“12 رجلا غاضبا”: العدالة وقدرات البشر

Print Friendly, PDF & Email

يعتبر فيلم “اثنا عشر رجلا غاضبا” (1957) للمخرج سيدني لوميت، من أفضل ما قدمت السينما الامريكية منذ نشأتها بل وقفزة نوعية بل مدرسة في فن الإخراج، حيث أبدع لوميت في تحويل هذه القصة المستوحاة من مسرحية، إلى توليفة سينمائية وملحمة خالدة في تاريخ السينما، امتزج فيها صدق الأداء التمثيلي مع الحوار الجيد بشكل احترافي، كل هذا وسط غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها عدة أمتار داخل إحدى المحاكم الجنائية الأمريكية.

يذكرنا الفيلم برائعة أورسون ويلز “المواطن كين” 1941 رغم أن الفرق بينهما كبير وواضح بلا شك إلا أن التصوير في فيلم  المواطن كين يبقى علامة فارقة في تاريخ السينما بشهادة المختصين، أما عبقرية مخرج فيلم “12 رجلا غاضبا”  فتكمن  في اختيار زوايا التصوير والكادراج ضمن سياق القصة المتواتر وداخل حيز زماني ومكاني محدد حيث تجري كل الأحداث في الزمن الحقيقي للفيلم وداخل الغرفة، لكن مع مرور الوقت تتسع هذه رقعة هذه المساحة من خلال الدور الكبير في معالجة القصة ضمن ثنائية سلاسة الحوار وتعاقب الأحداث عبر الخط الدرامي الرئيسي ووفق رؤية سينمائية فريدة وواضحة للمخرج سيدني لوميت صاحب كتاب فن الاخراج . 

استطاع مخرج الفيلم إلى حد كبير أن يعبر صدق عن ملامح شخصياته وظروفهم الاجتماعية وينقلنا الى لب الموضوع،  الى عمق النفس البشرية وتلك التراكمات والترسبات التي تصنع الآراء والتوجهات، من لقطة قريبة للوجه   Close-upالى لقطة المنظر العام، كلها تدخل  ضمن حيز تشكيل الجو العام للفيلم بـ 12 شخصية ذكرية تكاد تكون كلها رئيسية  تخلو من أي  امرأة، وهذا الاختيار يجعلك في كامل تركيزك وحضورك الذهني بعيدا عن أي تشويش عاطفي وأنت تشاهد اطوار وتفاصيل جلسة المداولات في قضية جنائية وجريمة من الدرجة الأولى، مشاهدة تنسينا  طيلة ساعة ونصف من الزمن أننا داخل غرفة صغيرة، بفضل الحوار الرائع الذي أجاد اختياره المخرج على لسان أبطاله كما ذكرنا، والاكثر من ذلك يمنحنا الأداء التمثيلي ذلك الشعور بالإيقاع والتشويق الذي يشد انتباهنا الى القصة وملابسات القضية، إلى درجة أخذ موقف عن طبيعة شخصيات  الفيلم وتكوينها النفسي والاجتماعي وهنا يظهر بشكل واضح الصراع بين التوجهات والآراء لنطرح ذلك التساؤل الأبدي، هل فعلا  البشر قادرون على تطبيق  العدالة في ضوء ما يشهده العالم من متغيرات  وفي ظل المعتقدات والعادات السائدة لدى كل مجتمع؟

 منذ بداية “12 رجلا غاضبا” وبشخصياته المتفاوتة الى حد ما كما يظهر في البداية، سرعان ما يتجلى ويتكشف ذلك التشابه في الموقف الجماعي بالإدانة الذي يمثل قرار الهيئة المحلفة الموكل إليها قرار الفصل والحكم النهائي في جريمة قتل من الدرجة الأولى، يُدان فيها شاب في مقتبل العمر ولكن لشخصية الفيلم الرئيسية موقف آخر يظهر من خلال التصويت بـ لا، موقف معارض للإدانة ولا ينسجم مع موقف الأغلبية مطلقا.

وهنا نستشف جلياً حبكة القصة بل وأهم منعطف درامي يقلب الموازين تماما في الفيلم، ويبدو ان لحظات الانتظار التي تسبق الجلسة كانت مثالية بالنسبة للوميت لكي يبدأ في استعراض شخصياته قبل بداية الجلسة ومن بين هذه الشخصيات من بدا عليه الاستعجال كأنه يريد ان ينهي المسألة بسرعة ويتفرغ لمشاهدة مباراة رياضية، وآخر عجوز طاعن في السن، شخصيات بأحاسيس مكثفة متداخلة ومتباينة تتكشف من حين إلى آخر عبر الحوار الذي سيشتعل بين هؤلاء الرجال بسبب شرارة أحدثها موقف الشخصية الرئيسية في الفيلم المخالف لرأي الأغلبية.

 هنا يبدأ الغضب والانفعال ليصبح لدينا فيما مجموعه من 12 رجلا غاضبا، صوت واحد من 12 يصنع الفارق ويغير تماما مجرى وسياق الفيلم، ورغم أن هذا الصوت لا يملك حجج أو قرائن البراءة إلا أنه يرى في نفس الوقت بأنه لا يمتلك قرائن وحجج الادانة لينهي مصير شاب بطريقة عبثية، صوت الضمير هذا الذي أحيانا يكون مخالفا لصوت الأغلبية ولن يكون هو الراجح عندما تهدأ الانفعالات ويتخلص الكثير من البشر من ترسبات الماضي ونزواتهم العابرة عند النظر أو البت في القضايا المصيرية الكبرى.

Visited 52 times, 1 visit(s) today