“الأب الروحي” الثالث: تعديلات أفضت إلى ارتباكات

آل باتشينو في دور مايكل كورليوني آل باتشينو في دور مايكل كورليوني
Print Friendly, PDF & Email

بقلم: مايكل اتكينسون

ترجمة: رشا كمال

لن تخبو بعض العلامات السينمائية بفضل اثرها التاريخي الهام، بينما قد تحول عوامل اخرى دون نسيانها.

ينطبق هذا الأمر على ملحمة الأب الروحي للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، أو بالأحرى، على ثلثي هذه الثلاثية لما لها من التميز العالمي والخلود كتاريخ السينما الأمريكية. ويبدو أن هذا ليس كافيا للمخرج، فقد أعاد تحرير واصدار آخر أجزائها بأكثر من وسيلة لخمس مرات على الأقل خلال نصف القرن الماضي.

وهذه طريقة لا تليق للتعامل مع إرث ثقافي. تخيل مثلاً لو قام تولستوي بإصدار خمس طبعات مختلفة من رائعته آنا كارنينا، أو قرر موتسارت تعديل وتنقيح مؤلفاته الشهيرة. وأي من تلك النسخ المعدلة للفيلم هي الأفضل سردياً قد يكون موضوعا مناسبا للنقاش النقدي، ولكن ما يبدو عليه الأمر في الحقيقة هو أنه نوع من اضطرابات القلق لدى المبدع أي كوبولا نفسه، لعدم قدرته على تخطي فشل هذا الجزء، أو تجاوز رغباته وأحلامه القديمة التي كبحتها الظروف الإنتاجية وتدخلات شركة الأنتاج.

وإذا كانت ثلاثية “الأب الروحي” خير شاهد على بزوغ سينما المؤلف في عام 1972، فإن المحاولات المستميتة اللاحقة لإعادة تنقيحها مرارا وتكرارا إنما تدل على أمر آخر الا وهو نرجسية متضخمة، أو ربما تغلغل الشك وعدم معرفة أي من هذه النسخ هي الحقيقية؟

ونأتي إلى آخر أجزاء الثلاثية- نسخة عام 1990- الذي تم تعديله وإصداره تحت أسم الخاتمة بالشكل الذي طالما أراده كوبولا على حد قوله. والسؤال هنا هل هذه النسخة تعتبر نسخة المخرج، وإذا لم تكن كذلك فلما لا؟

تبدو هذه النسخة أقرب من النسخة المنقحة لفيلم (Ashes of time– رفات الزمن) للمخرج وونغ كار واي، عن كونها أشبه بالنسخة المطولة لفيلم (Apocalypse now– القيامة الآن) لكوبولا نفسه. أي مجرد تعديل مختصر وليست عملية استعادة مشاهد كاملة محذوفة من النسخة الاصلية. فالنسخة الحديثة من الفيلم ليست جديدة تماما، بقدر ما تضمنت العديد من التغيرات الهامة التي أجراها كوبولا والمونتير والتر مارش على نسخة الفيلم الصادرة عام 1992.

ولكن لا تزال العيوب المتأصلة في الفيلم كسوء اختيار الممثلين تطارد المخرج. ولأستديو باراماونت يد في ذلك، عند استبعادهم للممثل روبرت دوفال من أداء دور توم هيجن لعدم الموافقة على دفع أجره المطلوب، والتغيير الصادم الذي تم في آخر اللحظات عند اختيار صوفيا كوبولا قليلة الخبرة لأداء دور محوري لتمثيل الجيل التالي في العائلة بعد انسحاب الممثلة وينونا رايدر. وكان هذا أحد الأسباب الرئيسية وراء الهجوم الاذع الذي شنه النقاد على الفيلم ولم يتخطاه المخرج حتى الآن.

آل باتشينو مع جورج هاملتون في لقطة من الفيلم

تبدو الاختلافات بين النسختين واضحة للوهلة الاولى، فبعد مرور كل هذه الأعوام لا يزال المخرج غير مهتم بفساد نفسية بطله بسبب تدبير اغتيال أخيه فرودو في الجزء الثاني، فقد تم حذف الافتتاحية الأصلية للجزء الثالث وهي الجولة الكئيبة في قصر بحيرة تاهو المهجور، ولقطات العودة للماضي لمقاطع البحيرة الباردة. ويبدو هذا أمراً بارزاً بعد مرور ستة عشر عاماً على نسخة 1990.

ولحسن الحظ امتد الحذف ليشمل نهاية الفيلم بحذف مشهد موت مايكل- آل باتشينو- بسقوطه من فوق كرسيه واستبداله بلقطة مقربة غامضة له ثم إظلام تدريجي للشاشة، وهو أمر يدعو للسخرية نظرا للعنوان الجديد الذي يحمله الفيلم وهو موت مايكل كورليوني.

وفيما بين هذين التغييرين تظل الحبكة غير واضحة المعالم. مثل تودد اندي غارسيا الوريث الغير شرعي الأرعن لصوفيا “ماري”، والتهديدات باندلاع حرب العصابات من زعيم نيوجيرسي الجديد “جو مانتيجنا”، ومحاولة مايكل كورليوني التحكم في التكتل الاستثماري إيموبلياري الواقع في قبضة الفاتيكان، بالتزامن مع الصعود والموت المفاجئ للبابا جون بول الأول وكذلك فضيحة المصارف الخاصة بالفاتيكان في أوائل الثمانينات، وتآمر زعيم العصابة الطاعن في السن (إيلي والاش” من خلف الكواليس طمعاً منه في جزء من صفقة الفاتيكان، والحث على محاولات الاغتيال الناجحة التي دفعت بعودة مايكل إلى الأعمال الإجرامية للعصابة.

 ويعتبر النص السينمائي الذي تشارك في كتابته كوبولا مع ماريو بوزو، مزيجا شديد الكثافة يتأرجح ما بين عرض المزيد من الاحتفالات والطقوس الشعائرية، وصولاً الى مشهد الذروة الذي يؤكد على الروح الاوبرالية للملحمة من خلال مشاهد المونتاج المجمعة لأداء أوبرا كافاليريا روستيكانا. (والتي لم تكن الاحالة الوحيدة للمخرج مارتن سكورسيزي، حيث تظهر كاثرين سكورسيزي والدة المخرج المشهور في مقطع صغير في الفيلم).

ولا يكاد يعوض الأداء المتماسك للممثل جورج هاميلتون منذ أدواره في الستينيات عن غياب روبرت دوفال، وتبرز مواطن الضعف في أداء صوفيا كوبولا أمام  تألق الممثل آندي غارسيا، ولكن لا يزال الفيلم يتمتع بالتأثيرات اللونية ذهبية الظلال للمصور الكبير غوردون ويلز. وكذلك الاهتمام الكبير الذي أولاه كوبولا للتفاصيل لتعزيز الشكل الذي اتخذه الفيلم، كالحذاء المتدلي من قدم المصرفي السويسري المشنوق من فوق الجسر في روما.

آندي غارثيا مع صوفيا كوبولا

يخضع افتقار الفيلم للسلاسة السردية لمقارنة جائرة مع الجزئين السابقين، ولكن ليس بالضرورة مع الإصدارات المختلفة من الفيلم نفسه والتي قد تكون خادعة في بعض الأحيان. ولكن المشكلة المزعجة لهذا الجزء الثالث او الخاتمة أو أيا كان مسماه، تعتبر متأصلة فيه ولا يمكن تغييرها. وهو أمر واضح تماما لاي محب لهذه الثلاثية لأن السيناريو الذي اشترك في كتابته كل من كوبولا وماريو بوزو يعتبر قالبا متكررا، يكاد يكون تقريباً مقطعا بمقطع، من سيناريو الجزء الأول من الثلاثية. كل تكوين رئيسي للفيلم الأول من المقابلات في افتتاحية الفيلم داخل المكتب المظلم، والاحتفالات بزفاف كوني ابنة دون كورليوني، وصولاً إلى محاولة تصفية مايكل، ومونتاج مشاهد الاغتيالات العنيفة في ذروة الفيلم، قد أعيد تعديلها واستخدامها في القصة الجديدة مع إضافة حشو تفسيري يربط فيما بينها.

وبمجرد أن تصبح واعياً للخطوط المتوازية بين الفيلمين سيبدو الجزء الأخير أو الخاتمة محاولة بائسة، أو تعديلا باهت الملامح كما لو لم يعرف المخرج كيفية بنائه بخلاف تلك الطريقة، وتفكر في “كم كان الفيلم الأول من هذه السلسلة رائعا، وتهمس لنفسك: “ليتني كنت أشاهده الان.”

وحقيقة أن الجزء الأول من الثلاثية عن مواجهة الأشقاء الأربعة البؤساء لطقوس العالم القاسي الذي صنعه أبوهم، وبه الكثير من المثابرة والثبات، مما يرجع للحقبة الزمنية التي ينتمي إليها الفيلم، وأي محاولة لإعادة تصويره او تفسير هيكله القصصي ستعد حماقة.

لطالما كان الجزء الثالث أو الخاتمة مجرد فكرة خطرت على البال أو ذكرى مستوحاة من أسلافه السابقين. وإضاعة الوقت بتعديله بعد مرور ثلاثين عاما يعتبر نوعا من العبث غير الاحترافي.

Visited 57 times, 1 visit(s) today