عن فيلم “البحر بيضحك ليه”.. السينما والتنين الأكبر!

Print Friendly, PDF & Email

“ما هو هذا التنين الاكبر الذي لم يعد يرغب فيه العقل سيدا وإلها؟

فى كتابه الاشهر “هكذا تكلم زرادشت” يعرفنا نيتشه على لسان زرادشت بالـ”التنين الأكبر” فى اولى خطبه “التحولات الثلاثه” تلك الخطبه التى تخبرنا عن ثلاث حالات يمر بها العقل فى رحلته الروحية (جمل، أسد، طفل) ولكنها تصف تحولان فقط (جمل الى اسد و اسد الى طفل).ويظهر فيها التنين الاكبر فى التحول الثانى كاخر الاسياد التى يريد العقل الاشتباك معها للتحرر من سلطتها عليه.

لكن لماذا التنين؟ وما هى الدلاله الرمزيه التى يرمى اليها زرادشت باختياره له؟
لنفهم اكثر اتى لنا التحليل النفسى بعد ذلك محاولا فك شفره اللاوعى بتحليل رموزه، والرمز فى التحليل النفسى هو ان اللاوعى يستخدم اسلوب من التصوير غير المباشر و المجازى للافكارو الصراعات والرغبات الواعية.بهذا المعنى يمكن ان نقول ان كل شئ كائن فى الواقع له مرده الرمزى فى اللاوعى

وهنا نقف على ما يقصده زرادشت برمزية التنين فالتنين فى الثقافه الاوروبيه هو حارس الكهف الذى به الكنز وباستخدام طريقة التحليل النفسى نجد ان الكهف يمثل اللاوعى والكنز يمثل نفسك الحقيقيه اما التنين الذى يقف حائلا بينك وبين الكنز (نفسك الحقيقيه) يمثل الرهبة الموجوده فى اللاوعى، وعند نيتشه ما هو الا القيم التى غرسها اللاوعى الجمعى فى اللاوعى الخاص.

“البحر بيضحك ليه؟” فيلم مصرى انتاج عام 1995 لمخرجه محمد كامل القليوبى (الذي كتب له السيناريو عن رواية جورج أمادو “الرجل الذي مات مرتين”) الذي يحدثنا فيه عن حسين الذي مر بالحالات الثلاث للعقل التى أخبرنا بها زرادشت فى رحلته الروحيه صوب نفسه ومن ثم استطاع ان ينفك من براثن التنين الاكبر بعد ان كان مستغرقا معه حياته كلها.

 
بخفة وعبقرية استطاع القليوبى ان يسرد حكايته فوضع على راس كل فصل من الفصول “حلم” كذروة لاحداثه ووقعها على نفس حسين لتكون نقطة تحول فى الشخصية وبالتالى فى مجريات القصة.

الحلم الاول


تدور احداث ذلك الفصل في دائرة مغلقة (البيت- العمل- المقهى) فيطبع الملل على احداثه لكن القليوبى استطاع ان يطوع ذلك الملل كاداة فنية تعكس حياة الشخصية وفى نفس الوقت تظل تدفع عجله القصة الى الامامفبين ثنايا ذلك الملل كانت بعض المشاهد التى تكشف لنا ما يدور فى خلجات عقل حسين؛ ففى المشهد الذى يعلن فيه حسين انه بلغ الخامسه والاربعين واضاع نصفها دون ان يفعل ما يريد و النكتة انه حتى لا يعرف ما كان يريد، يفضح لنا ادراك حسين التام لمأساته وتتجلى لنا روح الجَمَل فى نفسه المثقله باثقل الاسئله ” هل انا حى؟!”، “هل عشت حقا؟!”


يخبرنا نيتشه ان الجَمَل هو ذلك العقل المكابد الممتلئ بالاسئلة، انها روح بطوليه لانها تجرؤ على السؤال لذلك فانها تتواجد فى فئه بعينها تلك الكائنات التى تفصلهم وتميزهم اسئلتهم غن الناس ككل متسق وهنا فقط سنجد المعنى فى صمت زرادشت، فزرادشت لم يخبرنا كيف يستحيل العقل الى جمل وذلك ان التحول الى جمل لا يمكن ان يُعلَم؛ انه موضوع فى الانسان كالغريزة.


تتصاعد احداث الفصل بعد ذلك ليكتشف حسين ان جميع الدعائم التى تقوم عليها حياته ما هى الا دعائم واهية، فالطفل الذي كان ينتظره ما هو الا حمل كاذب، واصدقائه تنكروا له، اما فى العمل فيكتشف ان الجميع يخدعه والادهى انه ينقل من عمله دون ابداء اسباب وهو الذي لم يغادر الاسكندريه حياته كلها

 
هنا وهنا فقط تكون قد قطعت جميع الأواصر التى كانت تربط حسين بهذه الحياة، لقد انتظر منها ان تعطيه لكن انتظاره كان بلا جدوى، ان اغتراب نفسه وشعوره بان حياته ما هى الا مجرد كذبة وضع اسئلته امامه موضع التساؤل الجاد.


يقول زرادشت ان في الصحراء الأكثر خلاء يحدث التحول الثانى: اسد يريد انتزاع الحرية، وسيد يريد ان يكون.

محمد كامل القليوبي

الحلم الثاني
يبدا الفصل الثانى بأن يوجه حسين صفعة لحياته كلها، زوجته واخته، زملاؤه فى العمل ومديره، حتى اصدقاء القهوه لم يسلموا منها، انها صفعه كان يوجهه لنفسه لا لهم، كما سيخبر زميله فيما بعد


هنا استحالت نفس حسين الى أسد، أسد يبحث عن الحرية ذو روح تسعى للانفكاك من هيمنه المجتمع والافراد الاخرين تلك الهيمنه التى سيطرت على حياته بالكامل. انها صورة من صور التنين الاكبر الذي وضع حسين نفسه فى مواجهته، انه يريد ان يعيش قدره الخاص وحياة من صنعه هو. فالقرار الذي اتخذه حسين ليس بالنزوة وليس بالانفعال الزائل، فنحن نرى حسين فى ليلته الاولى بحياته الجديدة وقد جمعته باحدى العاهرات غرفه واحده ليخبرها انه لا يستطيع ان يفعل ذلك مع امراه لا يحبها، ان التحول الى اسد ياتى من الحاجة الروحية الى السكنى، فحسين ليس بالمتمرد من اجل التمرد ولا بالمحروم الباحث عن حياه الصعلكة والمجون، انه شخص يبحث عن الحياة وقبل كل ذلك يبحث عن نفسه.


نجد حسين بعد ذلك يقع فى غرام “نعيمه ولعه” ويقاتل لاول مرة فى حياته من اجل ما يريد ويظفر بحبها، وسنجده ينقذ العاهرات ويجعل من غرفته ملجئا لهن ويصرخ صرخة مدوية فى وجه التنين عندما يتزوجهن فى القسم امام صهره القديم ويخرج متابطا أذرعهن بتحيه عسكريه فى مشهد رمزى رائع. ان حسين الذى كان فى ما مضى يستدل على طريقه من اثار اقدام التنين الاكبر، اصبح يرى كل ذلك جنونا واستبدادا بل ومانعا قويا يقف حائلا بينه وبين حريته فلقد وجد نفسه فى حياته الجديدة بل الاحرى بنا ان نقول انه يصنع نفسه فى حياته الجديدة لكن قبل البناء كان على حسين ان يعطى مساحه للجديد بهدم القديم، وهذا ما تفعله روح الاسد؛ قادره فقط على التدمير لا الابداع كما يخبرنا زرادشت الا انها سُلَّمَه لابد ان نمر من فوقها فى رحلة النضوج الروحى.

الحلم الثالث

ياتى الحلم الثالث ونحن فى شك من موت حسين ياتى وكان حسين فى عالم البرزخ يسترجع حياته التى لم يختر بها شيئا ويندب حظه على فوات الاوان، ليسلب منا هذا الحلم الانفاس ويضع امامنا كل الاسئلة الممكنه.


ان اختيار القليوبى للارشادات الموجوده على ظهر كتاب المدرسه لاصدق تعبير عن التنين الاكبر فى اوضح تجلياته فلقد جاءت جميعها بصيغه الامر (اغسل، احترم، اقرا ..الخ) اوامر يجب أن تتبع لا ان تناقش اوامر اخبرت حسين الصغير عن كل شئ الا عن كيفية طيران طائرته التى وضعت على مدار الفيلم كتعبير رمزى عن التوق للانعتاق والحرية.


ان انتهاء هذا الحلم كان اعلانا لتلاشى كل موضع ل “ينبغى عليك” فى نفسه، حتى ان سيره فى جنازة نفسه القديمه جعله يضحك منها بل وتتعالى ضحكاته.


هنا استحال حسين طفلا ان الاسد كان يصفع (يهدم) اما الطفل فيضحك فهو براءه ونسيان وبدء جديد كما تكلم زرادشت فحسين يولد مرة اخرى بالاسم نفسه لكن الشخص مختلف ايما اختلاف، لا يخبرنا القليوبى ماذا يحدث لحسين بعد ذلك فى حياته او الى اين تسير، كما لم يخبرنا زرادشت ماذا بعد التحول لروح الطفل؛ انها روح عادت لمنزلها مره اخرى فى عالم من صنعها هى، عالم مسئوله فيه عن كل اختيار وعن كل اريد،عالم خالى من التنانين.

هل هى دعوة للهروب مع الحواة؟!


لا؛ فالعمل الفني يأتي كمجاز عن الحياة وليس الحياة نفسها، فالعمل الفنى الكبير باتى لنا بالتساؤلات ويضعها امامنا لنعيد قراءة حياتنا كل حسب معطيات حياته، فلقد قدم لنا زرادشت التنين وقدم لنا القليوبى حسين

فكم منا حسين؟ واين أثر التنين في حياتنا؟ هذا هو السؤال!

Visited 103 times, 1 visit(s) today