حكاية فيلم “اثنا عشر رجلاً غاضبًا” لسيدني لوميت

Print Friendly, PDF & Email

إذا دعاك صديق إلى أن تشاهد فيلمًا منذ سنتين أو ثلاث فقد يكون ردُّك أريد أن أرى فيلمًا حديثًا، لا قديمًا .. فما بالك أيها الصديق العزيز وأنا أدعوك إلى أن تشاهد معي فيلمًا تمَّ إنتاجه في عام 1957 وما بالك إنْ قلتُ لك إنَّ الفيلم ليس مُلوَّنًا، بل أبيض وأسود فقط! .. عندما تتلقى مثل هذه الدعوة فقد تذهل وتتساءل: ما الذي يجعلني أشاهد فيلمًا قديمًا كل هذا القدم؟!

فأقول لك لا يصح أن نتعامل مع الأفلام تعاملنا مع منتجات التقنية؛ مثل الهواتف المحمولة، والحواسيب .. إن الأفلام أعمال فنيَّة في المقام الأول. لا تسقط بتقادُم الزمن، ولا تفقد بريقها ومُبرِّر مُشاهدتها بعد فترة معينة من الزمن. بل إنّ صلاحيتها للمشاهدة بعد فترات طويلة، وبقاءها لسنوات وعشرات السنوات هو معيار جودتها، ودليل صادق على بلوغها درجة من الكمال الفنيّ. يعزز هذا دوران الفيلم حول معاني الإنسانيَّة، أو حول أمور فلسفيَّة. على خلاف الأفلام التي تتناول حقبة سياسيَّة، أو مواقفًا معينًا فهي أقصر عُمرًا -غالبًا.

وإذا كانت هذه معاييرنا ففيلم “اثنا عشر رجلاً غاضبًا” للمخرج الأمريكي سيدني لوميت، لا بُدَّ أن يكون من أولويات أفلامك المُرشحة للمشاهدة. إنَّه أحد أهمّ أفلام السينما إطلاقًا. وتعالَ نجول جولةً فيه. الفيلم يدور حول مُحاكمة لجريمة قتل حرجة جدًّا؛ فالمتهم شاب صغير في سن الثامنة عشرة، والمقتول هو والده. وكل الدلائل تشير إلى أنّ الابن هو القاتل. فهناك شاهدان عليه، وهناك وقائع عدّة تدينه. يا له من موقف حرج هذا الموقف! .. وتبعًا لنظام المحاكمات في “الولايات المتحدة” يُختار بعض من المواطنين العاديين، يُسمَّون “مُحلَّفين”؛ لتُعرض أمامهم وقائع المحاكمة بمدافعة النيابة والمحاماة. ليقرروا هم قررًا واحدًا؛ فإمَّا المتهم مُذنب أو غير مُذنب. هؤلاء كانوا أبطالنا “الاثني عشر”، والذي دار بينهم من مناقشات هو ما جعلهم “غاضبين”.

هؤلاء المُحلَّفون اجتمعوا في غرفة واحدة مُلحقة بقاعة المحكمة نفسها. في هذه الغرفة سيقررون حياة شاب أو موته. وهم أناس مختلفون في كل شيء، فهناك الأرستقراطيّ، والرأسماليّ، وذو الأصل الوضيع.. وهناك العقلانيّ، والعاطفيّ، والإنسانيّ، وذو السطحيَّة الشديدة .. وهناك المتغطرس، والمهذب، والحكيم، وذو الغلظة الشديدة. وهناك وهناك. كانوا اثني عشر رجلاً ممثلين لأنماط بشريَّة عديدة هي مجموع المحيطين بنا في المجتمع. هؤلاء جميعًا مُلتفين حول منضدة كبيرة، ومجموعة من الكراسيّ، في ظهيرة صيف قائظ، والجو يقترب من الغليان؛ ليزيد من عوامل غضبهم الابتدائيَّة. مع مروحة هواء مُعطَّلة. فشعروا جميعًا أنهم في حفرة من النيران يريدون التخلص منها سريعًا.

بدأت المناقشة بتصويت نرى فيه إدانة المحلفين للشاب الصغير؛ فردًا بعد فرد، حتى يأتي دور أحدهم وإذ به يفاجئهم بأنه يرى المُتهم “غير مذنب”! فينفعل الجميع ويتشائمون من هذا الذي يريد أن يعذبهم بالاستمرار في هذه الغرفة. ويبدأ الاتهام بأنه يريد التحذلق لا غير، وأنه مُحبّ للاختلاف، وأنه ينكر الحقائق الدامغة التي تدين الشاب. وهو في هدوء الإنسانيَّة ثابت في موقفه، يذرع بينهم الشكّ في أدلة الاتهام، وينبههم إلى أنهم لا يتقامرون على شيء من المال، إنما يناقشون أمر حياة إنسان أو موته. ثم يدعوهم إلى تصويت آخر فإذا كان هو وحده الذي يرى الشاب بريئًا فسيغير رأيه. ويمر الجميع مُصوِّتًا بالإدانة، فيفقد الرجل الأمل، ونفقده نحن -المشاهدين- معه حتى يأتي صوت العجوز المتهالك بتصويته “غير مذنب” .. ثم تستمر المعركة حتى النهاية. في تشويق لا يحتويه الكلام.

الفيلم كتلة من الأفكار والمشاعر والأحاسيس والانفعالات. إنَّك ستخرج منه أشد إنسانيَّة أكثر من ذي قبل يقينًا. يُرينا كيف يتأثر الرأي العامّ، وكيف يجعلنا العقل نرى الزيف على أنه حقائق، والحقائق على أنها زيف، وكيف يتسرب إلينا الوهم ليعمينا، وكيف تضيع الإنسانيّة منا حتى لا يبقى فينا شيء منها. وغيرها الكثير من الأمور. إنه فيلم يستحق التأمل حين مشاهدته.

الفيلم ينتمي – بالعموم – لنوع دراما المُحاكمات. وهو من الأنواع الثريَّة في الغالب. لكن الفيلم يغلب عليه الطابع الدراميّ بشدة. لأنَّه في الأصل نص مسرحيّ كتبه المسرحيّ “ريجنالد روز” وقُدِّم في الإذاعة، ثم تحول عام 57م إلى هذا الفيلم. حتى لو لمْ تعلمْ هذه المعلومة فسرعان ما ستكتشفها أو ستلمَحُها في الفيلم ظاهرةً كلَّ الظهور. فالفيلم مسرحيَّة لكنها مصوَّرة. ومن عناصر المسرحيَّة فيه:

1- يتحكم فيه قانون الوحدات الثلاث المسرحيّ الذي قال به “أرسطو”: وحدة الزمان، والمكان، والموضوع.

2- يعتمد الفيلم اعتمادًا كُليًّا على الحوار -وهو الأداة المسرحيَّة الأبرز.

3-   يتأسس على تنوع عناصر الدراما المُنشئة له

هذه هي عناصره الأساسيَّة من وجهة تحليليَّة، والتي أجادها فأصبح في هذه المكانة في تاريخ فن السينما.

والآن فلنرَ كيف أحكم المُؤلف الفيلم:

1- صنع شخصيات متباينة ومختلفة من حيثيات مختلفة: من حيث أعمالهم، ومن حيث خلفياتهم، وطبيعتهم، ومزاجهم، والأهم من هذا وجهات نظرهم في الحياة، وطريقة تفكير كل منهم.

2- استغلَّ هذه الاختلافات جميعها، بلا أيّ تقصير في توليد دراما داخليَّة بالغة القوة، على جميع الأصعدة.

3- لمْ يقتصر فقط على دفعه الشخصيات في طُرُق الدراما؛ بل استطاع أن يعزز الحوار وينتشله من عقبة “الملل” بإجادة توزيع عناصر المفاجأة على طول أحداث الفيلم، والتي مثَّلت الجزء الأهم في تطوير الأحداث باطراد حتى الوصول إلى نقطة النهاية.

ولا شكّ أن الحديث كله دار حول التأليف والمؤلف لأن الدراما والمعاني كانتا الصوت الأعلى في هذا الفيلم. لكنّ الإخراج الذي تمَّ على يد “سيدني لوميت” كان متميزًا من وجوه. وسبب هذا أن كل هذه الدراما تدور في غرفة واحدة فقط. ومهمة نقل هذا عسيرة جدًّا على المخرج.

إنّه يا صديقي فيلم للحياة، فيلم يستحق في كل دقيقة من دقائق عرضه انتباهك، ويقظتك. يستحق أن تنفق وقتك في مشاهدته. فلا تختر فيلمًا لأنه حديث وترفض آخر لأنه قديم عهد. فليس بالعهد يقاس العمل إنما بما يضيفه لك ليستحق مشاهدتك الكريمة.

Visited 87 times, 1 visit(s) today