فيلم ” البحر من ورائكم ” أو الخروج عن الإجماع السينمائي

Print Friendly, PDF & Email

حركة التجديد والثورة علي القديم في الحياة الفنية والثقافية العربية، اتخذت شكلها الواضح المستند على كتابات نقدية وقراءات فكرية واعية نهاية سنوات الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي ، تمرد على التقاليد التي هيمنت على المجتمعات العربية وحولته إلى تابوت واسع من العادات والممارسات المتكررة الجامدة التي عطلت الفكر والحواس وحركية الجهد والإجتهاد، هكذا وجدنا مفكرين ونقاد ومنظرين  يهدون المفاهيم ويسفهون الأفكار البالية البائتة المنتصرة لكل ما هوقديم، رافعين لواء الثورات الفكرية  والأدبية والفنية، خاطين مفاهيم نقدية ساهمت في إرساء حركات جديدة متمردة على القوالب الجاهزة والهندسات السطحية للأعمال الإبداعية.

ثورات ساهمت في خلخلة القناعات الإبداعية العربية وواكبتها ثورات في الفنون البصرية، من بينها الفن السابع، حيث وجدنا العديد من التجارب السينمائية العربية تحاول النهل من القواميس الحداثية وتتبع خطى بعض المخرجين والحركات الطليعية عبر العالم، حركات قلبت مفهوم السينما الكلاسيكية وتمردت على الوفاء للخطية السردية والتصوير الواهم بأنه تصوير وفي للواقع.

السينما المغربية وعلى الرغم من تاريخها الذي تجاوز النصف قرن وانجازاتها الكمية والكيفية التي أثارت الانتباه خلال السنوات الأخيرة، ظلت (عكس السينما المصرية أوالسينمات اللبنانية والسورية والعراقية) حبيسة جدران فهم واحد موحد لصناعة الفيلم، صناعة تتغيا أولا وأخيرا الإخلاص للواقع والحفاظ على تسلسل الأحداث ودغدغة الجمهور بأعمال تراهن على شباك التذاكر، شباك غير موجود أصلا بإنقراض ، بشكل متواتر، القاعات السينمائية وتراجع عدد الوافدين عليها عبر مختلف المدن الوطنية .

محاولات تجديد

واقع سينمائي لم تخرقه إلا محاولات معدودة محسوبة على رؤوس الأصابع نذكر منها: محاولات المخرج الرائد مصطفى الدرقاوي بأفلامه التي وصمت دائما بأنها أفلام مقلوبة، أفلام غامضة غير مفهومة، إلى جانب محمد أبوالوقار وفيلمه ” حادة ” والتريكي التجاني وشريطه ” إمير “، اللذين زاوجا في فيلميهما الخطاب السينمائي والتعبير التشكيلي بشكل غير مسبوق (الرجلين معا من أعلام الفن التشكيلي في المغرب، ومجنون السينما المغربية نبيل لحلووأشرطته البعيدة عن السائد والمألوف في الكتابة السينمائية المغربية.

مخرجون سلكوا، بشكل مبكر، درب الصعب الفني ولم يهتموا بالمواصفات الإبداعية المتعارف عليها في انجاز الأفلام، وبالتالي كان لهم فضل السبق، إلا أن ما يعاب على أفلامهم، في عموميتها، أنها لم تكن أفلام موغلة في التجريب ومحافظة على تحقيق الأبعاد التقنية المرجوة والدخول في تفاصيل العمليات الجمالية المطلوبة، لأن الفيلم، أي فيلم، ليس هوفقط التفلسف بالكاميرا والخروج عن الإجماع الفني وكفى، ولكن تحقيق المتعة البصرية المرجوة، و النجاح في زرع الانسجام بين التقنيات الجديدة والرؤى المضبوطة والمعاني المشروخة المشتتة،  المراد التعبير عنها.

هشام العسري واحد من هؤلاء الذين ركبوا مغامرات الإختلاف الفني والتقني، اختلاف  جعله ينتسب   للتيار  (هذا إن حسبناه تيارا) المجدد للفعل السينمائي المغربي، على الرغم من صغر سنه وحداثة تجربته السينمائية مقارنة مع المخرجين المذكورين أعلاه، مخرج سطر منذ بداياته، مع عمليات صنع الأفلام، مفهوم خاص لسينماه وعوالمه الإبداعية، أي أن للصورة معنى أوسع وأعمق من المعاني المباشرة، فلغة الصورة المباشرة هي الإيضاح بينما الصورة السينمائية عنده هي الإشارة والإحالة على ما لا يرى وما لا يفكر فيه عادة، أي أن السينما التي يشتغل عليها تريد دائما قول ما لا يقال، وأن تبقى دائما ثورة على المباشرة الفجة والواقع المغيب في جل الأفلام ” الواقعية ” المغربية. لأن الإدعاء بتصوير الواقع هوخيانة لهذا الواقع ولجموع الناس الذين يحيون فيه.

المخرج هشام العسري

هشام عبر أفلامه الروائية الطويلة الثلاثة الأخيرة : ” النهاية ” و” هم الكلاب ” و” البحر من ورائكم ” (ننتظر خروج أفلامه ” جوع كلبك ” و” جاهلية ” و” الأقزام “، التي أنهى تصويرها ولم تنزل بعد للقاعات السينمائية)، أراد الكشف عن الحياة المغربية المعاصرة بشكل مختلف، عن التشققات الحاصلة في الرؤوس والنفوس، عن الولاء المهزوز لقيم ساكنة شاحبة، عن واقع لا وجود له إلا في سراب المناهج التعليمية والتفكيرية والتكفيرية المقولبة الساذجة، كل ذلك بلغة سينمائية متمردة متنافرة ومتباعدة عن جمهور بل ونقاد لا زالوا يحلمون بضرورة مشاهدة ما يهم الناس وما يبحثون عنه في خيالاتهم المريضة المأفونة بأفلام مهزوزة، تنتصر لكل شيء إلا للواقع.

في فيلم ” البحر من ورائكم “، التمرد والتنافر يأخذان أبعادا واضحة موغلة في التجريد والهلوسة المحاطة برؤية فنية واعية، تمرد واضح للمخرج على ” الواقع “، تمرد لا يوازيه إلا التنافر بينه وبين  الجمهور، تنافر ناتج عن  الإمعان في الغرابة، ” الجميل غريب دائما ” حسب تعبير بودلير، والغرابة هي الجدة. والجدة غالبا ما ترفض وتحارب بدون هوادة (لنا في التاريخ الإنساني آيات عديدة متعددة مع رجالات العلم والفكر والفلسفة الذين اضطهدوا أوحوربوا فقط لأنهم خرجوا عن الإجماع في مجتمعاتهم الخاملة). غرابة الفضاء والشخصيات وطريقة الحكي،  بل غرابة توطين الجماليات التقنية والفنية  من خلال تأطير يركب على تكسير كل ما هومتعارف عليه في دنيا الخلق السينمائي.

من عمل الشيطان

كادرات مقلوبة وأخرى مرتجفة تؤطر عالم شخص اسمه طارق، طارق الذي لم يفتح الأندلس ولم يحرق المراكب ولم يخلف خطبة عصماء بلغة عربية فصيحة هوالأمازيغي الذي لم يتعلم العربية إلا سنوات قليلة  قبل معركته الفاصلة مع الملك لوذريق وجيوشه الجرارة في شبه الجزيرة الإيبيرية. لكن المشترك بينهما أنهما معا يحبان الصعود على المنصة، طارق بن زياد يحب صعود منصة الخطابة والحماسة وطارق (شخصيتنا المكسورة) يهوى الصعود على منصة الرقص بملابس نسائية وماكياج فاقع على الوجه وشعر مستعار، الأب سيكتشف هواية الرقص، أوموهبة إطلاق العنان للجسد كي يعبر عن إحساساته الفنية، لدى الابن، فيمعن في تجذيرها واستغلالها، لكن العالم المحيط  لا يرحم ولا يريد أن يفهم أن الهواية هواية وأن الحرفة حرفة وأن البلاء بلاء، وأن الرقص ليس رجسا من عمل الشيطان أوممارسة خاصة بالنساء الفاسدات وأشباه الرجال الذين لا مكان لهم في مجتمع الرجولة والفحولة، مكانهم هناك، فوق العربات المجرورة الحاملة لهدايا الأعراس والمناسبات العائلية المفرحة أوفي الأقبية المظلمة للسجون الكافكاوية المرعبة، حيث يمعن حراس الأخلاق في إذلالهم والسخرية من حرفتهم وهواياتهم اللاأخلاقية.

مأساة طارق الكبرى، أنه يعيش في مكان آخر، مكان مختلف، بلد تقطع فيه أيادي اللصوص، عالم يعتبر فيه الإنسان حيوان والحيوان عدم، عالم وقعت فيه ظاهرة غريبة، تلوث الماء بفيروس، فيروس أصابت عدواه كل شيء، فحول الخير شرا والشر قاعدة ، والناس أصبحوا بدون ملامح أووجوه واضحة بالرغم مما يحملونه من أوراق تعريفية مغربية على ملابسهم المهلهلة المتسخة، ملابس تمزق في لحظات غضب وجنون وثورة. الصدمات تتوالى مستفزة العيون والمشاعر، حيوانية لا مثيل لها حيث يصبح ممارسة الجنس مع الحمير عاديا، وشرب النبيذ الممزوج بالتراب وشظايا الزجاج رغبة وأمنية وصفع المتحدث أوالمتحدثة هدفا وغاية.

 مع بداية الشريط، طارق يتعرض لعنف غير مفهوم، فيجلس نازفا في مقهى شبه فارغ، الدم الأسود النازف يتقاطر متساقطا من الوجه ليمتزج بفنجان الحليب، متخذا لونا أسودا فاقعا لا شبيه  له، لا في الوجود ولا في العدم، ثم يأتي الاعتقال بتهمة الانتماء للجموع البشرية الموصومة  أن لا رجولة لها (الرجولة هنا هي الذكورة وليست المواقف والإنجازات)، ليبدأ الاستنطاق والتعذيب بالكلام والتلميح الجارح. ورغم إنكاره للتهم الجاهزة والكليشيهات الظالمة، فإن الدلائل والقرائن تقف جميعها منتصبة أمامه ووراءه، لماذا يضع ماكياجا نسائيا ؟، لماذا  يرقص كإمرأة أمام الجموع الهائجة، فوق عربة يجرها العربي، العربي مجرد حصان (ربما هوالإنسان العربي في عالم اليوم)، توقف عن الركض والمساهمة في الجر،  فلم يعد لصاحبه (أب طارق) من وقت إلا نعي اللحظة الميتة والبكاء بين يدي المأساة وسحب طاقم الأسنان من فمه لمشط (بحنان)  ذوائب الحصان المقبل على الموت.

طارق لم يبحر باتجاه الضفة الأخرى هاربا،  ولم يركب سفنا محملة بالعدة والعتاد، ولم يقد جيشا في معركة، لهذا ظل حبيس ماضيه وحاضره وربما مستقبله، حبيس وطن لا يرحم ، حيث الآلة القمعية البوليسية تمارس هوايتها المفضلة بتعذيب الجسد، وقبل ذلك إدخال الروح والإحساس في آتون نيران الإهانة. وحده الشرطي الذي قتل أبناءه وتزوج بزوجته  عنوة، يتعاطف معه، لأنه يعرف أن طارق رجل، لكن لا يستطيع مساعدته، يكتفي بمواساته ومحاولة مسح دموعه، فعلى الرغم من جبروته وسطوته واضطهاده لعشاق البحر والخلاء، إلا أنه  مغلوب على أمره، يحس بالضعف والهوان وينهار كأي إنسان بسيط لا سلطة له، لنفهم مع تقدم الأحداث (إن كانت هناك أحداث) أنه ضحية لنظام قمعي أجوف، نظام يصنع آلات قاتلة على الرغم منها، آلات تحمل صليب آلامها وتتعذب أكثر من عذاب الضحايا.

غياب القتل

على الرغم من الكم البادي للعنف  في جل مشاهد الشريط، فإن القتل غائب (ربما لأن الشخصيات أصلا ميتة)، طارق لم يستطع قتل الشرطي الذي قتل أبناءه  واستولى على زوجته، حمل المسدس ووصوبه لكن الأصبع لم يستطع الضغط على الزناد. والأب أراد دفن الحصان بدل تقديمه لقمة سائغة لأسد حديقة الحيوان يتراجع غير قادر على فعل ذلك، لقد تراجع منهزما مستسلما، والشرطي الذي قتل أطفالا أبرياء، لا نراه يفعل ذلك، على الرغم من انه قتل يظل حاضرا بالكلام والترديد دون رؤية أومعاينة.

شخصيات وشخصيات عائشة متحركة لكنها ميتة في هذا الفضاء الملون بالأسود والأبيض، الذي لا يشبه الأبيض والأسود المعلوم المعروف، قساوة لا مثيل لها تتحكم في تصرفات الشخصيات، وضرب من تحت الحزام ومن فوقه بدون تردد أوتوقف،  زوج لم يستطع الدفاع عن زوجته وأبنائه ومع ذلك يرقص كالطير المذبوح تنفيذا لرغبة الأب في الربح والحياة، والأب حنون على الإبن، لكن حنوه على الحصان الأعجف (العربي) أعمق وأقوى واصدق.

خروج طارق في النهاية من الحجز واللجوء للبحر الهادر بأمواجه، البحر المتلون بألوان قزحية مفارقة لألوان العالم الراكد الذي تركه وراء ظهره، هل يمكن اعتباره كوة ضوء أوفجوة نور وأمل، أولنقل بشكل أوضح، تعبير عن مستقبل أفضل وأجمل ؟

هل إدارة الظهر للعالم واستقبال الماء بنظرات، نظرات لا نراها، معناها أن طارق المهزوم سيقتفي آثر طارق المنتصر ويعمل على فتح الأندلس ثانية ؟؟

أسئلة قد نجد لها أجوبة، لكن الأكيد أننا بلغنا نهاية الفيلم، مجرد فيلم ، فيلم عصي على التصنيف والتبويب ، فيلم بفضاءات سوريالية وعوالم غرائبية، قد يظنها الكثير من المتعالمين، عوالم مغربية سبعينية أوثمانينية، لكنها في العمق قد تكون عوالم من مراحل مغربية  تاريخية مستقبلية آتية.

أسئلة قد لا نجد لها أجوبة في خبايا معارفنا وأوهامنا الفانية، لكن يكفينا أننا استمتعنا بلحظات إبداعية استثنائية وبغموض مستفز، غموض سيقودنا حتما للبحث عن المعرفة، معرفة عبثية الحياة وتخلخل مفاهيمها  الواهية، وتداخل صورها وتقاطع رموزها وشخصياتها وتهدل وتهدم عوالمها المرئية واللامرئية مع مخرج أعلن انشقاقه عن الصور النمطية وعن أدوات التعبير وما يريد التعبير عنه، غارقا في لجة عوالم ” سوريالية ” مضمخة بالخارق والفارق الفائق. 

Visited 54 times, 1 visit(s) today