مسلسل ” ٣٠ يوم”..  تجسيد درامي لتفاهة الشر

Print Friendly, PDF & Email

د. ماهر عبد المحسن

يعد مسلسل “٣٠ يوم” واحدا من المسلسلات المهمة التي تتطلب من المشاهد اهتماما خاصا يتجاوز أحداثه البوليسية المثيرة، لأنه يحمل أفكارا عميقة تتماس مع الفلسفة وعلم النفس، كما يحتوي على مباراة رائعة في التمثيل بين آسر ياسين وباسل الخياط، الشخصيتين المحوريتين في المسلسل.

المسلسل من تأليف مصطفى جمال هاشم، وإخراج حسام علي، ومن بطولة آسر ياسين وباسل الخياط ووليد فواز ونجلاء بدر وإنجي المقدم. عُرض في شهر رمضان عام ٢٠١٧م، وتدور أحداثه حول الطبيب النفسي طارق حلمي (آسر ياسين) الذي يستقبل، في عيادته، توفيق المصري (باسل الخياط) الشخصية غريبة الأطوار الذي يقترح عليه تنفيذ تجربة مجنونة يضع فيها الدكتور طارق تحت ضغط نفسي لمدة ثلاثين يوما لمعرفة التحولات التي يمكن أن تطرأ عليه من جراء هذا الضغط.

الفكرة جديدة وخيالية، لكن أداء الممثلين أضفى على الأحداث ذات الغرابة الشديدة شيئا من الواقعية وقدرا من المعقولية ساعدا كثيرا على ربط المشاهد بالعمل وجعله في حالة مستمرة من الإثارة والترقب، خاصة في ظل الغموض الذي كان يحيط بشخصية توفيق المصري، المحرك الأول للأحداث، بل والمتحكم في إيقاعها اللاهث مثل مايسترو محترف يجيد إدارة فرقة موسيقية تعزف مقطوعة عالمية متباينة النغم. وبهذا المعنى، يمكننا القول إن السيناريو كان موفقا تماما عندما جعل من شخصية المصري الكاريزمية عازفا هاويا لموسيقى الجاز، بحيث تأتي مقطوعاته التي يعزفها أو التي يستمع إليها بالتوازي مع الأحداث الساخنة التي كان يخوضها الآخرون بعد أن يشعل هو فتيل البداية ويتركهم يتصرفون وفق خطة مسبقة مرسومة بدقة متناهية.

أهم ما يميز المسلسل الأداء والفكرة.

أداء الممثلين:

 إذا بدأنا بالأداء فيكفي أن نتحدث عن آسر ياسين وباسل الخياط بالرغم من أن كل الممثلين أجادوا في أدوارهم بغض النظر عن حجم الدور. لكن الصراع الحقيقي كان بين الطبيب النفسي والمريض الغامض صاحب فكرة التجربة المجنونة. وفي هذا السياق ليس من المفيد نقديا أن نحكم على الأداء من منظور المقارنة لنقرر أيهما أفضل، فكلاهما كان موفقا في سياق الشخصية التي كان يؤديها، غير أن المسألة تظل في حاجة إلى الاقتراب بنحو أكثر من ملامح الأداء التمثيلي لهاتين الشخصيتين.

طبيعة شخصية الطبيب النفسي المتزن نفسيا واجتماعيا ومهنيا حتمت على آسر ياسين أن يوزع انفعالاته على مدار الحلقات بحيث بدأ الأداء هادئا في الحلقة الأولى ثم أخذ في التصاعد مع ارتفاع وتيرة الأحداث حتي وصل إلى الذروة في الحلقات الأخيرة، وعلى العكس كانت شخصية توفيق المصري ذات انفعال واحد ثابت طوال الحلقات، لأنها كانت هي التي تدير الأحداث ومن ثم كانت تعرف من أين تبدأ وإلي أين ستنتهي. إن عنصر المفاجأة هو الذي كان يحرك طارق، وتوقع الكوارث اليومية التي كانت تقع فوق رأسه هو الذي كان يتطلب ردود أفعال متباينة بحيث تصب في النهاية لصالح التجربة أو اللعبة الخطرة التي أرسى قواعدها توفيق.

 والفنان الحقيقي هو، في نظرنا، ليس الذي يجيد الفعل فحسب وانما رد الفعل بنحو أكثر. إن المهمة التمثيلية الصعبة التي كان على آسر ياسين أن يحمل عبء أدائها إنما كانت قد تلخصت في مقولة توفيق التي كان يتردد صداها في بداية كل حلقة “أنا عايز اعمل تجربة نفسية.. إزاي  تقتل انسان ويفضل عايش”. لقد نجح آسر ياسين في التحدي عندما استطاع أن يجسد شخصية إنسان يحيا حياة آمنة ومستقرة، وفجأة يجد ماضيه المظلم وحياته السرية تنكشف فجأة ليجد نفسه مفضوحا أمام أقرب الناس إليه، ليس هذا فحسب، بل كان عليه، في النصف الثاني من الأحداث، أن يسابق الزمن حتي ينقذ أصدقاءه وذويه من الموت المحقق، الذي كان يلاحقهم كل يوم بحيث يحصد واحدا منهم في كل مرة قبل أن يصل طارق أو صديقه الضابط عبد الوهاب زهدي ( وليد فواز) بقليل!

ويزداد التحدي صعوبة عندما ندرك أن على طارق، كطبيب نفسي، أن يفسر الأحداث وكذا تصرفات الشخصيات التي تدور حوله بما فيها تصرفاته وشخصيته هو نفسه، وتتبدي الصعوبة في لحظات الانهيار الأخيرة التي يقرر فيها أن يحمل سلاحا ويشرع في ارتكاب جريمة قتل، ليس هذا فحسب، بل إنه يتخلى عن شخصيته كضحية بريئة ويتقمص شخصية الجلاد الشرير!

وعلى الجانب الآخر قدم باسل الخياط أداءً مميزا عندما لعب دور الشرير ببراعة، ونجح في تجسيد شخصية كاريزمية لا تخلو من غرابة، كونها تجمع بين مظاهر العقل والجنون، العنف والرومانسية. وهو أداء وضح فيه تأثر الخياط بشخصية الجوكر، الشرير الشهير في سلسلة أفلام البات مان، خاصة في ضحكته المميزة التي تسم أعماله الشريرة، وتضفي على وقائع التعذيب والقتل التي يقوم بها قدرا كبيرا من الاستفزاز لمشاعر الضحية والمشاهد على حد سواء.

إنها تلك الضحكة المجلجلة التي كان يتردد صداها في خلفية المشاهد بنحو يشي بقوة المجرم وثقته التي لا حدود لها فيما يقوم به من أفعال وما يرتكبه من آثام، خاصة أنه كان يتصرف كقاض يملك سلطة القصاص ويسعي إلى تحقيق العدالة في عالم شرير لم يعد يحفل بالضعفاء والأبرياء. وتنطلق فلسفة توفيق من قناعته بأن الشر لا يكمن داخل عقول الأشرار فحسب كما في حالة أصحاب طارق، وانما داخل هؤلاء الذين يدعون الفضيلة ويرسمون البراءة على وجوههم مثلما هو الحال في شخص طارق نفسه.

وعلى أساس من هذه الفلسفة نجح الخياط في حشد كل طاقاته التمثيلية من أجل تجسيد شخصية شريرة وجذابة في الوقت نفسه بحيث تنجح في الاستحواذ على إعجاب المشاهدين حتي في لحظات تعاطفهم مع الضحايا!. وفي هذا السياق، توزعت السمات العامة لشخصية توفيق الشريرة ما بين الأداء الحركي، الذي مزج فيه الخياط بين الحركة الطبيعة والحركة المسرحية إمعانا في السخرية من المواقف التي كان يجد نفسه فيها، وبين الأداء الصوتي الأجش متعدد النبرات، وكذا نظرات عينيه التي تعكس مكر الثعلب واحتيال الذئب.

ولعل الجانب الأبرز في شخصية توفيق هو البعد النفسي الداخلي، الذي حرص السيناريو علي إبرازه بحيث لا تأتي الشخصية مسطحة، خالية من الدوافع العميقة لفعل الشر. وتبدى ذلك بوضوح في اللحظات الأخيرة من المسلسل عندما تنتهي مهمة توفيق وتجربة طارق ويلتقيان في النهاية في معركة غير متكافئة بعد أن فقد كل منهما كل شيء عدا رغبة عمياء في الانتقام لدى طارق، وشعور متهافت بالانسحاق لا يتناسب مع جبروت توفيق، ولا يجد ما يبرره سوي شيء من نزوع إنساني نحو الراحة بعد طول عناء.

لم يكن توفيق، إذن، شريرا علي الأصالة لكنه كان يحترف الإجرام كمهنة يمارسها لقاء أجر من المال، وبجانب ذلك كان لديه شيء من الأخلاقية بحيث كان حريصا على أن يميز في ضحاياه بين الأشرار الحقيقيين الذين ارتكبوا جرائم يستحقون عليها القتل (أصحاب طارق وشركاؤه في المشروع)، وبين الطامعين في مكاسب دنيوية مشروعة ( أفراد عائلة طارق). وينقلنا ذلك إلى فكرة المسلسل.

فكرة المسلسل:

فكرة الشر قديمة قدم البشرية نفسها، وهي لها حضور قوي في الواقع والفن، غير أن المفارقة أنها في الفن لها حضور وجاذبية معا، وليس أدل على ذلك من الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها نجوم السينما الذين برعوا في أدوار الشر مثل محمود المليجي وعادل أدهم، ليس هذا فحسب بل إن بعض أشرار السينما كانوا يتمتعون بخفة الظل مثل استيفان روستي وتوفيق الدقن.

ولا جدال في أن الشر مكروه في الواقع ومحبب في الفن، ربما لأن المشاهد لا يصيبه أذى على الحقيقة وأنه يدرك تماما أن المسألة برمتها لا تعدو أن تكون تمثيلا، هذا بالرغم من الإيذاء النفسي الذي يصيب المتفرج أثناء المشاهدة من جراء تعاطفه مع نجومه الخيريين الذين يتوجه إليهم الشرير بشره.

وللشر حضور في الادب وفي الفلسفة بالقوة نفسها، وقد كتب الفلاسفة كثيرا عن مفهوم الشر في مباحتهم الأخلاقية حتى وصل التنظير في تطرفه إلى حد القول بضرورة الشر في العالم، مرة بحجة أنه يحرك الطاقات وينقذ البشرية من سباتها، ومرة بحجة أنه يحافظ علي التوازن الكوني الذي يتطلب وجود الشي ونقيضه، كما تبرر النظرة الدينية وجود الشر في العالم من منظور الابتلاء واعتباره مقياسا لدرجة الإيمان باختبار مدي القدرة على الصبر وتحمل المكاره.

غير أن الفيلسوفة الألمانية المعاصرة حنّه آرنت فاجأت العالم بكتابها ” إيخمان في القدس.. تقرير حول تفاهة الشر” الذي نُشر عام ١٩٦٣ وأثار جدلا كبيرا، وترجمته إلي العربية  نادرة السنوسي عام ٢٠١٤ م، وفيه قدمت آرنت مفهوما جديدا للشر، ألقت فيه الضوء على نمط من الشر لم يحظ بالاهتمام الكافي من قبل من فرط تفاهته وآثاره المنعدمة في الظاهر. وبالرغم من أن آرنت كانت تتحدث في سياق محاكمة النازي أدولف إيخمان Karl Adolf Eichmann على ما قام به من زجه لليهود في معسكرات الإبادة (الهولوكوست) بصورة لا تتضمن شرا متجذرا في ذاته بل لتفاهته وعاديته، إلا أن الفكرة يمكن أن تجد صدى لها في مواضع أخرى مشابه.

فقد عبّر يوسف إدريس عن المعنى نفسه في روايته القصيرة “العسكري الاسود”، وكذا حسين كمال في فيلم “إحنا بتوع الأوتوبيس”، وعاطف الطيب في “البريء”. ففكرة الجلاد الذي يمارس الشر كوظيفة، ويخلص في الأداء دون أن يشعر بالذنب، لأنه ينفذ أوامر عليا ويخضع لسلطة شريرة وغاشمة دون أن يعي حقيقة الدور الشرير الذي يلعبه، تجد تحققها في كل الأنظمة القمعية التي تمارس العنف ضد الأبرياء وتستخدم موظفيها كأدوات للقهر باعتبارهم تروس في آلة تعذيب كبيرة!

وتفسر آرنت هذا اللون التافه من الشر بأن “السلطة التوتاليتارية (الشمولية) تجعل مرتكبي الجريمة بإيعازها لا يشعرون بفظاعتها ومأساويتها، وإنما بأنها أمر عادي، وما القائم بهذه الجرائم إلا أداة لها، لا يعي مسؤوليته تجاه الإنسانية، بل تنفيذه لقرارات إدارية، وبطاعة عمياء”.(ص١٨)

وبهذا المعني يصل مصطفى جمال هاشم، مؤلف ٣٠ يوم، بالفكرة إلى حدودها القصوى بحيث يصير الفعل اليومي البسيط، غير المسؤول، سببا في إيذاء الآخرين بنحو مدمر. فالحلقة الأخيرة تحمل مفاجأة كبرى عندما يكشف الضابط عبد الوهاب لطارق أوراق اللعبة كلها لندرك أن سلسلة الجرائم جميعها، التي وقعت على مدار الثلاثين يوما، إنما كانت تنفيذا لخطة ثأرية من أجل الانتقام من طارق وأصحابه، لأنهم تسببوا في انتحار ضحية بريئة بعد أن قاموا بالتنمر عليها ومن ثم تدميرها نفسيا.

ربما لا يكون الدافع مقنعا، لكن يُحسب للمؤلف أنه جعل النهاية مفتوحة علي تفسيرات أخري عندما ألمح إلى أن المذكرات التي تركتها الضحية قبل انتحارها كانت من وحى خيالها المريض، وأن الذي عثر على المذكرات وقام بتنفيذ انتقامه إنما هو الجاني الحقيقي بمعاملته غير المسؤولة للضحية من ناحية، ولانتقامه الأعمى من ناحية أخري!

وبمصطلحات آرنت يمكننا أن نقول إن توفيق كان يلعب دورا شبيها بدور إيخمان عندما كان يتخذ من الشر مهنة ويقوم بتنفيذ أوامر أملتها عليه سلطة أخري دون وعي منه بحقيقة الموقف، غير أن السلطة هنا كان مصدرها الاتفاق الذي تم بينه وبين الضابط، وليس سلطة عليها تفرض كلمتها عليه دون إرادة منه.

وفي كل الأحوال، لا تفقد فكرة “تفاهة الشر” جدواها في المسلسل، لأن التفاصيل الصغيرة للأحداث تقوم عليها، فكل الشخصيات تقريبا تتسبب في إيذاء بعضها البعض دون أن تدري، لأنها تقوم بأفعال يومية معتادة لا يمكن أن توصف بالشر وإن أدت إليه بنحو غير مباشر. ويتبدى عمق الفكرة إذا ما طبقناها على الأشخاص غير الشريرة على الأصالة والتي تربطها علاقات طيبة بمن تتسبب في إيذائه دون قصد مثل عائلة طارق التي استخدمها توفيق، من خلال سيناريوهات محبوكة، كأداة ضغط على طارق حتي يعاني نفس عذابات الضحية، فيُقتل أو ينتحر أو يموت وهو على قيد الحياة!

وفي الأخير، ربما لا نستطيع أن نحاكم هؤلاء الذين يتسببون في إيذاء الآخرين، دون قصد، من خلال تصرفاتهم اليومية العادية، لكننا لا نستطيع، في الوقت نفسه، أن نعفيهم من المسؤولية وأن نطالبهم بقدر من الوعي تجاه ما هو إنساني. وربما كان هذا هو الدرس الذي يمكن أن نستخلصه من المسلسل في ضوء فلسفة حنّه آرنت التي مفادها: “إن التفاهة تكمن في استقالة العقل والضمير عن تحمل المسؤولية بوعي… وذلك ليس تسويغا لفعلتهم بل إدانة بصورة أخرى أشمل من اختزالهم بالحادثة وإنما في كينونتهم الإنسانية واستحالتهم إلى كائن لا معني له”.( ص ص١٨-١٩)

Visited 1 times, 1 visit(s) today