“العنكبوت المقدس”: رعب الواقع وقسوة المقدس

Print Friendly, PDF & Email

أمير العمري- كان

هناك أوجه تشابه عديدة بين الفيلم الإيراني – السويدي “العنكبوت المقدس” Holly Spider والفيلم المصري- السويدي “ولد من الجنة” Bpy from Heaven. وقد استخدمت كلمتي “المصري” و”الإيراني” لتصنيف الفيلمين- رغم أنهما يعرضان تحت اسم السويد في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ75- وذلك التزاما بمفهومي الخاص بالانتماء الثقافي للفيلم: أصول مخرجه وموضوع الفيلم ومكان أحداثه ولغته.. إلخ

إذا كان الفيلم المصري يتناول موضوعا مصريا معاصرا يدور في مصر وينطق باللغة العربية وانتماء مخرجه “طارق صالح” الثقافي مصري رغم أنه ولد في السويد، فالفيلم الثاني هو للمخرج الدنماركي علي عباسي، من أصل إيراني، وتدور أحداثه في إيران، وجميع شخصياته إيرانية، تنطق باللغة الفارسية.

يجمع بين الفيلمين أيضا، خارج هذا التشابه الظاهري، أن كلا منهما يتناول موضوعا اجتماعيا- سياسيا يدور في قالب بوليسي مثير، وكلاهما يلمس، على نحو ما، المسألة الدينية والتطرف الديني حسب المفهوم السني (في الفيلم المصري) وحسب المفهوم الشيعي (في الفيلم الإيراني). ويجمع بين الفيلمين أن كلا المخرجين لم يستطع تصوير فيلمه في بلده الأصلي، بسبب حساسية الموضوع الذي يتناوله، وهو من المحظورات السياسية والدينية في كل من مصر وإيران، كما يجمع بينهما أنهما لن يعرضا في البلدين المعنيين لحساسية الموضوع الذي لا ترضى عنه السلطات في البلدين بطبيعة الحال. وبينما صور “ولد في الجنة” في اسطنبول وأماكن أخرى من تركيا بديلا عن القاهرة ومصر عموما، صور “العنكبوت المقدس” في عمان- الأردن بديلا عن مدينة مشهد الإيرانية، موقع الأحداث الأصلية.

أما الفيلم الإيراني (السويدي) الذي نحن بصدده هنا، فهو يتميز عن الفيلم المصري بأن جميع الممثلين الذين يقومون بالأدوار فيه من الإيرانيين، في حين أن الفيلم المصري يخلو من الممثلين المصريين، فيقوم بكل الأدوار الرئيسية فيه ممثلون من دول أخرى عربية. وبينما كان “ولد في الجنة” يقوم على سيناريو خيالي، يستند “العنكبوت المقدس” على قصة حقيقية وقعت فصولها بالفعل في مدينة مشهد، بين عامي 2000 و2001. وتعتبر أكثر المدن الإيرانية قداسة عند الشيعة ففيها مرقد (أو مشهد) الإمام علي بن موسى الرضا الذي يتردد اسمه كثيرا في الفيلم، فالشخصية الرئيسية تفعل كل ما تفعله بوحي من تعاليم الإمام الرضا- حسبما يتردد في الفيلم.

المخرج علي عباسي سبق أن أدهشنا بفيلمه السابق “الحد الفاصل” Border الذي كان من أفضل ما عرض في دورة مهرجان كان عام 2019. ولكن بينما كان “الحد الفاصل” عملا مغرقا في الخيال، يستخدم الموروث الشعبي أو الخيال الفولكلوري الاسكندنافي ويطوعه لخدمة موضوع يدور بين الواقع والخيال، يستخدم عباسي في فيلمه الجديد أسلوبا واقعيا صارما في سياق مثير وشيق، يتابع خلاله قصة القاتل المتسلسل (السفاح) الذي عهد إلى نفسه بمهمة تخليص المدينة “المقدسة” من العاهرات عن طريق استدراجهن وقتلهن، دون أن يخلو الفيلم رغم واقعيته، من لمسات سيريالية خاصة.

الشخصية الرئيسية لرجل تجاوز منتصف العمر يدعى “سعيد عزيزي” (مهدي باجستاني) هو المعادل الدرامي للفاعل الأصلي” سعيد هنائي” الذي قام بقتل 16 عاملة جنس من عاهرات الشوارع. هو عامل بناء، ورب أسرة مخلص لأسرته، محب لأولاده ولزوجته الجميلة “فاطمة”، وهو يخرج كل ليلة على دراجته النارية، يذرع شوارع المدينة، يبحث عن صيد جديد. ونحن نرى ثلاث حالات لبائعات الجنس، وكيف يقعن في قبضة الرجل، ونستطيع بوضوح أن نلمس الفقر المدقع الذي يدفعهن لبيع أجسادهن وتعريض أنفسهن لشتى أنواع المهانة. لكن الأخطر أنهن يقعن فريسة لهذا الوحش المستتر بالدين الذي يؤمن بأنه الله اختاره لهذه المهمة الجهادية المقدسة.

الصحف الإيرانية أطلقت عليه وقتها، “العنكبوت القاتل”، ولكن علي عباس المخرج الذي اشترك مع في كتابة السيناريو مع أفشين كمران بهرامي، اختار أن يطلق عليه “العنكبوت المقدس” لأنه لا يقتل بفعل اضطراب نفسي، بل بدافع الجهاد المقدس وتطهير المدينة المقدسة من العاهرات وتخليصها من الدنس. وهو يستند فيما يقوم به كما نرى في الفيلم، إلى فتاوى صادرة عن رجال الدين. لكن الأخطر أنه سيصبح بعد أن يقع في قبضة السلطات، بطلا شعبيا، تخرج حشود من الناس تطالب بإطلاق سراحه، فهو ينفذ إرادة الله. كما أنه معروف أيضا بأنه من أبطال الحرب الإيرانية- العراقية وبانتمائه لعائلة “استشهد” الكثير من أفرادها في الحرب. فهو إذن “بطل قومي” يعتقد انه يمتلك لدى النظام حصانة خاصة.

المدخل الأساسي إلى الموضوع هو شخصية “السيدة رحيمي” وهي صحفية تحقيقات تتمتع بشخصية قوية، تأتي من طهران لتغطية سلسلة الجرائم التي أثارت اهتمام الرأي العام، يساعدها عن بعد، زميلها مندوب الصحيفة التي تعمل لها في المدينة. ومن خلال هذه الشخصية يصور الفيلم كيف تهان المرأة في مجتمع ذكوري: يرفض مدير الفندق في البداية منحها غرفة لكونها غير متزوجة، ثم يوافق بعد أن تخبرهم بمهنتها الصحفية وما يمكنها أن تثيره، ثم تتعرض للتحرش من جانب ضابط الشرطة الذي يسخر من مهمتها، ولا يمد يد المساعدة لها، مما يجعلها تشك في أن هناك مؤامرة صمت مقصودة وراء هذا القاتل، وتقول لزميلها إن الشرطة لا تريد أن الإيقاع به، وهو ما سيكشف لنا الفيلم عنه مع تطور الأحداث لنصبح بالفعل على قناعة بأن هناك تضامنا خفيا مع “سعيد” كونه يقوم بتنظيف المدينة من العاهرات، فهو يستدرجهن الى شقته ويخنقهن باستخدام غطاء الرأس (الحجاب).

يتعمد عباسي تصوير مشاهد القتل مرات عدة، ولكن في كل مرة بطريقة مختلفة وأسلوب مختلف، تارة على سلم المنزل الذي يقيم فيه عندما تشك العاهرة الأولى التي يلتقطها “سمية” في نواياه فتحاول التراجع إلا أنه يعاجلها ويلقي بها على أرضية السلم القذرة ويضرب رأسها مرات عدة في الأرض قبل أن يخنقها، وتارة أخرى داخل شقته حيث يغري النساء بتدخين الأفيون الذي لا يقدمه لهن أبدا بل يعاجلهن وبكل قوة يقبض على رقابهن، وبعد القتل، يلف الجثة في الشادور الأسود ويحملها خلفه على الدراجة النارية ويلقي بالجثث في المكان نفسه في كل مرة، كما أنه يحرص بعد ارتاب جريمته، على الاتصال بمندوب الصحيفة ليطلعه على مكان الجثة الجديدة.

هناك تصوير للعري والجنس والعنف البالغ بكل تفاصيله كما لم نرى بالطبع من قبل في أي فيلم من الأفلام التي يسمح لها بالإنتاج في إيران، وكأن عباسي يتعمد أن يصفع بكل قوة، قواعد الرقابة الإيرانية، ويستخدم بجرأة ممثلات يكشفن عن أجسادهن، وينغمسن في مشاهد جنسية متعددة، مع الاستعانة بممثلات إيرانيات ممن يقمن خارج إيران بالطبع، على رأسهن جميعا الممثلة “زار أمير ابراهيمي” في دور الصحفية المستقلة، التي طردت من عملها في إحدى الصحف بسبب رفضها إقامة علاقة مع رئيس التحرير، كما تروي لضابط الشرطة الذي يحاول ابتزازها. وهي تزور عائلات بعض الضحايا ومن بينهم امرأة هي والدة واحدة منهن، تخبرها بأنها لمحت القاتل وأنه يستخدم دراجة نارية. ولا تجد الصحفية من وسيلة سوى التنكر في شخصية بائعة جنس، لكي يلتقطها الرجل ويكاد ينجح في خنقها لولا أنها تستخدم الحيلة وتفلت منه ثم ترشد إلى مكانه.

يسير الفيلم على مستويات عدة: أولا بائعات الجنس وحياتهن البائسة وهي صور مقتضبة إلى حد ما، ثم “سعيد العزيزي” الذي نراه أولا في عمله ثم في حياته مع أسرته، وكيف يعيش حياتين مثل دكتور جيكل ومستر هايد، زوجته لا تعلم شيئا عن جرائمه، وفي أحد المشاهد يكشف عن رغبة دفينة في مضاجعة جثة عاهرة قتلها عندما يرقد فوقها، يتشممها ويشعر بنوع من النشوة قبل أن يستفيق ويستغفر الله وهو يرتجف ثم ينهار في نوبة بكاء حادة. أما المفاجأة فهي تكمن قرب النهاية عندما نعرف أن هناك محاولة لتبرئة القاتل بدعوى أنه مضطرب نفسيا بفعل تجربته في الحرب مع العراق إلا أنه يتبرأ بنفسه من هذا الادعاء أمام المحكمة، معلنا أنه بكامل قواه العقلية وانه ارتكب كل ما ارتكبه، بدافع التطهير الديني وتنفيذ إرادة الله ووصايا الإمام الرضا، ولا يبدي المدم قط بل يؤكد أنه لو أطلق سراحه فسيكمل مهمته بقتل باقي المائتي عاهرة الموجودين في شوارع المدينة.

تصوير بديع في الحواري والأزقة والطرق الليلية المظلمة، وكاميرا ملتوية حينا، تهتز وهي تصعد الدرج أو تتابع الطريق من عيني الرجل وهو يقود دراجته النارية.. وبوجه عام يضفي التصوير على الفيلم طابعا يوحي بشبكة العنكبوت المتعددة الخيوط مع شريط صوت متميز يضفي على الصورة طابع الغموض والإثارة، مع دقات الطبول والإيقاعات السريعة، وأداء تمثيلي شديد التمكن والقوة من جانب طاقم الممثلين جميعا وعلى رأسهم الممثل الكبير مهدي باجستاني في دور سعيد.

نحن أمام عمل سينمائي متكامل، يطرح موضوعه في سلاسة ووضوح، متيحا مساحة كافية لكل أطراف الموضوع، مبتعدا بعض الشيء، مركزا بشكل أكبر على التحليل السياسي والاجتماعي. وهناك اهتمام خاص بتفاصيل الصورة، على نحو يذكرنا أحيانا ببعض لقطات من أفلام هيتشكوك: الرجل مثلا يتمكن أخيرا من قتل امرأة بدينة قوية قاومته كثيرا حتى أنها عضت يده وأصابتها بجرح سيلعب دورا في تحديد مصيره فيما بعد على يدي الصحفية. لكنه يتخيل أنها مازالت حية تضحك منه ساخرة كما كانت ضحكاتها تتردد في أرجاء المكان قبل أن يخنقها.. فيهرع إليها يركلها بقدمه في رأسها.. ليتأكد أنها ميتة. لكن فجأة تحضر زوجته بينما هو لم يتخلص بعد من الجثة بل قام فقط بلفها في السجادة ودسها تحت الكنبة:

ما الذي حدث؟

أبدا.. بعض تسرب المياه.. قمت بتجفيفه..

زوجته تغريه وتريه كيف أنها صففت شعرها تصفيفة جديدة مثيرة. يستجيب لها ويمارس معها الجنس على الأرض، وفجأة وهو في غمرة الاندماج، يلمح قدم القتيلة يبرز من لفافة السجادة!

الصحفية سوف تستغل الجرح الذي أصاب يده وتضغط عليه بحيث تتمكن من تخليص يده من حول عنقها ثم تتمكن أيضا من استعادة السكين وتهدده بها وتظل تصرخ وتستنجد والرجل يقف أمامها كالفأر المذعور.. لقد أصابته المقاومة العنيفة بالصدمة وجعلته يظهر على حقيقته: مجرد جرذ جبان يخشى الجيران ويستعطف الصحفية قائلا إنه رب أسرة وليده أبناء وزوجة.

يهتم عباسي كثيرا باختيار زوايا التصوير المنخفضة التي تجعل الرجل يبدو مهيمنا، واثقا ثقة أصحاب الرسائل في مهماتهم المقدسة، كما ينجح في مع مدير التصوير الدنماركي نديم كارلسن (هو نفسه مدير تصوير فيلم “الحد الفاصل”)، في خلق أجواء المدينة الإيرانية، فيختار بعض اللقطات لمساجدها الشهيرة في افتتاحية الفيلم، صورت غالبا على سبيل الترويج السياحي، ثم يتعاون مع فريق تصميم الإنتاج في إعادة تشكيل ملامح الأماكن التي استخدمت في التصوير الخارجي في عمان بحيث تمنح الفيلم طابع الأصالة. هناك مثلا اللقطة العامة الطويلة البارعة (الليلية) التي نراها بعد التخلص من الضحية الأولى في منطقة جبلية نائية، ثم تتطلع الكاميرا من أعلى الجبل إلى المدينة عبر الأفق وهي تتلالأ في الأضواء، تطوي في ضجيجها وأضوائها، الرعب والجريمة.

ولعل من أكثر مشاهد الفيلم إثارة للفزع، رغم ابتعاده عن القتل المباشر، المشهد الأخير حينما تقوم الصحفية بإجراء مقابلة مع “علي” ابن القتيل البالغ من العمر 12 عاما والذي يتحدث بسعادة وفخر عن أبيه وعن “بطولته” في قتل العاهرات، ويشرح للصحفية كيف كان والده يخنق ضحاياه، وكيف كان يتخلص من جثثهن فيطلب من شقيقته الصغيرة أن تتمدد على الأرض، ثم يهبط فوقها ويخنقها بيديه ثم يلف جسدها بالسجادة والفتاة مستجيبة تردد في خضوع أنا ميتة.. أنا ميتة!

صحيح أنها أقرب إلى لعبة، لكنها تعكس عقلية جيل سينشأ على العنف ضد المرأة بوجه خاص، وهي الرسالة الواضحة في الفيلم.


 [Amir Emar1]

Visited 12 times, 1 visit(s) today