فيلم”المزاج”.. عندما كانت الموسيقى توحد بين البشر

Print Friendly, PDF & Email

من أجمل الأفلام الوثائقية التي عرضت في الدورة الخامسة من مهرجان أبو ظبي السينمائي فيلم “المزاج” El Gusto للمخرجة الجزائرية صافيناز بوصبايا من الانتاج المشترك بين الجزائر وايرلندا والامارات.

هذا الفيلم البديع يبدأ من حي القصبة الشهير في العاصمة الجزائرية، الذي شهد مولد وترعرع فن الغناء الشعبي الذي يسمى في الجزائر بـ”الشعبي”، حتى عند الحديث عن تلك الموسيقى المميزة التي تجمع بين التراث الأندلسي والتراتيل الدينية الاسلامية والغناء البربري والعربي.. وهو الفن الغنائي الذي ولد على يدي مؤسسه ورائده الحاج محمد العنقا.

في القصبة

مخرجة الفيلم تقوم بزيارة الى حي القصبة في عام 2003 لشراء مرآة من أحد المحلات، وهناك تكتشف أن صاحب المحل كان أحد أعضاء فرقة الحاج العنقا ولايزال يحتفظ بالكثير من الذكريات التي ترتبط بهذا اللون من الغناء الذي يدور حول التغني بحب الوطن وحب الناس والخير والجمال وكل القيم النبيلة، كما يتغنى بالشجاعة والاقدام والرجولة.

من هذا المدخل تسعى مخرجة الفيلم نحو رحلة شاقة لاعادة اكتشاف هذا الفن الذي تعيش في داخل وينتقل اليها الولع به، عن السعي للوصول الى أعضاء الفرقة ومنشدي الغناء الشعبي الذين تفرقت بهم السبل بين الجزائر وفرنسا، ولم يجتعوا معا منذ 50 عاما، أي منذ استقلال البلاد.

هذه الرحلة التي تسعى خلالها المخرجة إلى لم شمل أعضاء الفرقة الأسطورية، تأخذنا إلى رحلة أكثر عمقا، إلى الجزائر كما كانت بالأمس، قبل الاستقلال، وبعده مباشرة، وما شهدته من متغيرات عميقة تركت ندوبها على ذاكرة أجيال من الجزائريين الذين كانوا يعيشون معا في وئام وسلام وحب يجمعهم ذلك العشق للغناء الشعبي، أو ذلك الفن الرفيع الذي يقوم على “المزاج” الرائق.

هذا ليس فيلما بسيطا من الأفلام ذات المستوى الأحادي، يهدف فقط الى تقديم هذا اللون الغنائي الذي يستمد خصوصيته من خصوصية المكان الذي نشأ فيه أي من حي القصبة في الجزائر، ذلك الحي الذي كانت تعيش فيه الأغلبية من السكان العرب في زمن الاستعمار الفرنسي، بينما كان محظورا دخول الحي الفرنسي الذي يتمتع بكل الخدمات على الجزائريين. وبعد الاستقلال فقدت القصبة الكثير من رونقها وسحرها كما نرى من خلال الفيلم.

تاريخ فن الغناء الشعبي يتدفق من خلال الذكريات الحميمية التي نستمع اليها على لسان الشخصيات التي تلتقي بها المخرجة عبر بحثها عن أفراد الفرقة. لكننا نتابع من خلال الصور واللقطات الذكية كل ما يتعلق بالقصبة بل وبالجزائر العاصمة أيضا: ساحاتها الشهيرة، وحوانيتها، أزقة القصبة الضيقة ومنعرجاتها المرتفعة فوق الجبال، فتحات النوافذ، الحفر المنتشرة في الطرقات، البيوت المتلاصقة، الدكاكين الصغيرة.

الحنين

إنه فيلم “نوستالجي” بلاشك، يبرز فيه الماضي بقوة على حساب الحاضر. ففي ذلك الماضي، كما نستمع ونرى من خلال بعض الوثائق المصورة، كانت الموسيقى توحد بين افراد الفرقة من عشاق الشعبي، من المسلمين واليهود الجزائريين.

الكاميرا تتسلل وتمضي في حركة لا تتوقف طوال الفيلم، تنتقل من الساحات الى المنازل الى المباني التاريخية، الى الأماكن القديمة لبيوت لم تعد قائمة، الى حيث كان يوجد المعبد اليهودي (الذي يطلق عليه الجميع في أحاديثهم في الفيلم “جامع اليهود”) .. الى لقطات الأرشيف بالأبيض والأسود، التي تعيد رواية قصة الجزائر الحديثة: كيف بدأ النضال المسلح بقيادة جبهة التحرير، وكيف أعلنت الجبهة منع تناول الخمور واغلاق الحانات وبيوت الدعارة وحظر تناول المخدرات.. وكيف انعكست أعمال العنف على نشاط الفرقة، وكيف كان طبيعيا أن يتعاون أفراد الفرقة مع الجبهة ويلتزموا يتعليماتها بعدم الغناء للفرنسيين والكف عن الغناء في الأعراس، بل وكيف نقل محمد العنقا الثورة الى أغانيه وألحانه من “الشعبي” بحيث أصبحت هناك كلمات “شيفرية” تستخدم بشكل رمزي يعرفه الجزائريون في الاشارة الى الثورة التي يتم تمجيدها في تلك الأغاني.

من الخمسينيات الى الستينيات وإلى اعمال التفجيرات التي كانت تشنها الجبهة ضد تجمعات الفرنسيين في الجزائر العاصمة، وما نتج عن هذا من تعقب بعض أفراد الفرقة بل واصابة بعضهم اصابات بالغة أيضا لاتزال آثارها قائمة حتى يومنا هذا.

تنتقل صافيناز بوصبايا أيضا الى فرنسا، والى باريس، تتسلل داخل المعبد اليهودي، تلتقي بأعضاء الفرقة من اليهود الجزائريين هنا وهنا، يروون لها كيف وحدت الموسيقى بينهم وبين اخوانهم المسلمين، وكيف كان الجميع يشعرون بالألفة في “الوطن” قبل أن تبدأ عمليات التهجير القسري أو الهجرة الاختيارية بعد أن تغيرت الأمور والأحوال، ونشأ مجتمع جديد بعد الاستقلال.

فيلم “المزاج” ليس فيلما عن الانتصار والاستقلال فقط بل هو أيضا عما فقدته الجزائر بعد الاستقلال، عن التشتت الذي نتج، عن خروج الكثير ممن يحبون الجزائر، والذين لعبوا دورا بارزا في اقتصادها ونموها من قبل، وكان يمكن استيعابهم والاستفادة من تلك التعددية الثقافية في بناء الجزائر الحديثة.

روح الموسيقى

إنه فيلم عن روح الموسيقى التي توحد القلوب والعقول في حب الوطن، والتي لا تزال تعيش في ذاكرة الجميع من أبناء ذلك الجيل الذي تجاوز السبعين والثمانين من عمره.

ولا يتوقف الفيلم عند تلك الأحاديث الممتدة في الزمان والمكان (هناك شخصية مصطفى تهمي أحد أعضاء الفرقة الذي يجوب بسيارته شوارع العاصمة يروي كيف التحق هو وباقي اعضاء الفرقة بمعهد الموسيقى (الكونسرفاتوار) الى جانب ذكريات أخرة عديدة عن رفاقه وعن ماضي العاصم.

المخرجة تسعى الى جمع أفراد الفرقة وتنجح في النهاية في تنظيم حفل موسيقي كبير يشاركون فيه جميعا مع مجموعة من الشباب الذين ورثوا حب هذا الفن الشعبي الجميل.

افراد الفرقة من الكهول الجزائريين يأتون من الجزائر عبر البحر الى مارسيليا، وهناك يكون في استقبالهم أصدقاؤهم الذين لم يلتقوا بهم منذ خروجهم قبل خمسين عاما، حيث يلتئم شمل الجميع، ثم يستعيدون تألقهم في العزف والغناء في ذلك الحفل الكبير في مارسيليا الذي يؤمه آلاف الجزائريين في المهجر، يرقصون ويتمايلون على أنغام الشعبي.

إن من يعرف هذا اللون من الموسيقى الجزائرية الخاصة سيسعده كثيرا أن يستمع الى مجموعة من أجمل ما في تراث “الشعبي” من أغاني الشيخ العنقا، ومن لا يعرفه سيكتشف كيف أن هذه الموسيقى هي عن حق “موسيقى الروح”.. روح القصبة، عاصمة الشعب التي كانت وأظن أنها لاتزال، تلهم أجيالا من الشعراء والفنانين في الجزائر رغم كل شيء.

عمل كبير

إن فيلم “المزاج”El Gusto  الذي يقع في 88 دقيقة، عمل كبير، يمزج بين الحركة والموسيقى، وبين الغناء والذكريات، بين الماضي والحاضر، وبين زمن الأبيض والأسود وعصر الألوان، رسالته الحب والتفاهم بين البشر، بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية والعرقية، فالرسالة التي تصل الينا من هذا الفيلم البديع، هي رسالة حب وتفاهم. نعم هناك الكثير من الحنين إلى الماضي، ولكن الماضي هنا ليس مقصودا لذاته بل لقيمه وايجابياته التي ذهبت مع كل ما هب على الجزائر من رياح خلال الخمسين عاما الأخيرة.

هل هناك أي نوع من الحنين الى زمن الاستعمار يكمن بين طيات هذا الفيلم؟ أستطيع الاجابة بكل وضوح بالقول إن مخرجة الفيلم التي تتمتع بنضج سياسي واضح، لم تقع في هذا المطب بل استطاعت أن تجعل فيلمها متوازنا من حيث رؤيته، كما هو متوازن في بنائه الفني، وأن تربط بين مفاصله وأجزائه الموسيقى والأغاني.

إنه الشعر الكامن تحت جلد الصور واللقطات، هو ما يرتفع بالفيلم الى مستوى الأعمال الإنسانية الكبيرة. إنه باختصار “متعة خالصة” للعين وللأذن.

Visited 49 times, 1 visit(s) today