عاطف الطيب.. الصارخ في زمن الصمت
مدخل
من الصعب جدا اختزال مسيرة إنسان في سطور.. وتحديدا إذا كان ممن ترك نتاجا يمكن الرجوع إليه بالمراجعة والدراسة والبحث، وخصوصا أن هذا الإنتاج يعتبر غزيرا قياسا مع عمر صاحبها القصيرة، ومن هنا لا يمكننا النظر لعاطف الطيب كونه مجرد فنان عادي أو مخرج يمتلك أدواته، وحرفيةً وصنعةً فنية برز من خلالها بين أبناء جيله، وبصمةً خلدته بما ترك من أفلام، أو حتى اعتباره صاحب رأي ورؤية بثها في ثنايا أعماله..
إنما كان – رحمه الله – صارخا ضد الفساد. فساد المنظومة الحاكمة التي تسحق بلا رحمة طبقته المتوسطة التي ينتمي إليها, والتي ظل مدافعا عنها، أمينا في نقل تفاصيل معاناتها اليومية وتشبثها بالبقاء على شريط سينماه.
مسيرة
كان مُلما بواقعه متعايشا مع وجع مجتمعه، قضى شطرا من حياته يخدم جنديا في جيش بلاده يواجه عدوا خارجيا معلوما تعدى على أغلى ما يملك (الأرض) بعد هزيمة طعنت المصريين في كرامتهم، وشارك في حرب لم تكن لاسترداد الأرض فقط؛ وإنما لأجل الكرامة والحفاظ على هوية وتماسك المجتمع.
وحين انتهى من تأدية الخدمة العسكرية.. خرج ليصدمه الواقع، إذ فوجئ بعدو من الداخل أشد ضراوة من عدو الخارج الذي شارك في الحرب ضده.. فبدأ بتحليل مجتمعه وتشريحه بوعي المثقف المهموم، وأخذ يشخص مواطن الخلل، بعدما شعر – وكثير من أبناء جيله – أن من ضحى لأجل الوطن هم أبعد الناس عن جني ثماره، بل وعانوا الإقصاء بينما ظهرت على سطح المجتمع طبقات بدأت تحصد بشراهة وتكنز خيرات البلد بكل وسيلة متاحة مشروعة وغير مشروعة.
فتكون وعيه واكتملت رؤيته في معرفة أسباب انهيار ما حارب لأجله.. وأشد ما أوجعه مدى التفكك الذي أصاب المجتمع، وما اعترى معاييره من تغيير وانهيار سريع لقيم تحفظ تماسكه، حدث ذلك في الوقت الذي كان هو على الجبهة يخرج من حرب ليدخل أخرى. وهو ما قاله حرفيا على لسان أحد شخصياته (حسن في سواق الأوتوبيس).
وباكتمال رؤيته ونضوجها صار أكثر قدرة على نقل ذلك في سلسلة أفلامه، وأعلى صوتا بين أبناء جيله في التحذير من فداحة المآلات.. في محاولة منه لتقديم رؤية تصحيحية لأوضاع وطنه أو قل (إصلاحية).
رؤية إصلاحية
المتتبع الواعي لأفلام الطيب يلاحظ أنه لم يكتف بكونه كرس حياته كصرخة تحذير في وجه الظلم وتجذر الفساد في وطنه وإنما كان مصلحا.. فقد تجاوز كشف مواطن الخلل في مجتمعه وتعريتها، وبعد هذا التشخيص، حاول تقديم رؤية يبثها في ثنايا أفلامه (للإصلاح) وحتمية مواجهة الفساد وعدم السكوت عنه، وكذلك (الكيفية) التي يراها مناسبة لهذه المجابهة..
والآن، لنتبع طرحه من البدايات، لنركز على رؤيته وما يريد إيصاله من رسائل؛ ومفتاح ذلك (نهايات أفلامه الصارخة) كما سنرى. مع حفظ حقوق أصحاب قصص وسيناريوهات أفلامه بعدم الحديث عنهم، فالكلام هنا عن رؤية شاملة في مسيرة عاطف ومجمل أعماله “كون الفلم يُنسب لمخرجه”.. مع مراعاة التسلسل الزمني للعرض.
(سواق الأتوبيس (1982
هذا الفيلم يُبرز صدمته وحزنه وإحباطه، ويعلن رفضه الاستسلام أو الهروب، بل يؤكد إصراره على المواجهة؛ إذ يواجه حسن بطل الفلم (الذي يمثل شخص عاطف) بعد خروجه من حروب خاضها دفاعا عن بلده؛ ليواجه فسادا نخر في عصب الوطن، وهو هنا يطرح سبب ما أوصلنا لذلك بمنتهى الوضوح: التحالف المقيت بين سلطان (السلطة) وعوني (المنتفعين) من بقاء الوضع القائم بكل تشوهه؛ مما أدى لأوضاع كارثية في غيابه أثناء الحرب، حتى تراكمت ديون الورشة (الوطن) وأوشكت على الضياع بسبب هذا التحالف.
هذا بالإضافة لصدمة عمره في تخلي أخواته عنه؛ ليواجه وحيدا كل هذا الكم من الفساد والإحباط، حتى أنه لم يجد بدا من الانفجار في النهاية الشهيرة للفلم.. صابا جام غضبه على الفاسدين (يا ولاد الكلب) وفي الخلفية يصدح النشيد الوطني (بلادي بلادي)، بينما يظهر في خلفية المشهد مبنى جامعة الدول العربية، ليؤكد بصرخة النهاية الحادة أن ما قدمه (الفلم) أبدا لم يكن اجتماعيا وحسب، وإنما ذو طابع وتوجه سياسي يسعى للتغيير.. راسما سبيله الوحيد لتحقيق ذلك.. هو (المواجهة لا الهرب) وعدم الركون (الطرمخة) للفاسدين “سارقي قوت الشعب ومقدراته وآماله، محذرا من خطورة السلبية وعواقبها على المجتمع.. بظهور طبقات شوهت ملامح البلاد، وسيخرج منها أجيال أكثر تشوها وفسادا (مشهد زوج أخته وابنها على مائدة الطعام) حيث البيت صار مخزنا، والأبناء تجارا جددا يتحدثون ويأكلون ويشربون بطريقة سوقية تزيد من صدمته..أو ربما يرمي بهذا المشهد الختامي لتخلي الدول العربية عن مصر بعد انتهاء الحرب؛ واهتمامهم بشؤونهم وتركها تواجه مصيرها مثقلة بتبعات الحرب وحيدة كبطل الفلم.
وهو هنا بعد – صدمته وصدامه – يعلنها صريحة: إن الحرب كما الثورة يقوم بها الشجعان؛ بينما يجني ثمارها الجبناء الفاسدون الانتهازيون.. وهذا ما كرر طرحه في (كتيبة الإعدام).
(التخشيبة 1984)
الطبيبة التي تنتمي للطبقة المتوسطة، يتهمها زورا شاب مستهتر فاسد بالسرقة والطعن في الشرف؛ تحاول عبثا بالقانون إثبات براءتها.. فينقل لنا ما تعرضت له من ظلم وحيرة وحزن لتخلي زوجها عنها في أصعب مواقف حياتها.. (وهو ما نلمحه في معظم شخصيات عاطف التي يعكس لنا ببراعة مدى حزنها وصدمتها وحيرتها وإحباطها وصولا لحتمية الانفجار..)
ليصل مع المشاهد في هذا الفلم؛ أن الحل الوحيد لمجابهة فساد الواقع هو (القوة) والعنف المفرط وربما (القتل).. ويختم الفيلم بقول أحمد زكى: (لو مكنتيش قتلتيه، كنت قتلته انا.. كنت قتلته انا) وهي نفس الحالة التي انتابت المشاهد، وتعمد المخرج إيصاله لها – من خلال طرحه للحبكة وصولا لهذه الحتمية – متوحدا مع غضب وحنق البطل.
رؤية أخرى للإصلاح
من خلال ما طرحه في أفلامه، لا يصعب على متتبعها تحديد واستنتاج أفكار عاطف، وأنها غير جامدة؛ بل ديناميكية متحركة، متغيرة بتغير الظروف والمستجدات..
ففي (الزّمار (1985
يقدم أطروحة أخرى للتغيير من خلال: (الكلمة، الشعر، الناي ومحاولة نشر أفكاره وبناء يوتوبيا؛ بتوعية العمال بحقوقهم، وضرورة المطالبة بها وعدم التفريط والمهادنة – وربما نلمس عنده حسا اشتراكيا – بتكوين بروليتاريا لا تستسلم) ومحاولات الهروب بأفكاره من المدينة المزدحمة (العاصمة) التي خرج منها مطاردا ليستقر في قرية بعيدا عن ضجيجها؛ ليبذر أفكاره علها تثمر هنــاك..
حتى نصل لنهاية الفلم بصرخة تتردد أصداءها (ليه يا حسن يا ولدي تضيع شبابك؟ ليه؟!) وهي التساؤلات العريضة التي تراود المصلحين في كل زمان ومكان؛ حول جدوى ما يقومون به خاصة في لحظات يشوبها الإحباط، وما فائدة الكلمة؟ وهل تكفي – وحدها – لإحداث التغيير المنشود؛ حتى وإن اقترنت بالبراءة وحُسن النوايا؟!
(البريء 1986)
من أشهر أفلامه التي تجسد قسوة القهر، الذي يصل منتهاه بالتعذيب والقتل، وبين النهاية الأصلية للفيلم والنهاية الرقابية نستطلع فكرته سواء (بالقتل) لمواجهة كل هذا القهر، أو بالصرخة المدوية رفضا لعل ذلك يجد صداه..
(ملف في الآداب (1986
يتناول هنا قضية الحريات الشخصية، وضرورة احترامها وأن تُصان وفق القانون بعدم التعدي على حياة الناس الشخصية، وعدم انتهاك خصوصياتهم تحت أي مسمى وزعم.
(ضربة معلم 1987)
يواجه ضابط الشرطة “المنتمي للطبقة المتوسطة أيضا” قضية، يصطدم من خلالها بذلك التحالف الذي ظل يؤرق عاطف طوال حياته بين السلطة ورجال المال الفاسدين.
وفي هذه القضية يكتشف أن فارق الإمكانيات يرجح كفة التحالف الفاسد وقوته.. وبعد صراع مع النفس والتعرض لضغوط رهيبة من قياداته في الوزارة أو بمغريات من الفاسدين تفوق قدرته على المواجهة؛ لكنه مع ذلك لا ينسحب ولا يستسلم؛ بل يقرر المواجهة؛ لكن بالتخلي عن فكرة المواجهة بالقوة ويركن لحل يقدمه عاطف بديلا اضطراريا ورؤية ثالثة للإصلاح.
فيلجأ لـ (الحيلة) في المواجهة، (لا يهرب كمعظم شخصيات عاطف المتحدية).. وغالبا ما يتخلى عاطف في هذه الحالة عن اعتياده لـ (النهايات الزاعقة) للتتناسب وهدوء (التحايل) كخيار للرفض والمواجهة والذي سنلمحه يكرره في فلميه الأخيرين.. وكأنه يلمح بالمثل الشعبي “أخذ الحق حرفة” وأن القوة وحدها لا تكفي أحيانا.
في (كتيبة الإعدام 1989)
هنا يعاود تناول فكرة المواجهة والمجابهة باستخدام العنف واعتباره وسيلة التطهر والتطهير وخصوصا بعد طول صبر وقهر, وليس عنفا عاديا وإنما تتجسد فكرة (حتمية انتزاع الحقوق) (تؤخذ الدنيا غلابا) إذ تصل بنا الحبكة أنه لا بديل عنها؛ ولو وصل الأمر حد القتل خارج إطار القانون، لدرجة اشتراك رجلين من رجال الشرطة في التخطيط والتنفيذ.. حيث نلاحظ تحول الصراع باستمرار الظلم والقهر لـ(ثأر، ثأر بلد بحاله)، وهو ما استطاع بحرفية إيصالنا لهذه الحالة، وإقناعنا أيضا؛ لدرجة أن تضج قاعة المحكمة والسينما معا بالتصفيق الحاد تأييدا بل ومباركة للقتل!
وفي (الهروب 1991)
تستثمر السلطة قضية عادية، وتحولها قضية رأي عام, تخرجها وقتما شاءت كعصا موسى لتلتهم قضايا فساد كبرى متورط فيها رجال من السلطة، موظفا ثيمة (كونت دي مونت كريستو), التي سبق وتناولها في أدبنا العربي نجيب محفوظ في (اللص والكلاب).. إذ يحاول (منتصر) الانتقام بيده من كل من خانوه، وفي المقابل يبرز عنفا جليا وبلا هوادة من جانب السلطة أثناء فض اعتصام طلبة الجامعة، والتخلص من منتصر بقتله، حتى وإن كلف ذلك قتل أحد رجال الشرطة معه.
أما في (ناجي العلي 1992)
فنلاحظ السلطة الفلسطينية المتهمة باغتيال الفنان ناجي العلي تستخدم العنف المفرط (استصدار قرار اغتياله وتنفيذه) كحل للحفاظ على كيان السلطة – من وجهة نظرها – جزاء تحديه وتصديه لكشف فسادها.
وكما في فلم (الزمار) يتجلى في هذا الفيلم أهمية وتأثير كل من الكلمة والرسمة والصورة في إحداث التغيير المنشود، لكنه في ثنايا الفلم ونهايته يعلنها صريحة مدوية: أن خيار القوة والعنف هو طريق الخلاص، يتجلى ذلك في مشهد قتل الإسرائليين في أحد مقاهي بيروت بعد اجتياح العاصمة، وكذا مشهد الخاتمة (الانتفاضة) وأن الأمل دائما يظل مرجوا معقودا على الأجيال التي تحمل ولو حجارة لتواجه؛ منتزعةً الحقوق المسلوبة..
(إنذار بالطاعة 1993)
رغم بساطة الفكرة إلا أن روح الرفض والمواجهة والتمسك بالحلم وعدم الهروب بالسفر تبدو جلية في الفلم؛ حيث يتمسك الشاب المحامي بعلاقة حبه التي ترفضها الأم لظروفه المادية، فيفعل كل ما يستطيعه لامتلاك حلمه.. حتى في لحظات اليأس والتي معها يقرر السفر وترك كل ذلك وراء ظهره؛ يعود عاطف ليذكرنا أن الهروب أبدا ما كان حلا.. وهو ما يؤكده دائما ( كما في الحب فوق هضبة الهرم إذ يقول البطل : انا اتخنقت من البلد دي وعايز امشي منها) لكنه أبدا لا يفعل.
بل إن عاطف الطيب دائما ما يلوم على الذين يهربون من التزاماتهم تجاه الأسرة والوطن (فلم دماء على الأسفلت) حيث يلوم صراحة ونحن معه بطل الفلم لتخليه عن مسؤولياته وسفره مبتعدا باحثا لنفسه عن مجد شخصي فتلاحقه جذور مشكلاته التي فرط في مواجهتها في بلده حيث تكرر السؤال على لسان أبطال الفلم له “انت رجعت ليه؟!” مستنكرين تخليه وهروبه.
فعاطف الطيب عاشق لتراب بلده ورغم نقده وانتقاده للكثير من سلبيات مجتمعه وسياسات إدارتها؛ إلا أنه أبدا لا يدعو لتركها.. كما فعل هو ببقائه على هذه الأرض حتى رحيله.
حتى في أغنية (شنطة سفر) للجميلة أنغام يطرح هذا الرفض للمغادرة، إذ ينهي تصوير الأغنية بفكرته تلك وعودة البطل من المطار وتشبثه بالبقاء؛ فهذه البلد فيها ما يستحق الحياة لأجله والسفر والهروب ليس حلا.. (نلاحظ أن كل ذلك كان في موسم السفر في الثمانينيات والذي كان حلا لكثير من أبناء مصر).. إلا أن عاطف أعلن موقفه الرافض لذلك صراحةً.
(كشف المستور 1994)
كفيلم الهروب وناجي العلي؛ تستخدم السلطة ممثلة في الجهة السيادية كل الوسائل حفاظا علي كيانها كمؤسسة، حتى وإن كان الاغتيال لمتعاونة (عميلة) سابقة ترفض التعاون الحالي بعد تغير مجريات حياتها ولتجرؤها بمحاولة كشف المستور.. وربما نلمح تشابها بين عاطف الطيب وبطلة الفلم في نهايتها الموجعة.
فكما هو معروف في التراث الأدبي أن البيت الذي قتل صاحبه:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
هو الذي قتل المتنبي لأنه قرر المواجهة لا الهرب؛ يرى البعض أن هذا الفلم هو الذي تسبب في مقتل صاحبه، لأنه تجرأ واقترب من الخطوط الحمراء وجسد فيه شخصية “موافي” فتم إصدار قرار تصفيته كما بطلة فيلمه.
(ليلة ساخنة 1995)
في أواخر حياته يلاحظ ازدياد الفساد ووصوله لدرجة تزكم الأنوف، وأن صرخاته الثائرة الرافضة طوال حياته تذهب سدى، ولم تغير شيئا، فيركن لشيء من الدعة والسكينة أثناء المواجهة؛ لاستشعاره قرب النهاية وأن القلب ما عاد يحتمل كل هذا الهم؛ فيعاود اللجوء للتحايل لانتزاع حقه وبطلة الفلم.
(جبر الخواطر 1998)
رغم أن القدر لم يمهله ليكمل فلمه الأخير بنفسه؛ وأنه خرج لا يشبه كثيرا أفلام عاطف، إلا أن فيه من روحه وفكره، قضية المواجهة وعدم الاستسلام، وتوظيف كل المتاح من حيل وخلافه لإعادة الحقوق لأصحابها.. وهو ما فعله الطبيب الشاب الذي وقف بجانب حالة مرضية كان يتابعها رغم المعوقات حتى النهاية لتتعافى.
عوامل ساهمت في تشكيل شخصيته
- الأصالة
رجل من الجنوب، يحلو للكثير إطلاق هذا الوصف على عاطف؛ كونه من أبناء سوهاج بصعيد مصر وحتى عندما انتقلت أسرته للقاهرة قضى حياته في أحيائها الشعبية (بولاق) وهذا ما أثر فيه كثيرا كونه صاحب جذور راسخة ضاربة في أرض هذا الوطن، لذا لم يكن يتصور أن يغادر هذا الوطن وأن ذلك بمثابة اقتلاعه من الجذور، فعاش متشربا حبه، معايشا لواقع البسطاء الذين عبر عن همومهم في كل أعماله.
- مقاتل
من أكثر فترات حياته تأثيرا في صفاته وطبيعته ونحتت طبائعه ومشاعره، تلك الفترة التي قضاها في الخدمة العسكرة، خاصة أنها كانت في فترة حرجة من تاريخ الوطن 1975-1971 وشارك خلالها في حرب أكتوبر، فعلمته الانضباط وازداد تبنيه وطرحه قضايا وطنه والدفاع عنها، وكمقاتل مؤمن بما يحارب لأجله؛ تعلم أن يواجه لا يهرب.. وهي صفة اتسم بها كل أبطال أفلامه إذ فيهم الكثير من سمات وروح وملامح عاطف.
مثقف مهموم
بمتابعة أعماله وتأملها، ندرك سعة اطلاع عاطف وتعدد مشارب معرفته، وتوجهه المنتمي المتبني لقضايا وطنه وأمته ومحاولة إصلاح ما يراه فاسدا مؤثرا على أحلام ويوميات البسطاء. فعاش بقلب يحمل هم الوطن، وقدم رؤاه لإصلاح ما أفسده تحالف وتزواج السلطة بالمال؛ والذي ظل يعلن صارخا محذرا داقا جرس إنذار مبكر بزوال وتلاشي طبقته التي يراها تُسحق ببصيرته النافذة وخطورة ذلك على مستقبل البلد.
يراجع نفسه مرات ومرات ليقرر بعد مشوار قصير – لكنه حافل – أن القوة في هذا الزمان لا تكفي لاسترداد حق أو إصلاح فساد أو تقويم معوج؛ وإنما الأسلم هو الركون للهدوء والبحث ما أمكن عن بدائل أكثر عقلانية؛ لانتزاع الحق بعيدا عن الغضب العارم الذي بدأ به (سواق الأتوبيس).
وهنا تجدر الإشارة أن بعض النقاد يرى أن عاطف الطيب لم يكن يهتم بتفاصيل الصورة وإبهارها كمخرج ملتزم، وهو ما راعاه بعض أبناء جيله من المخرجين كمحمد خان وداود عبد السيد، ويرون ذلك عيبا في أعماله.. لكن أرى أن تلك الرؤية تفتقر للنظر لطبيعة عاطف ورسالته؛ فهو أحد أهم مخرجي الواقعية في السينما العربية، وكان يرى أن عليه تقديم رسالة واضحة جلية تنقل الواقع بما فيه من قسوة تتناسب وطبيعة قضيته الصارخة، فلا مجال للتزيين والزخرفة أثناء طرح كل هذه القضايا والهموم. فقد كان ومضة نور باهرة محذرة من التخاذل.
خاتمة
لك أن تتفق مع رؤى الطيب التي طرحها أو حتى تختلف؛ لكنك لا تملك إلا أن تحترم جرأته وتعترف أنه استطاع بوعي المثقف المهموم تحريك مياه راكدة آسنة، وشارك في زعزعة استقرار مزعوم متوَّهم؛ عن طريق طرح المشكلات وإثارة الآراء والمناقشات الواعية.. منتظرا تحقق ما حلم به لمجتمعه ولوطنه الذي لم يقابل حبه الشديد سوى بالنكران كعادة كل الثائرين على الأوضاع البائسة في كل زمان ومكان.
وأخير.. يسكن القلب ويهدأ الجسد وتفيض الروح؛ فيصمت للأبد صراخه المحذر.. لكنه ترك خلفه إرثا غنيا نستخلص منه كلما أعدنا المشاهدة وقراءة الصورة، صورته..
*كاتب من مصر