“ستاشر”.. فنٌّ ومعنى ومُصادمة مُجتمعيَّة

Print Friendly, PDF & Email

فيلم “سِتَّاشَر” أيْ ستة عشر هو فيلم مصريّ قصير للمُخرج “سامح علاء”، استطاع أنْ يُحرز -من ضمن جوائز أخرى فنيَّة وتجاريَّة- جائزة “السعفة الذهبيَّة” من “مهرجان كان السينمائيّ” الفرنسيّ. وهو إنجاز يحدث للمرة الأولى في تاريخ السينما المصريَّة. وإذا علمنا أنَّ عدد الدقائق الفيلميَّة -دون شارتَيْ البداية والنهاية- اثنتا عشرة دقيقةً سألنا: ماذا قدَّم الفيلم في هذا الحيِّز ليحصد الجائزة؟

فيلم “ستاشر” يحكي قصَّة فتى عُمره ستة عشر عامًا في قصَّة حبّ مُراهقة -كعادة هذه المرحلة العُمريَّة- مع فتاة. ولأنَّ الأفلام الفنيَّة لا تفسد بالكشف عن أحداثها -فهذه النوعيَّة لا تعتمد على الأحداث اعتماد الرُّكن الركين، بل تكون الأحداث سندًا لتدفُّق المعاني ووسائطها المرئيَّة والمسموعة والتشكيليَّة- فلنسمح لأنفسنا بحكاية البعض منها.

نسمع صوت الفتاة مُسجَّلاً في رسالة إلكترونيَّة، ثمَّ نرى الفتى (سيف حميدة) وهو واقف في حمَّام بيته وفي يده الهاتف. الفتاة تضعنا في قلب الموقف المعنوي عندما تخبرنا أنَّها حبيسة البيت منذ شهرَيْن لتشير أنَّه عقاب على اكتشاف أهلها لهذه العلاقة المُراهقة. وأنَّها تحب الفتى، وأنَّها سرقت هاتف أمِّها لتسجِّل له هذه الرسالة، ثمَّ تداعبه في سؤال عن طريقة هروبهما معًا -وهذه الأطُر كلها معروفة في أحاديث المراهقة-. هذا هو الموقف التأسيسيّ في دراما العمل.

ثمَّ يفكِّر الفتى في طريقة يصل بها إلى فتاته في قلب بيتها، فيستقرّ رأيه على أنْ يرتدي نقاب أمِّه ويلتحف السواد كلِّيَّةً كي لا يكشف أمره أحد. ويرتحل في طريقه حتى يصل إلى البيت؛ فيجد صراخًا وتجمُّعًا. ويدخل ليجد نسوةً كُثُرًا تُهمهِمُ إحداهن للأخرى بأنَّ الفتاة قد انتحرت بحبوب دوائيَّة. ويجلس الفتى في زيّ النسوة بينهنَّ، وفجأةً تنبِّه إحدى الحاضرات مَن تريد إلقاء نظرة الوداع قبل وصول عرب الجُثمان يحاول الفتى أنْ يقف في ذهوله المسيطر عليه، ويستجمع شجاعته ليدخل ويقف أمام الفتاة المُسجَّاة في البياض على السرير. ويجلس جانبها ويحاول التمعن في وجهها كيْ لا ينساه. وتدخل عليه مَن تصرفه عن الغرفة، فيرجع في حسرة تائهًا.

هذا هو التوالي الحدَثِيّ للفيلم. لكنْ إذا تأمَّلنا لماذا هو فيلم جيِّد فنيًّا؟ فيمكن -من بين مناهج وطُرُق أخرى- التركيز باختصار على ظهيرَيْن: ظهير الصورة أو التجربة المرئيَّة، وظهير الصوت أو التجربة السمعيَّة. أمَّا عن التجربة المرئيَّة فهي أشدّ ما في الفيلم ثراءً، فقد اختار المخرج أنْ يترك للصورة دقائق الفيلم كاملةً إلا كلمات أو همهمات تخرج فقط لسدّ ثغرة لا تسدُّها الصورة إلا بتغيير منهجيّ كامل.

أبرز ما اعتمد عليه المخرج هو الارتكاز على الجانب الجماليّ الثابت في صورة الفيلم. نشهد هذا في عدَّة مشاهد رئيسيَّة تتوقف فيها الكاميرا عن الحركة أو تتحرك بصورة وئيدة جدًّا لمعنى إضافيّ. فنرى في المشهد الافتتاحيّ الفتى من صورة ثابتة ومن منظور جانبيّ وهو يقف في حمَّام بيته أمام المرآة التي لا ينظر فيها، بل يسبح مع صوت الفتاة الذي يسرَّب إليه من الهاتف، مُستغرقًا مع مأساته -من منظوره أقصد- الشخصيَّة بين الحُبّ والبُعد، والتحديَّات والانكسارات. ومن هُنا تأتينا قيمة التصوير الثابت ووجهة النظر في زاوية الرؤية الجانبيَّة. كما أنَّه بهذا يعبِّر عن أزمته -من منظوره أيضًا- عندما تدخل أمُّه عليه الحمَّام و”تهتنك” خصوصيَّته دون سابق إعلام أو استئذان. أمام هذا الموقف الكاميرا لا تتحرَّك لنُشعر أكثر بشعور اليأس من التغيير الذي في نفس الفتى، وكذلك اعتياديَّة الموقف الذي لا تتحرَّك فيه الكاميرا لتُدركه أصلاً، وابتداءً وانتهاءً لغرض التركيز على الفتى وعُمق تجربته.

وفي مشهد آخر نجد استخدامًا للكاميرا الثابتة (مشهد كلُّه يشبه اللقطة التأسيسيَّة في المشاهد الاعتياديَّة) من زاوية بالغة الاتساع لنُشاهد من خلالها الفتى وهو يصعد ليجلب نقاب أمِّه المنشور على سطح المنزل. وهُنا لا نرى المنزل بل نرى ثلاثة أنماط من المنازل: منازل فيها أثر التراث وهي الأقدم في المشهد، ومنازل أخرى على الجانبَيْن طويلة شاهقة -مثل هذه العشوائيَّات التي ملأت مصر كلَّها- جامدة، ومنازل أخرى -والتي منها منزل الفتى- ليست هذه وليست تلك بل هي أقرب ما تكون إلى المقابر. وشبابيكها ذات السواد العميق -انتفاء الضوء فيها- بائن منها تُطابق عيون المدافن -عين المدفن هي الحيِّز الذي ينفذون منه إلى داخل المقبرة-. ثمَّ نرى الفتى يمشي على السطح ويجلب النقاب ويخرج كأنَّه شيء يتحرَّك -قد لا ينتبه إليه المشاهد حقًا-.

وفي مشهد آخر نجد استخدامًا للكاميرا الثابتة من منظور عُلويّ وهي تصوِّر الفتى صاعدًا سلم عمارة الفتاة. وهو يبلس لباس النساء ويجاهد في طريق دائريّ طويل دلالةً على مُقاومته ضدَّ التيار -بالتعبير الشائع-، ولعلَّه المشهد الأقرب للرمزيَّة. وفي مشهد آخر نشهد الاستخدام الثابت للكاميرا وهو حينما ينزل من الحافلة في نهاية اليوم والكاميرا تصوِّره من المنظور العينيّ -أيْ مُحاذاة العين محلّ التصوير- مع انحناءة بسيطة إلى فوق. في لقطتَيْن الأولى من ظهره والفتى ينزع عن رأسه النقاب، والأخرى من أمامه وهو يتحسَّر غاية الحسرة والألم والقهر ووراءه أنوار المدينة. هذه مجرَّد أمثلة وهناك كثير من المشاهد استخدم فيها الكاميرا الثابتة يضيق عنها المقام.

وفي الجانب الجماليّ الحَرَكِيّ للكاميرا يبرز مشهدانِ: الأوَّل أثناء إقدام الفتى على ارتداء النقاب حيث تبدأ الكاميرا ثابتةً مع مراقبة الفتى للبيت كي لا يراه أحد -وفي الحقيقة الممثِّل هُنا ينظر إلى المُشاهد بمُباشرة لا يراقب البيت- ثمَّ تبدأ الكاميرا تتحرَّك حركةً شديدة البُطئ وفي توازن جيِّد عندما يبدأ الفتى في ارتداء النقاب وإكماله، ثمَّ تتدرَّج حتى تُغلق المشهد على السواد العميق الذي في النقاب ومحلّ التصوير هو الرأس -وكلّ هذه معانٍ مصبوبة في صيغ فنيَّة بالقطع-.

المشهد الأخير في حَرَكيَّة الكاميرا هو مشهد نزول الفتى على السلَّم حيث تتابعه الكاميرا من ظهره هبوطًا حتى يتنحَّى جانبًا ليُفسح للعابرين حاملين النعش. ومتى خرج الفتى من البيت بدأت الكاميرا تُحاكي حركة جسده وتسارعها وتشنُّجها وهوجائيَّتها. وهُنا نسأل: ما الفائدة في الناحيتَيْن الثابتة والحركيَّة؟ فسنجد الجواب واضحًا أنَّ المُخرج اختار الكاميرا المتحرِّكة حينما أراد صناعة التعاطف مع الشخصيَّة والاقتراب منها، واختار الثابتة حينما أراد أنْ يعبِّر عن المعاني الخالصة.

أمَّا عن التجربة السمعيَّة فقد كان استخدامها مُتعدِّدًا: فأصوات المُحيط -وهي كلّ الأصوات المحيطة بالمشهد في تصوُّره المبدأيّ مثل أصوات العابرين ومُحرِّكات السيارات في الطريق- صاحبتنا طوال ثواني الفيلم -لا دقائقه- بل أصرَّ المخرج على إشراكها طوال الفيلم. أمَّا عن التجربة السمعيَّة الحواريَّة فالفيلم بلا حوار تقريبًا إلا من عدَّة جُمَل تقولها الفتاة لتُدخلنا في الموقف الفيلميّ التأسيسيّ، وإلا من جُملة قالها الفتى لأمِّه حين اقتحامها الحمَّام عليه، وإلا من نوع “الهَمهَمات” ويتأرجح بين فئتَيْ أصوات المُحيط والحوار على حسب استخدامه. وهنا نستطيع إدراجه في جانب الحوار عندما أعلمنا أنَّ الفتاة ماتت مُنتحرة.

وهنا يأتينا جزء من التجربة السمعيَّة المعنويَّة حيث نسمع هذه الآيات من سورة “مُحمَّد” من “القرآن الكريم”: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ). ملأتْ هذه الآيات مشهد العزاء -أو مشهدَي العزاء-. وقد قصد المخرج التركيز على الآية الكريمة رقم 11 التي تبدأ بـ”ذلك بأنَّ الله مَولَى” وقد كرَّرها خمس مرَّات على الأقل.

وهذا مقصود بالقطع فطريقة قراءة القارئ تُسمَّى “ترتيلاً” ويعرف المُسلمون أنَّ الترتيل لا تُكرَّر فيه الآية -على خلاف طريقة التجويد-. ومعنى هذا أنَّ المخرج قد قصد قصدًا أنْ يُسمعنا هذه الآية ليقول: أنا هُنا هذا هو مقصدي! والتغاضي عن هذا الأمر يعدُّ تقصيرًا في رؤية العمل، وإهدارًا لمعنى الصانع من صناعته.

بالعموم -ودون الدخول في تأويلات معنويَّة- ففيلم “ستاشر” فيلم جيِّد فنيًّا؛ ودليل جودته هو مناهج إيراده للمعاني التي يريدها على طريقة الفنّ. لكنَّه فيلم مُصادِم للمجتمع أيضًا، ولا ننسى أنَّ هذه المُصادمة المُجتمعيَّة -التي هي سمة للأفلام العربيَّة المُوجَّهة للجوائز العالميَّة- لها تأثير ضخم في إحراز هذه الجوائز -خاصَّةً إذا كان التصادُم مع الإسلام-. وليس القصد من ذلك أنَّ الفيلم مَعيب فنيًّا بل هو حقًّا يستحقُّ جائزته، لكنَّه المنظور الكُلِّيّ للرؤية. ففيلمنا فيه فنٌّ ومعنى ومُصادمة مُجتمعيَّة أيضًا لكنَّها أذكى من غيرها من تجارب مُستفزِّة حقًّا. وها هي دعوة لرؤية فيلم عربيّ يتحدث عن معنى حقيقيّ دون سياق المُصادمة الخانق الذي دفنَّا أنفسنا في جُحره، ولنرَ ساعتها جدارته بإحراز جوائز عالميَّة أكثر للسينما المصريَّة والعربيَّة.

Visited 20 times, 1 visit(s) today