السينما وأسئلة الوجود عند جان ميتري

من فيلم "لغز الحمقى برجيير" لجان متري (1951) من فيلم "لغز الحمقى برجيير" لجان متري (1951)
Print Friendly, PDF & Email

اهتمت مجالات بحثية عديدة بالظاهرة السينمائية وحاولت أن تجعل منها موضوعا للاشتغال والتفكير؛ وكلما تطورت العدَّة السينمائية وأبهرت متلقيها بقدرتها على تأطير الزمان والجسد والمكان والحكي، تزايدت اهتمامات الباحثين من مختلف التخصصات، من بينها التاريخ واللسانيات، وعلم النفس وعلم الاجتماع والجماليات والفلسفة؛ بل إن هذا الحقل الإبداعي الخصوصي بحكم معالجته لمواضيع الصورة والواقع، والزمن، والرمز…إلخ. وجد المشتغلون فيه أنفسهم مطالبين باستدعاء مفاهيم مشتقة من القاموس الفلسفي.

ومن بين الأسماء البارزة التي ساهمت في التعامل مع الظاهرة السينمائية بجدية فكرية ملفتة يبرز “جان ميتري” Jean Mity في السياق الفرنسي حيث ساهم، بطريقته، في تعميق النظر والتفكير في الصورة السينمائية وفتح لمفكرين ونقاد وسينمائيين وباحثين آفاقا غنية في مقاربة هذا الحقل الإبداعي والفكري.

عايش “جان ميتري” المسار الطويل للسينما منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ووقف على الانتقال إلى السينما الناطقة، وعلى التحولات التي طرأت على السينما كتقنية ووسيلة تعبير وفرجة. كما شهد على القدرة الخصوصية التي تملكها العُدة السينمائية في تأطير الواقع والإبداع في الأشكال السردية. وإذا كان “أندري بازان” قد تحفظ على الأهمية البنيوية والتعبيرية للمونتاج فإن “جان ميتري”  على العكس من ذلك، يرى في المونتاج على غرار “إنزنشتاين” و”إبشتاين” وآخرين، لحظة حاسمة في اللغة السينمائية؛ بل إنه، وكيفما كانت طريقة توظيفه، يمثل جوهر السرد الفيلمي باعتبار أنه بواسطة المونتاج يمكن للسينمائي أن يعطي لموضوعاته وصوره معنى أكثر سموًا.

ويُجمع الباحثون على أهمية الإنتاج الذي تركه “جان ميتري” بخصوص التأريخ للسينما، وللأثر الذي تركه كتابه في مجلدين عن “جماليات السينما وسيكولوجيتها”، وكيف ساهم إلى جانب مجموعة من المولعين والباحثين، في تحرير النظرة التبسيطية أو الترفيهية للظاهرة السينمائية، والتعامل معها كحقل فكري وجمالي مُركب يمتلك ما يلزم من صياغة أسئلة الوجود وتكثيف الوعي التاريخي بالإنسان والعلاقات الاجتماعية والسياسة وأنماط التواصل.

فالسينما، عند ميتري، فنّ، ووسيلة تعبير خصوصية، و“كتابة جديدة”. وهي شكل جمالي تستعمل الصورة وتنتج اعتماداً على عمليات تنظيمها المنطقي والجدلي لغة قائمة الذات. تعتبر أداة “لإعادة إنتاج وتوزيع مجموعة صور فوتوغرافية متحركة تكثف وقائع حقيقية أو متخيلة”[1].

غير أنه من البديهي، في نظر ميتري، الإقرار بصعوبة نعت السينما بأنها لغة بالمعنى الكلاسيكي الذي يرى بأن “اللغة مجموعة علامات مجردة لها شكل محدد ودلالة ثابتة”. فالفيلم يمكن أن يكون أي شيء آخر سوى نسق من العلامات والرموز، أو على الأقل أنه لا يتقدم بوصفه كذلك فقط. “فالفيلم هو أولا وقبل كل شيء صور، أو بالأحرى صور لشيء ما. إنه منظومة صور تصف، وتطور وتسرد حدثا ما أو سلسلة أحداث محددة. غير أن هذه الصور يمكنها ،حسب السرد المتبع، تنظيم ذاتها داخل نسق وتغدو علاوة على ذلك رموزا. إنها ليست علامات، كما هو شأن الكلمات، وإنما موضوع واقع محدد. بهذا المعنى يمكن اعتبار السينما لغة. إنها تصير لغة من زاوية كونها تمثلا أولا وقبل كل شيء، وفي خدمة هذا التمثل. إنها إذا شئنا القول لغة من الدرجة الثانية”[2]. ولأن اللغة الفيلمية تنتمي، من حيث المبدأ والتعريف، للإبداع الجمالي فهي ليست “لغة خطابية”، وإنما لغة مُهيئة، فهي “غنائية أكثر مما هي عقلانية”[3].

وتتمثل الخاصية الرئيسية للسينما في كونها صورة أو “سلسلة من الصور المتحركة”، لأن الفيلم حركة وتغير لقطات، ومتواليات، وزوايا نظر ولكنه في العمق، تمثُّل للحركة، وللموضوعات التي يلتقط ويؤطر ويسرد. ولذلك فإن خاصية كل صورة هي أنها “صورة لشيء ما”. هنا يظهر التأثير الفينومنيولوجي الواضح على تفكير “جان ميتري”، بل إنه يعتبر بأنه في كل فيلم، وفي كل صورة يوجد معنى مبثوث فيها بشكل قبلي يسبق تدخل الذات فيها. ففي “السينما تكون الدلالة والشيء الدال أمرا واحدا: إنها دالة في ذاتها، أي بشكل مباشر. وليست هنا، مرة أخرى لا لغة أو خطاب أو فكرة إلا بشكل مجازي نفس الأمر ينسحب على اعتبارها معرفة، لأنها بوصفها مُباشِرة (هي دالة في ذاتها) ليست معرفة إلا مجازيا طالما أن المعرفة تستلزم تمييزا بين الفكر الخطابي وموضوعه”[4].

جان متري

لا أحد، في سياق التفكير الذي أنجز فيه “جان ميتري” كتاباته، يدعي بأن “السينما معرفة بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما هي “استيعاءً” prise de conscience أو لحظة وعي شمولي وخالص، مرتبط بدلالة ما أو بقيمة جمالية معنية، ولكن لا شيء فيه يمكن أن يشبه معرفة عقلانية”[5].

من جهة ثانية تميل السينما إلى تقليص الحاجز العازل، المحكم الإغلاق بين الواقعي واللاواقعي؛ “إذ يمكن المعاينة بأنه في السينما يظهر الواقعي واللاواقعي باعتبارهما مظهرين مختلفين لنفس الشيء. ففي كل مرة يظهر فيها الواقعي بطريقة غير منتظرة يصير فيها فانطاستيكيا لدرجة يمكن الدفاع فيها على القول بأن الواقعي ليس شيئا آخر سوى فانطاستيك ألفناه”[6]. غير أن القول إن السينما “فن الواقع” ليس قولا “واقعيا” بالضرورة. وهكذا نسمي “واقعيا” كل عمل يلتقط العالم المعروف، وبقدر ما يرصد الوقائع العينية يقف عن نوع من المحاثية immanence بالعمل على التعبير والقبض على معناها العميق”[7].

ويعتبر “جان ميتري” أن السينما “ليست مجرد فن، أو ثقافة أو حتى وسيلة لتحصيل معرفة، أو مجرد أداة لنشر المعارف، وإنما هي وسيلة كفيلة بفتح آفاق جديدة للفكر”[8]. تعمل الصورة السينمائية على “إظهار” الموضوع بدون أن تكتفي بفعل الإظهار لأنها تقدم الموضوع في أشكاله المتفردة، في شخصيته البديهية، ليس باعتباره تجليا لمتخيل مصطنع بما هو معروف، وإنما يظهر من خلال مجموعة علاقات متميزة تجعله يعلمني شيئا جديدا عن الموضوع”[9]. إن الصورة السينمائية استلهام مادي يكتسب معناه الأصلي بشكل لحظي. تمنح فرجة التفكير في الأشياء التي تظهر في نفس الوقت الذي تقدم لنا إمكانية التفكير معها.  ليست الصورة والدال Le signifiant فيها شيئا ملموساً وإنما هي تكثيف لعلاقة. ولذلك فإن “الدلالة الفيلمية دلالة بدون دليل باعتبار أن الدليل يتضمن مفهوما وله وظيفة منطقية، ثم إن الدلالة تحيل ضرورة على موضوع. وأما الصورة فإنها تحمل صفة الدليل بدون أن تكون دليلا “في ذاتها”[10].

ويلاحظ “دومنيك شاطو” أن كتابات “جان ميتري”، وخصوصا في كتابه المرجعي “جماليات السينما وسيكولوجيتها” تعاني من مفارقة مثيرة تتمثل في كون المجلد الأول من هذا الكتاب يحاول التأكيد على أن “الفيلم يبني واقعا مختلفا عن الواقع”، في حين أن المجلد الثاني يصر على القول إن “إدراك الفيلم لا يختلف عن علاقتنا بالواقع”[11]. قد يجد قارئ “ميتري” في هذه المفارقة ما يتجاوزها، وذلك من خلال مقاربته للسينما باعتبارها “لغة خصوصية”، تمتلك عناصر مشتركة مع الفنون الأخرى، التي تشتغل على مواد مختلفة تماما، لكنها تتميز عنها بحكم أنها لا تكتفي بالتعبير عن المشاعر والانفعالات، وإنما تعبر عن الأفكار متخذة من الصورة وسيلتها الرئيسية؛ ذلك أن الفكر المعبر عنه لا ينفصل عن اللغة التي تعبر عنه. من هنا دعوته إلى الاهتمام بالسيمولوجيا وباللغة، وإلى الانتباه إلى أهمية الحركة في العمل السينمائي. فالعلامة السينمائية عبارة عن تمثُّل يَرقى إلى مستوى الدلالة من خلال إخضاع التمثل إلى مشاريع دلالية، واستعمالات متنوعة للصور. لذلك تنتقل السينما دوما من العيني إلى المجرد، وتقدم موضوعها بشكل مباشر، أي أنها تقدم تمثلا مباشرا للعالم وللأشياء. فليست السينما “مفهومية” -عكس ما يقول به جيل دولوز- السينما لا تفكر مع الصور كما يفكر الناس مع الكلمات، وإنما تفكر بالصور.

ويقاوم “جان ميتري” اختزال السينما من خلال مقارنتها بالفنون الأخرى لأنه يرى أن “السينما إذا كانت فنا، فإنها فن ينتصب ضد كل إكراهات الفن”[12]؛ إذ تجد الأشكال الفيلمية مبرر وجودها في الأشياء المُتَمثلة، وتتنوع هذه الأشكال كتنوع الحياة ذاتها، “وإذا كان من الصعب تقنين الحياة وتقعيدها فإن ذلك يزداد صعوبة مع فن يشكل ذات الحياة وموضوعها في الوقت نفسه. وحين تعمل الفنون الكلاسيكية على بناء دلالة الحركة بواسطة ما هو ثابت، والحياة بما ليس حيا، تلتزم السينما من جهتها بالتعبير عن الحياة بواسطة الحياة ذاتها وتبدأ مما ينتهي إليه الآخرون”[13].

لا يمكن حصر السينما في نطاق مقنن ضيق لأنها فن الحركة بامتياز، “تهمل كل أشكال المكر والحيلة من أجل الحرية، وتتبرم من المطلق لاعتناق النسبي، إنها فن على قياس الإنسان… يمزج الأزمنة بالأمكنة، الحاضر بالماضي، الكائن وبما يظهر منه، المتخيل بالواقع، يقوم بالعرض والسرد، بالحلم والمعاينة، ويدمج الزمن المديد حسب صيرورة الكائنات والأشياء. وبعد أن كان مسرحيا، وتشكيليا، وموسيقيا، وروائيا، ستغدو السينما هي ذاتها في نهاية المطاف، أي سينمائية بكل بساطة”[14]


يتموضع “جان ميتري” في الاتجاه الفينومنيولوجي بخصوص نظرته للإدراك، ذلك أن الجهاز الإدراكي الذي يلتقط الفيلم هو ذاته الذي يقبض على الواقع، وما يميز إدراك المكان والزمان، سواء كان تخيليا أم لا، هو كونه يتركز على المتفرج. صحيح أن الفيلم فيلم، ويتعين النظر إليه بوصفه كذلك، فهو ليس العالم وإنما “تمثل له”، ولأنه يتقدم بهذه الصفة، فإنه يغير مركز الإدراك؛ ويأتي المونتاج ليعطيه الترتيب والبناء الدلالي المناسب. ليس الفيلم، عند ميتري، “أنطولوجيا للواقع” وإنما يقترح على العكس من ذلك أنطولوجيا للصورة باعتبارها صورة مباشرة للواقع.

لم يكتف “جان ميتري” بتدبير الشغف العارم الذي حركه في التعامل مع الظاهرة السينمائية بوصفها وثيقة تكثف الواقع والحدث، وتؤطر الجسد والإنسان، وتجهر بالمعنى والأفكار، وإنما اجتهد، قدر مستطاعه، في تأطير تصوره للسينما ضمن نظرة استمدت كثيرا من عناصرها من كتابات فلاسفة من قبيل موريس ميرلو بونتي، وكارناب، وبرنراند راسل، وفينجشتاين، وآخرين.

إحالات

  1. Jean Mitry, Esthétique et psychologie du cinéma ; Ed. du Cerf. Paris, 2001, P 30.
  2. Ibid, p.32.
  3. Ibid, p.33.
  4. Ibid, p.65.
  5. Ibid, p.66.
  6. Ibid, p.489.
  7. Ibid, p.490.
  8. Ibid, p.493.
  9. Ibid, p.493.
  10. Ibid, p.497.
  11. Dominique Château, Cinéma et philosophie, Paris, Armand Colin, 2005, p. 88.
  12. Jean Mitry, Esthétique et psychologie du cinéma, op.cit. p. 510.
  13. Ibid. p.510.    
  14. Ibid.p. 510
Visited 76 times, 1 visit(s) today