“كل الأماكن المضيئة”: الإنسان والأماكن وجهان لعملة واحدة
الفيلم الأمريكي “كل الأماكن المضيئة” “All Bright Places” كان في مقدمة الأفلام الجديدة التي طرحتها شبكة نتفلكس ضمن خطتها لعام 2020 والتي بالطبع تغيرت قليلا نتيجة تفشي وباء كورونا الذي أجبر معظم المشاهدين على الالتزام بالعزل المنزلي والذي بدوره تبعه اختلاف طفيف في نهج الشبكة التي نجحت في إنتاج عدد من أفضل الأفلام العام الماضي.
طرح فيلم “كل الأماكن المضيئة” على نتفلكس خلال فبراير الماضي الذي يعتبر مغامرة لاعتماده على بطلين من الشباب يخوضان البطولة المطلقة للمرة الأولى وهما إيلي فانينج وجاستن سميث، وقد يبدو للوهلة الأولى أنه عن رومانسية المراهقين لكنه يتجاوز هذا فهو أكثر من مجرد قصة حب بين شاب وفتاة في المرحلة المدرسية، بل تجربة تغوص في أعمق تفاصيل النفس البشرية، رحلة اكتشاف للذات وللمكان وللآخر.
يجد “فينش” أثناء ممارسة رياضة الركض زميلته في المدرسة “فيوليت” تقف على حافة الجسر مغلقة الأعين وكأنها في طريقها للانتحار فيقوم بتنبيها وانقاذها، ثم يشترك الثنائي في تقديم مشروع للمدرسة عن اكتشاف الأماكن الجديدة والملهمة في مدينة إنديانا قبل أن يتركها الطلاب والانتقال إلى الجامعات التي ستكون معظمها خارج المدينة.
في البداية ترفض فيوليت مشاركة فينش قبل العدول عن القرار تقبل المشاركة، رحلة يخوضها الثنائي معا في الظاهر لاكتشاف الأماكن لكن في الباطن كان الأمر مرحلة مهمة في حياتهما لتقرير المصير،فينش وجهة نظرته أن الأماكن مهما كانت بشاعتها لكن في نفس الوقت بها مواضع جميلة ومشرقة.
الفيلم مأخوذ عن رواية تحمل نفس العنوان لجينيفر نيفين وارتكز على سيناريو قوي صاغته الكاتبة “ليز حنا” التي قدمت العام الماضي فيلم “لقطة طويلة” الذي شارك في بطولته تشارليز ثيرون وسيث روجن، ويبدو أن ليز تجيد التعامل مع قصص الرومانسية التي لها جوانب نفسية فقد كان نفس الحال في فيلمها السابق لكن مع اختلاف المضمون والمرحلة العمرية للأبطال، وقدمت ليز عام 2017 فيلم “ذا بوست” الذي شارك في بطولته ميريل ستريب وتوم هانكس لكنه في المجمل متواضعا جدا.
في فيلمها الجديد “كل الأماكن المضيئة” قدمت حبكة قوية من خلال الربط المميز بين الفكرة الرئيسية أن الأماكن مهما كانت بشاعتها لكن بها جزء مشرق وبين النفس البشرية التي برغم كل السلبيات التي تحملها وتكون ظاهرة للغير لكنها أيضا بها جوانب مضيئة، فالأماكن والإنسان وجهان لعملة واحدة التعامل معهما لايجوز أن يكون بشكل مطلق فهو أمر عكس الطبيعة البشرية، فكلنا نحمل في داخلنا مقدرات الخير ونوازع الشر معا.
ليز أظهرت قدرة في رسم تفاصيل بطلي قصتها، فنجد فيوليت التي فقدت شقيقتها في حادث سيارة انعزلت عن العالم، لا ترغب في الابتسام، دائما حزينة، وفينش يعاني من قسوة والده في وقت سابق من حياته مما جعله يدخل في نوبات اكتئاب طويلة يختفي وقتها عن الأنظار، فالظاهر أمام البشر أن فيوليت فتاة كئيبة معقدة صعبة المراس، أما فينش فهو ملقب بالمسخ بين زملاءه في المدرسة، مع أن كليهما به صفات حميدة كثيرة لكن لا يرونها أو لا يريدون أن يكتشفوها.
برعت ليز في اختيار جمل حوارية قوية ومعبرة عن طبيعة شخصيتي فينش وفيوليت خصوصا أثناء رحلات الاستكشاف، خصوصا في المشهد البديع عند الجدار والتوقف عند جملة “قبل أن أموت” هو قال “أبقى مستيقظا” وهي كتبت “أتحلى بالشجاعة”، ثم الحديث الرومانسي الناعم عن الكلمة التي ستكتب عند القبر والتي قال فيها فينش “كنت هنا”، حتى عندما توسعت رحلاتهما عند النهر وفي الملاهي القديمة وأعلى نقطة في المدينة.
وضعت كاتبة السيناريو حبكتها في القالب التقليدي الذي ينتمي له الأفلام الرومانسية الأربعة أجزاء المعروفة (اللقاء – العلاقة – الهجر – العودة) لكن الأسلوب السردي لم يقع في الشكل التقليدي المتعارف عليه فقد كان مختلفا ومميزا خصوصا على مستوى تدرج العلاقة بين فينش وفيوليت.
المخرج برايت هالي تعامل مع الفيلم بنفس طريقة السيناريو الأربعة أجزاء في كل جزء قدم أسلوب مختلف بصريا ففي الفترة الأولى “اللقاء” كان اللقطات المتوسطة والعكسية التي تبادل فيها الثنائي الآراء بداية من التحفظ ثم تبادل وجهات النظر ثم الثقة المتبادلة.
في الجزء الثاني “العلاقة” أفرط كثيرا في استخدام طائرة الدرون لأنه كان الجزء الأكثر حيوية في السيناريو الذي اعتمد على اكتشاف جمال الأماكن، ثم الجزء الثالث “الهجر” اعتمد على اللقطات القصيرة خصوصا التي ارتكزت على الوجوه لإبراز المشاعر الداخلية للبطلين فلكل منهما أسباب مقنعة تجعله متمسك بالآخر ونفس الأسباب للبعد.
الجزء الرابع من الفيلم كان “العودة” التي لم تحدث بعد اختفاء فينش لكنها في الحقيقة كانت أكثر بالنسبة لفيوليت حيث العودة للحياة من جديد وترك الحزن، ولقيادة السيارات، تعود للأماكن التي اكتشفتها مع فينش من أهمها المكان الذي أخبرها عنه على الخريطة لتجده كنيسة قديمة أقيمت خصيصا لتخليد ذكرى ضحايا حوادث الطرق، وتجد إسم فينش في دفتر الزيارات بعبارة “كنت هنا” التي أراد أن تكتب على قبره.
أما مصير فينش فهو يمثل الدليل الأكبر على تناقضات الطبيعة البشرية، فكيف يمتلك تلك القوة التي جعلته يساعد صديقته للخروج من أزماتها، وفي نفس الوقت يحمل هذا القدر من الضعف، فقد هزم أمام نوبات الاكتئاب واللوم وعدم قبول الآخرين له، كيف كان طوق النجاة لفيوليت بينما هو نفسه غرق، إنها النفس البشرية الأكثر تعقيدا من مجرد مجموعة آراء من الآخرين.
الأداء التمثيلي كان من أهم العوامل الإيجابية لنجاح الفيلم خصوصا الصاعدة بقوة في سماء هوليوود “إيلي فاننج” في هذا الدور تبدو أكثر ثقة وتمكن من الشخصية بتقلباتها خلال مراحل الفيلم، فاننج موهبة أثقلت وتستعد لتكون إحدى نجمات الصف الأول الآن، أما “جاستن سميث” فقد قدم أفضل دور في مسيرته القليلة حتى الآن وسيفتح أمامه المجال لأدوار أكبر مستقبلا.