عبد المنعم إبراهيم: عبقري الكوميديا المظلوم

Print Friendly, PDF & Email


لا أظن العدالة ذات أثر فعال في تحديد مكانة المبدعين والفنانين في مصر، ولو أنها كذلك ما تقدم على عبد المنعم إبراهيم أدعياء مهرجون ماسخون بلا موهبة أو مذاق. إنه ممثل فذ لم ينل بعض بعض ما يستحق من النجومية، وقد يكون الفنان القدير مسئولا على نحو ما، لكن الجانب الأكبر من المسئولية يكمن في هيمنة الخلل والاضطراب العام.
أستطيع أن أحصي عشرات الأفلام التي شاهدتها لعبد المنعم، لكنه يقوم في الأغلب الأعم منها بدور صديق البطل، السنيد التابع الذي يلازمه وينصحه ويشفق عليه ويصغي إليه في اهتمام. المشكلة هنا ليست في أن يكون الدور ثانويا قصيرا، فكم من عظماء التمثيل العالمي الذين يحصدون الجوائز بدور قصير، لكنها في التكرار والنمطية الحتمية بفعل التكوين الهامشي الهش للشخصية، الذي لا يسمح بالكشف عن القدرة وتلوين الأداء.


لا يتحمل عبد المنعم إبراهيم وحده مسئولية التورط في الأعمال المكررة التي لا تليق بموهبته الفريدة، وقد يُقال إنه يرضى ويقبل فلا يلومن إلا نفسه، لكن مثل هذا التوصيف لا يمكن أن يكون منطقيا مقنعا، ذلك أن الاحتياج المادي يفرض حضوره القوي المزعج، والتكاليف الباهظة للحياة الكريمة لا تتيح ترف الرفض وفرصة الاختيار. الممثل المحترف، على نحو ما، لا يختلف عن الموظف الذي لا يستطيع أن يتغيب عن عمله لأسباب مزاجية، فعندئذ لن ينجو من الجوع.


يتألق عبد المنعم منفردا في “سر طاقية الإخفاء”، ويتوهج أيضا في “ثلث” الفيلم الذي يقوم ببطولته مع سميحة أيوب: “إفلاس خاطبة”، عن قصة بالاسم نفسه للعظيم يحيى حقي، لكن بطولته الناجحة للفيلمين، بفاصل عشر سنوات تقريبا، لا تقوده إلى الحصول على بطولات أخرى، وتسيطر لعنة صديق البطل، فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وكمال الشناوي ورشدي أباظة وشكري سرحان، فهل يحق للتابع أن يتفوق على من تُكتب الأفلام لهم؟!. الأهمية لا تكمن في الموهبة، بل إنها في شباك التذاكر.


عندما تتعانق براعته في اللغة العربية مع موهبته الكوميدية الخارقة، يقدم عبد المنعم أدوارا لا تُنسى في “السفيرة عزيزة” و”إسماعيل يسن في الأسطول” و”المراية”، حيث الشيخ الأزهري المتأنق الذي يأبى إلا أن يتكلم بالفصحى، فإذا به يفجر سيلا عارما من الضحكات بلا ابتذال أو افتعال. الأمر نفسه عندما يتقن أداء دور الرجل المتخفي في زي امرأة، كما هو الحال في “سكر هانم”، أو البارع في تقليد صوت هند رستم كأنه هند، في “إشاعة حب”؛ لكن الأنماط المتفردة هذه لا تمثل النسبة الأكبر في أغلبية أعماله التي يقنع فيها بدور “السنيد” الذي لا يجد ما يضيفه في ظل شخصيات ذات أبعاد سطحية.


عبد المنعم ليس ممثلا كوميديا سطحيا ممن يعتمدون على المبالغة المبتذلة اللزجة واللوازم الفظة الفجة ثقيلة الظل، فالكوميديا عنده “موقف” يمثل تحديا ينجح فيه دائما، كأنه يقول لمن يشاهدونه ويحسنون الظن به: اضحكوا يا أعزائي من جملة المشهد المركب الذي أشارك فيه، وليس لأنني أدغدغ لكم بطونكم حتى تفعلوا.


لا أحبذ استخدام أفعل التفضيل، مثل الأروع والأعظم والأجمل، فهي مفردات كاذبة بلا مصداقية، في ظل النسبية التي تحكم السلوك وتتحكم في الأفكار وتنفي وجود الحقيقة المطلقة، لكنني أجد في شخصية الخال الشيوعي علي، في الفيلم البديع “عودة مواطن”، الدور الأقرب إلى قلبي في المسيرة الفنية الطويلة لعبد المنعم. قبل عام واحد من رحيله، يصل الفنان المتمكن إلى ذروة البساطة والعمق والإحساس الرفيع بالشخصية التي يجسدها، ويبرهن مجددا على أن البطولة الفعلية لا ينبغي أن تُقاس بالمساحة الزمنية، فهي رهينة بالأثر الذي يبقى بعد أن يغادر المشاهد مقعده في السينما وينفرد بنفسه ويستدعي ما كان يعايشه قبل قليل، فإذا بصاحب المساحة الصغيرة هو الحاضر المستقر في القلب.


بعد أن يتقدم به العمر، وتكسو الشيخوخة ملامح وجهه المريح، يجد عبد المنعم نفسه في الدراما التليفزيونية، وتتسع الساحة لاستيعاب موهبته الثرية التي لم تفد منها السينما إلا قليلا. في “زينب والعرش”،1979، يقدم شخصية صالح الأخرس، وفي منتصف الثمانينيات، بعد وفاة الفنان أحمد الجزيري، عم جعفر في الجزء الأول من “الشهد والدموع”، تنتقل الراية إلى عبد المنعم في الجزء الثاني، ويترك بصمته ولمسته في التعايش المختلف مع أبعاد الشخصية، ثم يغادر العالم بدوره بعد عامين من عرض المسلسل.


لا يروق لي ذلك الإسراف المتطرف غير المحسوب في توزيع الألقاب الرنانة، ومن ذلك أن يُقال عن عبد المنعم إنه “شارلي شابلن العرب”!. مثل هذه المقولات الصحفية المرسلة تخلو من الجدية والعمق، وتغيب عنها القواعد والمعايير الموضوعية. لا صلة تربط الفنان القدير بشارلي، وقد شاهدت عددا غير قليل من مسرحياته القديمة المحترمة: “حلاق بغداد”، “عيلة الدوغري”، “سكة السلامة”، “معروف الإسكافي”؛ لكن المحطات الفضائية تنتصر للهلس المسرحي، ولا تهتم بعرض الأعمال الجادة.


العدالة الغائبة تجعل من أنصاف الممثلين، الموتى منهم والأحياء، نجوما يتمتعون بالشهرة والثراء، أما العبقري الفريد الذي تجبره ضغوط الجياة على قبول الكثير مما لا يرضى عنه، فلا يجد في حياته وبعد رحيله بعض ما يستحق من التكريم والاحتفاء.
يرحمه ويرحمنا الله.

Visited 102 times, 1 visit(s) today