“ليلة الاثني عشر عاما”: النقر على جدران الألم

Print Friendly, PDF & Email

يقول المسرحي الروسي الشهير مايرخولد قبيل إعدامه:

“وجدت نفسي منفصماً إلى شخصين: الشخص الأول يحاول أن يعثر على أثر للجرائم التي يُتهم بها فلا يجد، والشخص الثاني يخترع الجرائم حين يعجز الشخص الأول عن اختراعها، وفي هذا المجال كان ضابط التحقيق يقدم لي عوناً لا يقدر بثمن حيث رحت، أنا و هو، نخترع معاً في عمل ثنائي ناجح، وهكذا حين كانت مخيلتي تعجز عن اختراع الجرائم كان المحققون يهرعون لنجدتي”.

فيلم “ليلة الاثني عشر عاماA twelve Year Night قصيدة بصرية شجية تأسر الوجدان، وتملك الحواس، وتطلق عصافير أصواتها في براح المشاعر الإنسانية الصادقة، فتأخذك المشاهد الصادمة والأطياف الدالة إلى أفق رحب من الشجن الذى ينتهي بانتصار الأمل.

تلك اللغة السينمائية البليغة التي صاغها المخرج الشاب ألفارو بريخنر (42 عاما) في قالب شاعري فريد في عذوبته صادق لدرجة النفوذ في القلب. تنطلق صرخة الفيلم من حنجرة مختنقة بالعذاب والوجع فتصل إليك عابرة حواجز الجغرافيا والثقافة واللغة.

ومن فرط الصدق في رسم مكابدة الإسان تصبح أنت سجينا أخر تتوق روحك لنسيم حرية متمردا على كل تنويعات القهر التي عانيت منها. وربما تمتد يدك وتفتح باب القفص لتحرر عصفورا سجينا في شرفة الجار المجاورة. يرجعنا نص الفيلم إلى أجواء أدب السجون وحكايات العائدين من الجحيم ونتذكر مخزون القراءة حول هذا الاتجاه الفني المؤلم بين النصوص الروائية والبصرية.

نتذكر بداية من الكسندر توماس ورائعته الكونت دي مونت كريستو وسيرفانتيس ( دون كيخوت) وأيضا من أهم الروايات العربية الحديثة التي رصدت وطأة القهر وضراوة التنكيل  والامتهان وراء القضبان رواية “السجينة” للمغربية مليكة أوفقير، ورواية “القوقعة” للسوري مصطفى خليفة، وروايات اخرى مثل “تلك العتمة الباهرة” لطاهر بن جلون، و”شرق المتوسط “لعبد الرحمن منيف وغيرها.

 حول هذا الاتجاه الأدبي تقول الناقدة البريطانية الشهيرة فيرجينيا وولف (1882 ـــ 1942) “رواية السجون تتجاوز النسق الروائي الكلاسيكي المألوف القائم أساساً على قانون السببية، والمتصالح أصلاً مع نمط العلاقات والمفاهيم الأخلاقية السائدة”، أي ببساطة ما يحدث خلف القضبان – في قطيعة مع أخلاقيات البشر وأعرافهم وضميرهم الإنساني أنها قوانين السادية والوحشية المتجردة من أبسط درجات الرحمة. هذا بدورة يجعل الصياغة الفنية دقيقة ومغايرة في رصد ما لا عين رأت ولا إذن سمعت وراء أسوار الجحيم، فلكل حكاية تجربة فريدة مع العذاب والقاسم المشترك هو الألم وامتهان الروح والجسد.

والجدير بذكره أن السينما المصرية صاغت في أكثر من فيلم ويلات الاعتقال السياسي والظلم والقهر كما في “إحنا بتوع الاتوبيس” لحسين كمال، و”وراء الشمس” لمحمد راضي، و”الكرنك” لعلى بدرخان، وغيرها من الأفلام التي تبارت في تصوير عذابات المعتقين والطرق البشعة للتنكيل بهم وتحويلهم لمسوخ بشرية تحمل بقايا الانسان.

ولعل من أهم ما يميز فيلم “ليلة الاثني عشر عاما” على مستوى الطرح، هو الأمل الذي يزرعه في قلب المشاهد، فنجد مصير ثلاثة معتقلين بعد خروجهم أكثر إشراقا فقد أصبح منهم الشاعر والكاتب المرموق ورئيس للدولة، وهي نهاية وردية لرحلة العذاب والتحدي بين الضحية والجلاد وهذا ما لا نجده في رواية مثل “العسكري الأسود” ليوسف إدريس حول التعذيب والتنكيل بطلها الطبيب تحول إلى كائن مشوه نفسيا  بعد خروجه من المعتقل، يسعي للتدمير والانتقام بعد أن هتكت كرامته  في المعتقل.

 يبدأ الفيلم تتراته بحوار مأخوذ من رواية “مستوطنة العقاب” لفرانز كافكا (1883 – 1924):

نظر الرجل إلى الضابط وسأل:

– هل يعرف السجين مدة عقوبته؟

– لا سيختبرها بنفسه

والجدير بالذكر إن كافكا حين كتب هذه الرواية القصيرة، كان في السادسة والثلاثين من العمر، وكان يحس أن نهايته تقترب، بسبب إصابته المبكرة بالداء الذي قضى عليه شاباً، ومع هذا – وعلى عكس ما كان يمكننا أن نتوقع – لو قارنا بين «مستوطنة العقاب»، وبين أعمال أساسية أخرى لكافكا (مثل «المحاكمة» و«القصر» و «أميركا»). سيدهشنا مقدار الإصرار على الحياة وعلى الخلاص، البادي واضحاً، على الأقل في نهاية هذه الرواية.هنا نعي سر نهاية الفيلم المفعمة بالأمل.

براح الخيال وضيق الزنازين

يا من دخلت إلى هنا أفقد الأمل

حركة «التوباماروس» هي أحد أشهر الحركات الثورية في أميركا اللاتينية على الصعيد العالمي، والتي تبنّت الكفاح المسلح ضد نظام «الأوروغواي» خلال سنوات الستينات والسبعينات المنصرمة، وتبدأ أحداث الفيلم في خريف 1973 حين كانت الارجواي ترزح تحت الحكم الدكتاتوري بعد عقود من الديمقراطية.  

يتم القبض على تسعة من أعضاء الحركة المناهضة للحكم الديكتاتوري، لكن الفيلم يتناول تحديدا حكاية ثلاثة منهم أخذتهم السلطات كرهائن ليكونوا رهن القتل في أي وقت، وتبدأ رحلة اقتيادهم للجنون عبر بشاعات التعذيب وإذلال الروح قبل الجسد على مدار 12 عاما، منتقلين بين عشرات السجون، تغطى رؤوسهم الأكياس القماشية ليدخلوا في جحيم لا ينتهي تحت الأرض وفوقها.. عراة في البرد القارس عطشي تغطي الجروح والتقيحات أجسادهم.

يأكلون بقايا الطعام المختلطة بأعقاب سجائر الجنود بنهم كالقوارض.. كل منهم في حبس انفرادي، تتنقل بينهم الكاميرا ترصد تفاصيل وجوههم الشاحبة وأجسادهم الضامرة وضلوعهم التي أظهرها الجوع ورغم الملامح الباهتة والوجوه الشاحبة والاوساخ وتجاعيد السنين.

تنجح كاميرا بريخنرفي رصد تلك الحياة الكامنة في عيني كل منهم، وفي لحظة تضيق فيها حلقة الكرب  يدق واحد منهم الجدار فيرد علية زميله هنا تتولد لغة جديدة للتواصل بين الثلاثة معتقلين من جهة وبين المشاهد من جهة أخرى الذي يشارك هؤلاء الرجال معاناتهم من لقطة لأخرى لدرجة أنهم يلعبون الشطرنج ويتبادلون الأشعار عن طريق شفرة النقر على الجدار.

 وفي مشهد رمزي يقيد أحدهم في ماسورة المياه واقفا لقضاء حاجته ولكن قيوده تمنعه من الجلوس لإتمام الأمر والجندي ليس لديه أوامر بفك القيد أو حتى تقريب مسافته فيذهب لرئيسه الذي يقف عاجزا فيستدعى رئيسه هو الأخر حتى يصل الأمر إلى قائد المعسكر الذي يأتي لحل هذه المشكلة  فيصب جام غضبه عليهم دون أن يقدم حلا في إشارة  ساخرة وواضحة لعقم وغباء هذه الانظمة العسكرية القمعية، لكن السجين يسرق ورقة جريدة ملوثة تكون له ولزملائه نافذه على العالم الخارجي بعد أن يقرأ ما بها من أخبار تشعرهم بأنهم مازالوا أحياء.

تشتد المشاهد قسوة حين تقف أم خوسية (أحد السجناء ورئيس الأوروجواي فيما بعد) طيلة النهار أمام المعسكر في انتظار السماح لزيارة ابنها لكن في النهاية بعد لوعة الانتظار ينكرون وجوده بعد أن تهطل عليها أمطار الليل ويصعقها برده في مشهد مذل ينتهي بلغة سينمائية عذبة حيث يناجي خوسيه أمه التي ترد عليه دون أن يلقاها في مشهد بين الحلم والواقع.

لا يكتفون بسجنهم في الزنازين بل يرسمون لهم مربعا أصغر داخل الزنزانة لا يخرجون منه أنه إمعانا في القهر. ورغم خصوصية الفيلم الفريدة على مستوى الصورة وتكنيك الطرح البصري إلا السيناريو تأثر ببعض المشاهد من الأفلام الشهيرة كفيلم The Shawshank Redemptionوتحديدا عندما يعرض الشاعر المعتقل ان يساعد الحارس في كتابه رسالة غرامية ويستغله مدير السجن في نفس الغرض ويفوز من وراء ذلك ببعض المزايا البسيطة تماما مثلما استغل مدير السجن الفاسد بطل الفيلم شاوشنك المسجون لديه واستخدم مهاراته البنكيه في التغطية على سرقاته مقابل الحصول على بعض الامتيازات.

والطريف أن الفيلم يعيد مشهدا من مشاهد فيلم “البرئ” لعاطف الطيب الذي لا أظن أن كاتب الفيلم ومخرجه قد شاهداه، فعندما يزور وفد حقوق الإنسان السجن تكتسي الزنازين بالزهور والكتب ووسائل الراحة وبعد مغادرة الوفد ترجع الأمور أسوأ عما كانت ويبدو أن شريعة الدكتاتورية واحدة في شتى بقاع الأرض ومختلف الثقافات. وأمام لجنة الصليب الأحمر يفضح إليتريو ما يدور في المعتقل من إهدار للكرامة  للحقوق  فينتفض رئيس اللجنة لكلامه لكننا نكتشف وللأسف أنها لعبة من ألاعيب السرد وأنهم لم يسمعوا له في تواطؤ وتخاذل مقيت زاد معه الألم.

لغة سينمائية خاصة

ينجح المونتاج في فك أسر هؤلاء المعتقلين الثلاثة فنراهم في الحقول وفي البحيرات لدرجة أن حبيبة خوسيه تشاركة الحفرة التي ينام فيها عاريا تلك الشاعرية البصرية التي امتزج فيها الخيالي بالواقعي أكدت وجيعة سلب الحرية وسجن الروح بعيدا عن الأحباب.

يبد أ السيناريو رحلة المكاشفة بألاعيب سردية رائعة حيث كان يبدأ بالحدث الواقعي الذى يستدعي  الذكريات ثم ينقلنا بتقنية الفلاش باك إلى أحداث ماضية يستخدم داخلها الخيال والمجاز البصري، فمثلا من لقطة يقبع فيها خوسيه في حفرة يتذكر لقطات من تعذيبه فنجد انفسنا نراه يجلس في الحانة يشرب ثم  يتخيل زملائه في الحركة يلبسون أكياس قماشية في إشارة لشعوره بالخطر وبؤس المصير متخيلا أمه تجلس على طاولة مقابلة كأنه يقرأ ما ستلاقيه هي الاخرى من عذاب جراء سجنه فجأة تدخل الشرطة يهرب ويصاب بعدة أعيرة نارية وتبدأ رحلة تعذيبه البشعة.

أما أليتريو فيحقق معه بسبب كتابته أرقاما على قطعة صابون معتقدين أنها شفرة خاصة لنعرف من خلال الفلاش باك أن المحقق هو من أمر بإطلاق الرصاص على بيته واغتال اصدقاءه بوحشية.

تعود الملامح السوية لشخصيات الفيلم في مشهد الطبيبة التي تزرع الامل بين جوانح خوسيه وكذلك الضابط الشاذ عن قاعدة السادية الذي عامل الشاعر ماوريسو بلطف في تمهيد واضح لنهاية عظيمة يختتم بها السيناريو احداث فيلمه.

 نجحت الألوان المتدرجة بين الاصفر والازرق في هذا الفيلم في تحقيق صورة ملائمة مع الكاميرا المهتزة التي ترصد انفعالات الوجوه وتشققات الكفوف وارتعاشات الشفاه كأنها تشف ما بنفوسهم من وج.

أما شريط الصوت فقد خلق اطيافا تخيلية تجاوزت إطار الصورة وعبرت عن عمق الألم الجسدي والنفسي وخاصة في مشاهد الفلاش باك المتداخل مع الحدث الواقعي..والتوليف الذي خرج بإيقاع عام متوازن دون أن يصاب بترهل في تدفق الاحداث ومستويات سردها وتداخل أزمنتها.. بل طعمها بقدر وافر من الشاعرية والمجازية.

 أما الاداء فكان مباراة بين الممثلين الثلاثة ربح فيها المشاهد صدق التعبير وتلقائية التقمص. استحق هذا الفيلم أن يحصل بجدارة على جائزة الهرم الذهبي في مهرجان القاهرة السينمائي في دورة الأخيرة.

Visited 51 times, 1 visit(s) today