوهها في قليل من النور، بالذات في مشاهد مريم وحسن الليلية.

“الزمّار” حكاية لا تموت، البطل حسن هو أيضا ممثل جيل عاطف الطيب، تماما مثل حسن بطل “سواق الأوتوبيس”، جيل لم يكف عن الحرب دفاعا عن البلد في الخارج والداخل، وجيل تقبل دفع ثمن تلك المواجهة، الزمّار اتهموه بأنه يريد خراب البلد، أغلقوا مسرحيته فاعتقلوه، ولكنه نقل مسرحيته الى قلب الواقع بعد هروبه، مقتله جعله أسطورة شعرا وواقعا، ولذلك نسمع صوته وشعره حتى بعد موته.

ما بين صرخة هروب من القلعة في البداية، ولحظة موت في ساحة العرابة، يبدو لي أن الزمار هو الطيب نفسه، الذي قاوم بالسينما، مثلما قاوم حسن بالمسرح والشعر.

 الطيب الذي عانى وكافح، ولكنه لم يتوقف عن الشهادة والإدانة والتحذير، والذي مات تاركا أفلامه/ مزاميره الخاصة، التي تذكرنا دوما بأصل الداء، وسر المأساة، وبأسئلة القهر والوعي والتمرد.

Visited 103 times, 1 visit(s) today