“تحت سماء دمشق”.. صرخات تبحث عمن ينصت

Print Friendly, PDF & Email

يملك المخرج السوري “طلال الديركي” رؤية وهماً يسعى دوماً للتعبير عنهما، ألا هو سوريا التائهة بين نظام لا يزال يتشبث بسلطة هاوية، وجماعات أصولية تسعى لفرض حيزها الوجودي، وما بين هذا وذاك، يقبع الباقي من الشعب حائراً بين مطرقة هذا الطرف وسندان الأخر.

وفي فيلمه الوثائقي الطويل الرابع “تحت سماء دمشق” إنتاج عام 2023، يستعرض “الديركي” آثار الحروب المتوالية وانعكاسات الإحتجاجات الشعبية، من منظور مُغاير، حيث يلتقط معاناة المرأة السورية مما تعانيه من انتهاك وقهر ذكوري، يكاد يصل لدرجة المُمارسة المنهجية، فالتناول التقليدي للثورة السورية دوماً ما ينحصر في إطار محدد لا يحيد عنه، وهو بيان آثار ما جرى من واقع زاوية يشوبها الضيق، الذي يفتقد للشمول والإتساع.

أما في فيلمنا هذا الذي اشترك في إخراجه مع “ديركي” كل من المنتجة والمخرجة “هبة خالد” وكاتب السيناريو “علي وجيه” في أولى تجاربهما الإخراجية، فإنفراجة زاوية الرؤية هي أهم ما يُميزه، فالمعني هي المرأة، ومن ثم يمتد هذا الرصد بما يسمح بوضع المجتمع كذلك تحت المجهر، لا نبشاً في واقع مأزوم، بقدر ما هو تعبير عن معاناة حقيقية في حاجة لمن يُنصت إليها.

هناك خمس نساء ينتمين للحقل الفني، يجتمعن سوياً للعمل على تحضير عرض مسرحي يدور موضوعه حول وضع المرأة وما تواجهه من تحرشات سواء لفظية أو جنسية، وكيف يتطور هذا الانتهاك لما هو أسوأ، ويتحول تدريجياً للعنف بكافة أشكاله. هذا ما يدور الفيلم حوله، ويمتد مضمون الفيلم لطبقة أكثر عمقاً، عبر الشابات الخمس التي تتماس حيواتهن بطريقة أو بأخرى، مع الواقع موضوع العرض.

الفكرة شائكة ولا تنقصها الجرأة، خصوصاً إذا وضعنا في الحُسبان أن تصوير فيلم في سوريا بحسب تعبير “طلال الديركي” في أحد اللقاءات الصحفية بعد فيلمه السابق “عن الآباء والأبناء”، يُعد عملاً إنتحارياُ، فما هو الوضع إذا كان المجتمع ذاته قيد الإتهام؟

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه الفنانة السورية “صباح السالم” في مواجهة الكاميرا، ثم يعقب هذه اللقطة التعليق الصوتي لـ”هبة خالد” وهي تقول أن خروج “صباح” من السجن عام 2020، قد أعاد إليها بعض ذكرياتها في الشام ودمشق، الممنوعة من العودة إليها منذ ثماني سنوات، وتستمر الراوية في الحكي قائلة، بعد نيل الفنانة حريتها بعد سنوات السجن الطويلة، اشتعلت الرغبة في إنجاز هذا الفيلم المؤجل صنعه، من ثم تُصبح “صباح” عاملا محفزا على الإبداع، فحكايتها بغموضها الكثيف الذي لم يُزح الستار عنه كاملاً حتى الآن، يُعد قوة دافعة ورمزاً لكل من قال لا في وجه الظلم والسيطرة الذكورية.

اختار السرد أن يكون مُفتتحه عبر مشاهده الأولى، مع “صباح السالم” وكذلك ينغلق السرد بمشاهدها وهي وحيدة أمام الكاميرا، وما بين هذا القوس وما يُقابله، تتراص حكايات النساء وما تعرضن له، في مصفوفة سردية مُتدفقة مُحكمة ومشدودة الإيقاع بدرجة كبيرة، فقد اعتمد بناء الفيلم على السير في أكثر من اتجاه سردي، يتوازى كل منها مع الأخر، ثم يتقاطعون عند نقطة مُحددة.

القسم الأول يتناول مشاهده النساء الخمس وكواليس حياتهن الخاصة، وكذلك أثناء إعدادهن للعمل المسرحي، ومتابعة التفاصيل الفنية، بدءاً من إيجار المنزل المُهدم الذي تًقرر أن يُصبح مقراً إبداعياً لهن، مروراً بجلسات العصف الذهني والكتابة ومحاورات الذات، وما ينشأ عنها من مشاهد مُتخيلة تُضاف للعرض، وصولاً لليلة العرض ذاته.

أما الشق الأخر من السرد، فيقبع في حكايات النسوة اللواتي تعرضن لأصناف من التحرش أو العنف بأنواعه المتباينة، حيث تُصاحب الكاميرا وترافق كل امرأة من النسوة الخمس، كل منهن تسير في طريق منفرد، تُقابل إحدى الضحايا، التي تروي بدورها ما أصابها من عذاب، فقد وقع الاختيار على شرائح مُحددة من النساء، لا ينتمين لطائفة أو طبقة بعينها، بل تميزت تلك الاختيارات بمرونة كبيرة، بما يُثبت أن جميعهن يقعن في خانة الضحايا، ولا استثناء لأحد على حساب الأخر، الكل مُنتهك في منظومة تُدير ذاتها تلقائياً، ولا يحكمها سوى القهر.

وتأكيداً لهذه الرؤية المُتسعة، تنتقل إحدى النساء لمصنع ملابس، حيث تروي لها امرأة ما جرى لها من معاملة حيوانية على يد زوجها، ثم تنتقل فتاة أخرى لمركز تدعيم النساء من الصُم والبُكم، تطلب منهن أن تكتب كل واحدة على حدى، ما تعرضن له من ممارسات وانتهاكات، وهنا نُفاجأ بأن جميعهن يُمسكن بالورقة والقلم ويدون ما حدث تجاههن، لم تتغاض إحداهن عن فعل الكتابة، في إثبات لحقيقة مُزرية قوامها أن كُلهن يقبعن تحت طائلة القهر الذكوري.

وهكذا يدور السرد مُستعيناً بشذرة من هنا، وأخرى من هناك، وكلما توغلنا في السرد، كلما زادت رقعة الاكتشاف، التي تنعكس بالضرورة على صورة أكثر إتساعاً للمجتمع.

كل إنسان هو نتاج البيئة المُحيطة به، وبالتالي تنعكس هذه العوامل الخارجية على مكنون الداخل الإنساني، في لقاء يُمكن تطبيقه بصورة أوسع، ومن ثم يمتد ليربط بين الخاص والعام، في امتزاج عضوي لابد منه، وفي هذا الفيلم ينعكس الواقع العام وبوادر الحرب وبواقيها وآثارها على الحكايات المٌنسابة، سواء بقصدية لها ما يُبررها، أو بعفوية فنية لها سحُرها وجماليتها التي لا يُمكن إنكارها.

اللقطات ذات الزاوية المتوسطة- الوصفية- للمدينة، تُبرز ما وقع على المدينة من خراب ودمار بفعل الحروب المتتالية، فالمباني مُهدمة، والأوناش تُزيل المتبقي من الأحجار، في صورة توحي بالحطام والموت، وكأنها مدينة أشباح تفتقد لدفقات الحياة. هذا الوضع العام يتلاقى مباشرة مع معاناة النساء اللواتي يسردن ما عبر عليهن من مآسي، لتبدو نفوسهن هي الأخرى تُعاني الخراب، كأمكنة حيواتهن، فكل من المكان وما يُمثله من عنصر خارجي، يتماس مع النفس البشرية وما وطأ عليها من أحزان، في اندماج بينهما له دلالته ورمزيته.

الكاميرا تتجول أحيانا في فواصل حرة في الشوارع، تقتنص، لا الوجوه المُحملة بالهموم فحسب، لكنها تلتقط كذلك كيفية التعامل بين الرجل والمرأة، عبر مشاهد قصيرة موحية في معناها، ففي أحد المشاهد نرى امرأة تقف في طابور طويل لشراء الخبر، وعندما يحين دورها يباغتها أحد الرجال ويقتنص دورها بدلاً منها.

النساء الخمس أثناء إعداد المنزل وتحويله لمسرح

وفي أحد الشوارع الهادئة نرى سيارة ترجع للخلف، فإذ بها تصطدم بسيدة واقفة أمام محطة استقلال الحافلات، وحينما تُبدي السيدة اعتراضها على ما فعل، يندفع للأمام بسيارته في عدم إكتراث لها، وكأنها ليست موجودة بالمرة، هذا ما تنقله الكاميرا سواء عبر الحكايا المتناثرة، أو اللقطات العفوية التي تنساب في نسيج الفيلم ذاته، في اشارة لواقع أكثر قسوة من المعروض، فالنساء في هذه المدينة في وضع حصار، لا أحد مُستثنى.

في أحد لقاءات تحضير وكتابة النص الدرامي، تُباغت النساء بمكالمة هاتفية من إحدى الزميلات، تُخبرهن فيها بقرارها الإبتعاد عن العمل معهن في هذا العرض، والسبب وفق ما أخبرتهن به، أن صديقها لا يروق له العمل في المجال المسرحي، لكن المُثير بحسب رؤيتهن وأحاديثهن الجانبية أن شخصية الزميلة المُنسحبة بعيدة عن هذه القرارات الهوجاء المُتسرعة، ومن ثم يبدو أن شيئاً ما مُستترا يُدبر في الخفاء.

طلال ديركي وهبة خالد

بالبحث تبين أن هذه الفتاة هي الأخرى أصبحت ضحية للتحرش الجنسي، ومن الجاني؟ مدير إنتاج العرض، هنا تكمن المفارقة ولعبة تبادل الأدوار، فإذا كانت هاته الفتيات طوال مدة الفيلم يستمعن لشهادات الضحايا، فالوضع تبدل الآن، وأصبح المتفرج هو من يُنصت لما حدث معهن من قهر مقصود تماماً، بلغ مداه، مع فقدانهن البوصلة، وإصدار حكمهن القاسي على المجتمع والوسط الفني بالتحديد، قائلين بأن من يرغب في تحقيق شيء ما خلاله، ينبغي أن يتنازل مُقدماً.

يطرح الفيلم بأسلوب ذكي وشديد الحساسية والقسوة، الصراع الذي تُعانيه المرأة، والذي تكمن أوصاله في تحقيق عنصري الأمن والأمان المفتقدين في مجتمع يُعاني من العنف تجاهها، ولا يعتد بوجود هذا الكائن المُنزوي على الهامش، بينما يقبع النصف الأخر من المجتمع داخل المتن، تُرى هل يُنصت أحداً لهذه الصرخات؟ أم ستضل طريقها وتتوارى بين معاول الهدم وأصوات القذائف المُتلاحقة؟

Visited 2 times, 1 visit(s) today