“ريتشارد جويل” لكلينت إيستوود: الرجل الذي لم يفقد ظله

كلينت إيستوود مع بطل فيلمه كلينت إيستوود مع بطل فيلمه
Print Friendly, PDF & Email

لم يثر فيلم من الأفلام الثمانية والثلاثين التي أخرجها نجم هوليوود الأسطوري كلينت إيستوود خلال ما يقرب من خسين عاما، ما أثاره فيلمه الأحدث كمخرج وهو فيلم “ريتشارد جويل” وربما يكون الاستثناء الوحيد هو فيلم “قناص أميركي”.

كلينت إيستوود مغرم بفكرة البطولة، والبطولة “الأميركية” تحديدا، وبطولة الرجل الأميركي الأبيض إن شئنا الدقة. وقد برزت هذه الفكرة في عدد كبير من أفلامه نذكر منها فقط ثلاثة أفلام حديثة هي “قناص أميركي” و”سوللي” و”قطار الساعة 3 و17 دقيقة الى باريس”. ومع استثناءات قليلة، يعرف ايستوود كيف يروي قصة مشوقة مثيرة محكمة الأطراف، وكيف يختار لها الممثلين المناسبين. ومواقف ايستوود السياسية اليمينية الرجعية، لا شك انها تنعكس على أفلامه ولو بطريقة غير مباشرة.

إلا أن ايستوود أدهشنا أيضا عندما قدم أفلاما بعيدة كل البعد عن تمجيد “البطولة البيضاء”، بل يمكن القول إنها تنتمي للتيار الليبرالي في هوليوود، كما في فيلمه “غران تورينو” Gran Torino (2008) الذي يقوم ببطولته في دور محارب عجوز متقاعد شارك في الحرب الكورية، يتعلم كيف يتخلى عن عنصريته ويتضامن مع جيرانه الآسيويين، ثم فيلم “انفكتوس” (2009) الذي يبرز فيه دور دور نيلسون مانديلا كرئيس لجنوب افريقيا في الوقوف وراء منتخب كرة بلاده في الرغبي ودفعه للفوز ببطولة كأس العالم وبالتالي توحيد شعبه من البيض والسود، وحشده وراء المنتخب.

الحكم على أفلام إيستوود يمكن أن تتأثر بموقفك المسبق من أفكاره السياسية. ولعل هذه الفرضية تنطبق أفضل ما يكون، على فيلمه الجديد “ريتشارد جويل”، فإذا ذهبت لمشاهدة الفيلم وفي ذهنك موقف ايستوود العدائي من الرئيس السابق باراك أوباما وسخريته منه، وهجومه الفظ عليه خلال مؤتمر للحزب الجمهوري في 2012 ثم تأييده للرئيس ترامب، سوف تميل بالطبع إلى الحكم على الفيلم باعتباره عملا دعائيا رديئا مليئا بالعيوب والنواقص، يدعم مفاهيم ترامب، أو بالأحرى، يؤيد نظرته الراسخة السلبية إلى وسائل الإعلام واتهامه لها بأنه تمارس الكذب والتضليل، وصراعه الشرس مع أجهزة “الدولة العميقة” التي لا يفتأ يهاجمها ويتهمها بالتآمر ضده.

أوليفيا وايلد: الصحفية المغوية

أما إذا تركت نفسك تشاهد الفيلم وانت متحرر من أي قناعات سياسية مسبقة فسوف ترى فيه الكثير من مناطق القوة والإثارة والإقناع، وأنه يُقدِم في سياقٍ سينمائي مؤثر رؤية نقدية تستند إلى أرضية حقيقية وتسير على نهج أفلام أخرى سبق أن كشفت دون رحمة، انتهازية البعض في وسائل الإعلام الأميركية ربما يكون أقربها إلى الذاكرة فيلم “صرصار الليل” (2014) Nightcrawler الذي أبدع فيه جاك غلينهال في أداء دور المراسل التليفزيوني الانتهازي الذي لا يتورع عن التزوير ولوي عنق الحقائق من أجل الفوز بالسبق الصحفي والكسب.

شخصيات حقيقية

لكن “ريتشارد جويل” Richard Jewell يستند على وقائع وشخصيات حقيقية. وإذا كان من الطبيعي أن يترك الفنان السينمائي لنفسه العنان لكي يبتكر ويمزج الحقيقة بالخيال عن طريق خلق مشاهد متخيلة مبتكرة، وشخصيات ربما لم توجد على أرض الواقع، لكي يجعل الصياغة الدرامية لفيلمه أكثر إقناعا وإحكاما، إلا أنه هنا تحديدا تبرز المشكلة، فيسهل كثيرا الهجوم على الفيلم- كما حدث- بزعم أنه غير مخلص للحقيقة.

موضوع الفيلم يدور حول شخصية شاب بدين، يدعى ريتشارد جويل (بول وولتر هاوزر)، يعيش مع والدته في أطلانطا. نراه أولا، في عام 1986، أثناء عمله لدى إحدى شركات المحاماة، مجرد عامل بسيط يحمل الأوراق وينظف المكاتب. لكنه يتعامل خلال ذلك مع المحامي “واطسون بريانت” (سام روكويل) ويتودد إليه ويكسب ثقته وتعاطفه، ثم يترك الشركة لينتقل للعمل كحارس أمن في الجامعة. لكنه يبدو مضطربا من البداية، فهو مغرم كثيرا بالقيام بدور الشرطي، لكننا سنعرف انه طُرد من العمل بالشرطة بسبب اضطرابه النفسي وميله – ليس للعنف- بل للمغالاة في تطبيق القانون، وهو يعبر عن احترامه الشديد للسلطة في أكثر من موقف، حتى بعد أن يصبح هدفا للسلطة. فثقته كبيرة في “المؤسسة”. وعندما يغالي في التعامل مع مجموعة من الطلاب في المدينة الجامعية كانوا يتعاطون الخمر، يفقد وظيفته. ولكنه يلتحق بالعمل كحارس أمن لدى الشركة المختصة بتأمين الألعاب الأوليمبية في أطلانطا. هنا يقفز الفيلم إلى 1996.

ريتشارد الذي سيصبح بطلا قبل السقوط

حتى لا نستغرق كثيرا في السرد، يكتشف ريتشارد نتيجة هوسه بإجراءات الأمن والتأمين ورغبته في أن يثبت لرجال الشرطة أنه ليس أقل حصافة منهم، يكتشف حقيبة ملقاة أسفل برج في الملعب الرياضي، ستكتشف الشرطة أنها مليئة بالمتفجرات، ويقوم هو ببذل جهد كبير في إبعاد الجمهور عن المنطقة، وعندما يقع الانفجار يتسبب في قتل شخصين واصابة نحو مائة آخرين. ولو لم يكن ريتشارد قد أبلغ عن تلك الحقيبة، لكان عدد الضحايا قد أصبح كبيرا. هنا يصبح ريتشارد بطلا في أنظار الرأي العام، تتلقفه شبكات التليفزيون الكبرى لإجراء المقابلات معه، بل ويعرض عليه أحد الناشرين رواية تجربته في كتاب.

شهر العسل والاحتفاء ببطولة ريتشارد جويل لا يطول، فبعد ثلاثة أيام فقط، تبدأ المباحث الفدرالية في القاء ظلال الشك حوله، وتعتقد أنه ربما يكون هو المسؤول عن وضع القنبلة لكي يبدو بطلا خاصة بعد أن تتلقى مكالمة من مدير الجامعة يذكر لهم كيف أن ريتشارد مهووس بفكرة الأمن. وتلقى هذه النظرية ترحيبا من ضابط الجهاز “توم شو” (جون هام) الذي يشعر بالغضب الشديد كون التفجير وقع أثناء وجوده في الملعب دون أن يفعل شيئا بل كان مشغولا في مغازلة المراسلة الصحفية الجذابة “كاثي سكراغز” (أوليفيا وايلد).

تتحول حياة ريتشارد جويل الى جحيم، فتحاصره أجهزة الإعلام، ويتم تشويه صورته والتنقيب في ماضيه، ويحاول ضباط إف بي أي بكل الوسائل ممارسة الضغوط الشديدة عليه لإثبات تورطه في الحادث، وتنتهك حرمة بيته والأشياء الخاصة بوالدته “بيبي” (كاثي بيتس) ولا يجد سوى المحامي “واطسون بريانت” يقبل الدفاع عنه بعد أن يتيقن من براءته.

تدمير إنسان

الفيلم يقول ببساطة إن مؤسسة الإعلام والمؤسسة الأمنية، تملكان تدمير إنسان لمجرد الاشتباه، وأن المحاكمة عبر وسائل الإعلام لها عواقب وخيمة على الحريات الشخصية، وهو يقول ذلك من خلال سرد موضوعي وبناء مقسم الى ثلاثة أقسام: ريتشارد جويل وحياته الشخصية قبل الحادث، ثم الحادث نفسه والعودة الى الانفجار أكثر من مرة بعد ذلك، تارة على هيئة كابوس عند ريتشارد، أو تداعيات في ذاكرته خلال التحقيق معه، وتصوير علاقته بوالدته، وأصدقائه وولائه الشديد للدولة على العكس من المحامي الذي يعتقد ان الدولة شر وأنه يخشاها أكثر مما يخشى الإرهاب ويضع لافتة بهذا المعنى على باب مكتبه. والقسم الثالث يتعلق بالتحقيقات والضغوط التي يتعرض لها ريتشارد والجهود التي يبذلها المحامي في اثبات براءته، وكيف يقع ريتشارد في الكثير من الأخطاء خلال التحقيقات ويبدي مرونة كبيرة مع رجال المباحث وهو ما لم يكن لصالحه، ويكاد يقع في المصيدة التي نصبوها له، ليتحول من شخص مؤمن بعدالة النظام والسلطة، إلى رجل مكافح صلب يتعلم كيف يواجه السلطة ويتحدها إذا لزم الأمر.

كلينت إيستوود كممثل ضليع في التمثيل، يجيد انتقاء الممثلين والتحكم في أدائهم. وهو ينتقي ممثلا شبه مجهول هو “بول وولتر هاوزر”، ويسند إليه دور البطولة، ليرفعه بأدائه إلى مصاف كبار النجوم. وليس من الممكن تصور غيره في هذا الدور، فهو يعبر بجسده وصوته وعينيه، يتقمص الشخصية ويعيش في داخلها، يكتم انفعالاته، ويتلعثم حينا ويبدو حينا آخر كما لو كان يعرف الطريق الى الحقيقة، وحيدا، يشعر بقدر من التعاسة لكنه يتماسك ويتجاوز الشعور المرير بالإحباط، ويواجه الموقف في النهاية بكل شجاعة.

يدعم هذا الأداء المحوري في الفيلم، أداء الممثل سام روكويل في دور المحامي “واطسون” فهو يؤدي في بساطة وتجانس مع المواقف المختلفة، ويبدو صادقا في تعبيراته وانفعالاته. ولكن تظل نقطة الجذب الرئيسية في الفيلم قبل هذا وذاك، الأداء البديع للممثلة المخضرمة كاثي بيتس في دور الأم. إنها وحدها مدرسة في ضبط الانفعالات والقدرة على التلوين والانتقال من الرقة الشديدة إلى الفزع ثم الغضب ثم التضرع الى الرئيس (كلينتون) في الخطبة المؤثرة التي تلقيها خلال المؤتمر الصحفي الذي ينظمه المحامي للدفاع عن موكله أمام الرأي العام. ولذلك ُرشحت كاثي بيتس لأوسكار أفضل ممثلة ثانوية عن هذا الدور.

ريتشارد والرجل الذي سيدافع عنه

شخصية الصحفية كاثي سكراغز تؤديها أوليفيا وايلد في حدود الدور كما هو في السيناريو الذي كتبه بيللي روي (عن مقال بعنوان “كابوس أميركي” نشرته مجلة “فانيتي فير” بقلم ماري برينر). ولكن من عيوب السيناريو أن جعل الصحفية تتأثر وتبكي وهي تستمع إلى الخطبة التي تلقيها “بيبي” والدة ريتشارد جويل، تطلب الرأفة لابنها، والتدخل لوقف حالة الحصار التي يعاني منها. وهو دون شك، مشهد الذروة في الفيلم. ولعل من عيوب الفيلم في القسم الثالث منه، الإستغراق في تفاصيل كثيرة تتعلق بإجراءات التحقيق والحيل التي تلجأ إليها المباحث كأن توهم ريتشارد بأنهم سيصورون فيلما معه عن الحادث في حين أنهم ينصبون مصيدة للإيقاع به.

جدل حول الفيلم

 أما الضجة التي أثارها الفيلم وحالة “العداء” التي قوبل بها في الصحافة الأميركية فتعود أساسا إلى اتهام الفيلم بتصوير الصحفية “كاثي سكراغز” وهي شخصية حقيقية كانت تعمل لصحيفة جورنال أطلانطا”، بأنها شخصية شرسة لا تتورع عن أي شيء للحصول على المعلومات، فنراها في الفيلم تغوي ضابط المباحث الفيدرالية، وتعرض أن تمنحه نفسها مقابل الحصول على اسم الشخص محل الشك لدى الجهاز. وتحصل منه بالتالي على اسم ريتشارد جويل، وتنشره الصحيفة لتحقق سبقا صحفيا كبيرا. وهو ما نفته الصحيفة ودافعت بشدة عن كاثي التي يتهمها الفيلم بتدمير الحياة الشخصية لريتشارد جويل، وتحويله من بطل أنقذ حياة الكثيرين إلى مجرم.

وقد شنت مجلة “فاريتي” حملة شديدة ضد الفيلم واتهمته في مقال خاص بالكذب مرتين، مرة فيما يتعلق بدور الصحفية كاثي سكراغز (التي توفيت عام 2001 بعد تناول جرعة زائدة من المخدرات)، ومرة أخرى بالكذب المجازي عندما يتهم أجهزة الأمن وخاصة جهاز إف بي أي، بتلفيق التهم للأبرياء، وتعريضهم لضغوط شديدة، وتتهم الصحيفة الفيلم بأنه يخدم سياسة الرئيس ترامب في هجومه على الصحافة والمباحث الفيدرالية والمخابرات واتهام لها بعدم الولاء للبيت الأبيض.

وقد امتد الجدل إلى صحف كثيرة أخرى، وانعكس بشكل مباشرة على غالبية ما نشر من مقالات النقد السينمائي التي قللت كثيرا من قيمة الفيلم، واتهمته بتزوير الحقائق والانحياز، وأغفلت أهمية عنصر التمثيل في الفيلم، ووصفته “فاريتي” بالكاريكاتورية والسطحية. وقد استندت الصحف في إدانة الفيلم إلى أن صحيفة “جورنال أطلانطا” كسبت القضية التي رفعها ريتشارد جويل عليها، استنادا إلى أنها نشرت “الحقائق” في ذلك الوقت ولم تخترع شيئا لم يكن له وجود، لكنها في الحقيقة ساهمت- مع غيرها- في نشر الكثير من الجوانب عن حياة جويل الشخصية، أثارت الشك في مصداقيته، وأنحت عليه باللائمة عن دوره المزعوم في التفجير، رغم عدم توجيه الاتهام إليه بشكل رسمي إليه. لذلك تمت تسوية قضايا أخرى كان قد رفعها جويل على شبكة سي إن إن وغيرها، خارج المحكمة بدفع تعويضات له.

يذكر الفيلم في نهايته أن ريتشارد جويل توفي عام 2009 بنوبة قلبية نتيجة مضاعفات مرض السكري عن عمر يناهز 44 عاما. ويقال إنه أصيب بالمرض نتيجة الضغوط النفسية الشديدة التي تعرض لها. ولم يتم القبض على الفاعل الحقيقي سوى عام 1998 بعد وقوع تفجيرين آخرين.

Visited 170 times, 1 visit(s) today