في ذكرى سي السيد السينما المصرية: شخصيات حية وإبداع متجدد

Print Friendly, PDF & Email

 لم يكن الممثل المصري يحيى شاهين (28 يوليو 1917 ـ 18 مارس 1994) والذي تم على ميلاده مائة عام فنانا عاديا، أو ممثلا من النوع المؤدي فقط، لكنه كان ممثلا من النوع المعايش للشخصية الذي يتقمصها فلا تستطيع أبدا أن تؤكد أنه يمثل، بل هو يقدم الشخصية بكل ما تحمله من صفات نفسية وخارجية بطريقة متطابقة مع الشخصية التي يتخيلها المشاهد، فيرى ذلك المشاهد الشخصية.

 وقد تجسدت أمامه على الشاشة من خلال يحيى شاهين، فينبهر بها ويمتزج معها، وينجح العمل وينتشر بفضل ذلك العبقري يحيى شاهين، والذي ولد بجزيرة”ميت عقبة”بمحافظة الجيزة، وتلقى دراسته الابتدائية في مدرسة عابدين التي ظهر بها ميله إلى التمثيل وتفوقه فيه، حتى أنه ما تم له الانضمام إلى فريق التمثيل بالمدرسة حتى أصبح رئيسا لهذا الفريق، ثم التحق بمدرسة”العباسية” الصناعية وحصل على شهادة دبلوم الفنون التطبيقية بقسم النسيج، والتحق بالتعليم العالي لينال بكالوريوس في هندسة النسيج، وعين في شركة”مصر للغزل والنسيج”بالمحلة الكبرى، ولكنه تباطأ في تسلم العمل لسببين : أولهما، والدته المريضة التي تعلق بها تعلقا شديدا، خاصة أن والده قد توفي وهو في العاشرة من عمره، فربته والدته وكان يعمل وهو طفل ليساعدها على النفقات، فعمل في مطبعة لجمع الحروف ليلا، وصباحا يذهب للمدرسة، فصار تعلقه بها شديدا، حيث يرى في حبها وحنانها ما لم يجده في أي حب آخر، وكانت مريضة عندما تم تعيينه في المحلة الكبرى؛ مما يعني أنه سيتركها وحيدة؛ لذا قرر أن يرفض الوظيفة حتى لا يرهق والدته، وفضل البقاء معها.

   كان السبب الثاني لعدم تسلمه العمل بالمحلة هو أنه أخذ يفكر في موهبته، ويقدِّمها على عمله، ويظن أنها هي المستقبل الحقيقي له، وعندما ذهب ليعتذر عن الوظيفة، كان”أدمون تويما”مدير مسرح دار الأوبرا الملكية موجودا بالصدفة، وعندما رأى يحيى شاهين عرض عليه العمل في مسرح الأوبرا، فوافق شاهين على الفور بسبب حبه للتمثيل، وانضم إلى جمعية هواة التمثيل، وسنحت له الفرصة والتقى بأستاذه “بشارة واكيم” وقد أعجب بموهبة يحيى شاهين واقترح عليه أن يتقدم إلى الفرقة القومية للتمثيل التي تطلب وجوها جديدة من الشباب، وبالفعل نجح يحيى شاهين في الانضمام للفرقة القومية، غير أن فرص التمثيل على المسرح لم تتحقق لموسم كامل؛ مما اقلق يحيى شاهين إلى أن بلغه أن الممثلة”فاطمة رشدي”بدأت في تكوين فرقة جديدة، وأنها بحاجه إلى “فتى أول” بعد أن تركها فتاها الأول مسرحيا”أحمد علام”بانضمامه للفرقة القومية، فتقدم لها يحيى شاهين وعرض عليها موهبته فأعجبت بتمثيله، وأحلَّته محل”أحمد علام”، ومن هنا بدأت رحلة الفنان المسرحية، فقدم أعمالا كلاسيكية نالت رضاء جمهور المسرح ومنها: “مجنون ليلى” و”روميو وجولييت” و”مرتفعات ويذيرينج” التي اختتم بها حياته المسرحية عام 1946 ليتفرغ للسينما التي شهدت نبوغه وعبقريته وتاريخه التمثيلي المجيد؛ ونظرا لاقتناع الفنانة”فاطمة رشدي”بموهبته الفنية العظيمة شاركته بعد ذلك في بعض أعماله السينمائية وهي : “عواصف” 1946،”الطائشة” 1964 ،”غرام الشيوخ”1946، “الريف الحزين”1948.

البدايات الأولى

   كانت إطلالته السينمائية الأولى في فيلم “دنانير” 1940 إخراج أحمد بدر خان، وتأليف أحمد بدر خان وأحمد رامي، وبطولة كوكب الشرق أم كلثوم، حيث قدَّم دورًا ثانويًا لا يذكر وهو دور”زياد”، الذي لم يلفت نظر أحد سوى أم كلثوم فتابعته في بعض أعماله التالية السينمائية والمسرحية. ثم عمل يحيى شاهين في فيلم المتهمة 1942 وقام بدور وكيل النيابة. واشترك بعد ذلك في فيلم”لو كنت غني” 1942  من إخراج هنري بركات، وتأليف أبو السعود الإبياري، وبطولة بشارة واكيم وإحسان الجزايرلي، وقام بدور”كمال” خطيب وهيبة. ثم عمل في فيلم”بنت الشيخ” 1943 للمخرج أحمد كامل مرسي، تأليف أحمد كامل مرسي، وبطولة أمينة نور الدين. وقام بدور في فيلم”حبابة” 1944 إخراج نيازي مصطفى، وتأليف أحمد فتحي  وأحمد رامي، وبطولة عزيزة أمير.

   وبعد مشاركته معها في فيلم “دنانير” ومشاهدتها له في بعض أدواره المسرحية المختلفة، اقتنعت أم كلثوم بموهبة يحيى شاهين، وقررت أن يشاركها بطولة فيلمها”سلامة” سلامة  1945 إخراج توجو مزراحي، وتأليف علي أحمد باكثير، وقد جاء هذا الدور ليحيى شاهين بالمصادفة البحتة، فبينما كانت تصور أم كلثوم فيلم”سلامة”مع حسين صدقي، حدث خلاف بين الأخير والمخرج، فترك حسين صدقي العمل وبحثوا عن بطل آخر، فاقترحت أم كلثوم اسم الوجه الجديد يحيى شاهين، وبالفعل وقع يحيى شاهين عقد الفيلم بأجر 150 جنيها، وكان الشاب شاهين في قمة ساعدته لأنه سيقف أمام أم كلثوم، فهي فنانة شهيرة إضافة للأجر الذي يعتبر كبيرا مقارنة بأجور المسرح والفنانين الشبان في ذلك الوقت. ولم تكتف أم كلثوم بفتحها أبواب السينما أمام الشاب الصاعد، بل كانت تساند شاهين أثناء التصوير، وتساعده على تخطى الحاجز النفسي لوقوفه أمامها، فحرصت على أن تتناول معه وجبات الغداء والإفطار يوميًا حتى يألف وجودها كما توفر عليه النفقات المادية؛ لأنه مازال يصعد سلم الفن، وفي إحدى المرات وهما في فترة الراحة سألته عن أجره، فأجاب شاهين 150 جنيها، فاندهشت أم كلثوم واستدعت منتج الفيلم على الفور وسألته عن أجر شاهين، وطالبته بأن يأخذ نفس الأجر الذي كان سيتقاضاه النجم حسين صدقي، فكان رد المنتج أن حسين صدقي نجم فكان أجره 600 جنيه، لكن شاهين مازال شابا صاعدا، فجاء ردها حاسما يقضي بأن يأخذ شاهين أجر حسين صدقي نفسه، فهو يلعب دور البطولة ذاته، وإلا لن تكمل هي الفيلم، وأمام إصرارها لم يجد المخرج حلا إلا أن يرفع أجر شاهين إلى 600 جنيه. ولم تغير هذه الواقعة حياة شاهين المهنية والمادية فقط، بل أصبح يصر على حقه، وعرف عنه في كل أعماله دقته وإصراره على الحق والصواب، وكان يرجع الفضل في ذلك لصاحبة الفضل الأول في مشواره الفني أم كلثوم.

   وتدور أحداث الفيلم في عصر الدولة الأموية، حول راعية الأغنام”سَلَّامة”ذات الصوت الساحر التي تربطها علاقة حب مع”عبد الرحمن”الملقب بالقس، لكثرة عبادته، والذي يقع في غرامها مما يعرضه لمشكلات كبيرة.

 والحبكة الدرامية في قصة الفيلم تكمن في وقوع الرجل التقي العابد في غرام جارية مغنية، وصراعه النفسي بين حبه وتقواه، وقد استطاع يحي شاهين بكل اقتدار وموهبة حقيقية من تجسيد دور عبد الرحمن بفنية عالية فائقة، فاستطاع بمقدرته اللغوية ودقة مخارجه من إخراج الآيات القرآنية بصورة دقيقة تتناسب مع قارئ جيد للقرآن الكريم، وهي الوظيفة الأساسية لعبد الرحمن، كما تمكن من خلال نظراته وطريقة سيره من تقديم ما يعتمل داخل هذا العابد من صراع بين الحب والتدين، وقدمه في صورة أبيات نطقها شاهين بطريقة فنية مسرحية، تكشف عما يعتمل في صدر ذلك العابد حيث قال عند لومه من الناس بسبب حبه لسلامة :”قالوا أحب القس سلامة، وهو التقي الورع الطاهر، كأن لم يدر معنى الهوى والحب إلا الفاسق الفاجر، يا قوم إني بشر مثلكم وفاطري ربكم الفاطر، ولي كبد تهفو كأكبادكم ولي فؤاد مثلكم شاعر”. وقد كتب هذا الدور شهادة ميلاد يحي شاهين السينمائية وذاع صيته وسطع نجمه وصار له كيانه السينمائي الخاص والتفتت الأنظار إليه.

100 شخصية

   وقد قدم يحيى شاهين ما يزيد عن 100 فيلم للسينما المصرية، تنوعت أدواره فيها بصورة مذهلة كما سنرى، وإن ظلت شخصية”السيد أحمد عبد الجواد”من الشخصيات المميزة التي كتبت باسمه أداءً وتقمصاً رائعا، وجعلته منفردا بها في التاريخ السينمائي، كما برع في أداء الأعمال الدينية والتاريخية؛ نظرا لمقدرته اللغوية وطبيعة ثقافته العربية الأصيلة، وقدرته على تقمص الشخصيات وإحيائها من التاريخ، ومن هذه الأعمال: “حبابة” 1944 ، و”فتح مصر”1948 ، و”ليلى العامرية” 1948، و”ورد شاه”1948  ، و”بلال مؤذن الرسول” 1953، و”ابن كليوباترة”1965 ، و”فجر الإسلام”1971 . وقد أنشأ شركة لإنتاج الأفلام أنتجت أفلام مختلفة منها :”ابن النيل” 1951 ، و”الغريب” 1956 ، عن قصة”مرتفعات ويذيرينج”، و”نساء في حياتي”1957، و”الحب الصامت”1958 ،  و”رجل بلا قلب”1960. ومن المسلسلات التي قدمها : “الأيام” 1979، و”الأب العادل” 1982 ، و”الطاحونة”(الجزء الأول) 1984، و”رسول الإنسانية” 1985 ، و”الطاحونة” (الجزء الثاني) 1986 ، و”القضاء في الإسلام”ج1  1987، و”القضاء في الإسلام”ج2 1989، و”شارع المواردي” 1990، و”وما زال النيل يجري”1993  ، و”القضاء في الإسلام” ج6  1995. وقد عمل مع كبار الكتاب والأدباء ومنهم :”نجيب محفوظ”،  و”إحسان عبد القدوس”، و”عبد الرحمن الشرقاوي”، و”محمد حسين هيكل”، و”علي أحمد باكثير”.

حصل على العديد من الجوائز، ومنها جائزة دعم السينما، الجائزة الأولى عن دوره في فيلم”ارحم دموعي” 1954، والثانية عن فيلم”جعلوني مجرما”1954 ، وشهادة تقدير عن فيلم”نساء في حياتي”1957  من مؤتمر فينيسيا الدولي، والجائزة التقديرية الذهبية من جمعية كتاب ونقاد السينما المصرية، وفاز بوسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى كمهندس تطبيقي سنة 1980، وحصل على شهادة تقدير من مهرجان القاهرة الدولي سنة 1987، وجائزة مهرجان القاهرة السينمائي، وجائزة غرف السينما سنة 1989 ، ووسام الجمهورية من الطبقة الثالثة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وحصل على درع السويس، ودرع أسوان، وشهادة تقدير وتفوق للرواد للسينمائيين سنة 1993 من جريدة الأهرام المسائي.

زواجه

  وقد تزوج يحيى شاهين مرتين، الأولى كانت امرأة مجرية ارتبط معها بحب كبير رغم أنها كانت أكبر منه بعدة سنوات، ويرجع ارتباطه بتلك الأجنبية لعشقه للسفر واستمر زواجه فترة، وأنجب ولدين، ولكن لم تكتمل حياة شاهين الزوجية كما أراد، وانتهت بالانفصال وعادت الزوجة إلى موطنها الأصلي ومعها أطفالها، وانتهت زيجة يحيى شاهين الأولى التي لم يتحدث عنها كثيرا في الإعلام، لكنها جعلته يفكر في الزواج بناء على المنطق والعقل، وليس الحب فقط. وفكر في الزواج من الفنانة”ماجدة”كما ذكرت هي في مذكراتها، لكنها لم تكن راغبة وقتها في الزواج، فلم يكتمل ذلك المشروع، ثم سرعان ما تزوج زواجا تقليديا، عندما طلب من إحدى قريباته أن تجد له عروسا، فاختارت له السيدة مشيرة، وتزوجا في حفل عائلي بسيط، وأنجبت له ابنته الوحيدة “دليا”وعاشت معه حياة سعيدة ما بين السفر للخارج ومشواره مع التمثيل، وأعطته الاستقرار والدفء العائلي، فأكمل حياته معها حتى رحيله.

وذكرت في أحد حواراتها أن شخصيته الأسرية كانت تبتعد تماما عن شخصية”سي السيد”، لكنه كان زوجا حنونا وطيب القلب يخاف على أسرته لدرجه شديدة، وكان يحب الأكل المصري خاصة”محشي الفلفل”و”والكرشة”، وكان يحب أداء العبقري”زكي رستم”وكذلك الفنان”فريد شوقي”، بينما كان يكره النفاق والكذب جداً، وكان حريصا أيضاً على السفر لأداء العمرة كل عام. وأقرب أصدقائه إلى نفسه الفنان”صلاح ذو الفقار”وعائلته، و”حسين المهندس”وعائلته، والفنان”حمدي أحمد”وكان يحبه جداً، وكان لا يفارق الفنان”محسن سرحان”فكان صديق عمره.

أثناء استعداده لتقديم أي عمل فني كان يحرص على أن تكون حالة المنزل هادئة، بعيدة عن التوتر، وكانت أكثر أوقات عمله بعد نوم الزوجة والابنة حتى يصل إلى الهدوء الذي يرغبه، وتذكر زوجته أن أقرب الأدوار التي جسدها إلى شخصيته الحقيقية في المنزل دوره في فيلم”آباء وأبناء”1985 من إخراج إبراهيم الصحن، وتأليف مصطفى محرم، وبطولة كريمة مختار، وتدور أحداث الفيلم في إطار كوميديا اجتماعية مسلية، وذلك عن طريق عرض المفارقات التي تحدث بين زوج وزوجته، حيث يُصدَر أمر بإخلاء العمارة التي يقيمون فيها، فيبدءون بالانتقال إلى أحد الفنادق، ثم يفكرون في الأبناء والأقارب. وكانت علاقته بابنته داليا علاقة من نوع خاص رغم أنه رحل وهي مازالت صغيرة، لكن السنوات التي عاشتها معه مازالت قابعة في ذاكرتها، فعندما رحل كان عمرها 13 سنة، وكنت تدرس بالصف الثاني الإعدادي، وقد علمها كيف تتحدث بحرية وتقول ما تحب وما تقتنع به، وكان دائماً يأخذها معه في المقابلات التلفزيونية، وأيضاً خلال تصوير أفلامه بشكل دائم، وكان حريصاً على أن يحفظها القرآن الكريم، وتذكر السيدة مشيرة زوجته أنه كان فخورا بتقديم الحملة الدعائية لإحدى الشركات، والتي جاء بها صوته وهو يقول :”المصري هيفضل مصري النيل رواه.. والخير جواه”ولم يتقاض عنها أي أجر، وذكر أنه شارك فيها حبا في مصر وطلبا لرفعتها.

سي السيد

   ومن المواقف الطريفة التي مرت به بسبب شخصية”سي السيد” أنه في أحد الأيام عندما كان يسير على النيل، فجأة اقتربت منه إحدى السيدات الريفيات مع ابنتها، وصافحته بحرارة وقالت : “سي السيد، فينك وفين أيامك؟ كنت راجل بصحيح”، وكان شاهين في قمة الخجل، ولكنه بروحه الساخرة حكى القصة لزوجته السيدة مشيرة معلقا: “شوفتي زوجك. وفي ليلة 17 مارس 1994، وقبل وفاته بيوم، وكان عائدا من الإسكندرية التي ذهب إليها بعد عودته من أداء فريضة العمرة، ثم اتصل بصديقة عبد الفتاح يونس الذي ذكر أن يحيى شاهين سأله عن الأرض الجديدة التي طلب شاهين أن تتحول إلى مدفن لعائلته، وطلب من المقاول أن يسرع في إنهائها، ثم قص على صديقه رؤيا رآها له الدكتور إبراهيم بسيونى، شقيق الإعلامي أمين بسيونى، على الرغم من عدم معرفتهما بعضهما البعض، واتصل إبراهيم بيحيى شاهين كي يبلغه بها، حيث رأى أناسا يتجمعون حول شخص هو النبي سليمان، وعندما اقترب وجده هو يحيى شاهين، فاستغرب شاهين الرؤيا، وقصها على صديقه عبد الفتاح يونس الذي نصحه بإخبار الشيخ الشعراوي عن هذه الرؤيا عل لديه تفسيرا لها، وبالفعل تحدث يحيى شاهين مع الشيخ الشعراوي الذي أكد له أنها خير، طالما به أحد أنبياء الله. وفي مساء يوم الجمعة 18 مارس 1994 رحل يحيى شاهين عن الحياة فجأة عن عمر يناهز 75 عاما، وهو في كامل صحته، ودون أن يشكو من شيء، وتم دفنه كما أوصى مع والد زوجته، لتنتهي حياة واحد من جيل العمالقة الذين شهد لهم الجميع بالإخلاص والاحترام وحب الفن الصادق.

زينب  

   وفي فيلم “زينب” 1952 من إخراج محمد كريم، وتأليف محمد حسين هيكل، وبطولة راقية إبراهيم، قدم يحي شاهين نمطا جديدا في أدواره، وصورة مغايرة لمن اعتاد على هذه الأدوار، فقد قدم في هذا العمل دور إبراهيم الفلاح القح الذي يعمل رئيس أنفار في عزبة الباشا، ويغرم بزينب الفلاحة البسيطة العاملة معه، وتبادله الحب، لكن طمع والدها أدى إلى زواجها من حسن الثري؛ مما يحول دون ذلك الحب الذي يصادف عقبات كثيرة. وكان يحيى شاهين هو بالفعل إبراهيم كما وصفه وأراده محمد حسين هيكل، خاصة في طريقة حديثه التي لا يمكن أبدا أن تجد فارقا بينها وبين أي فلاح يعيش في تلك الفترة، فقد نغَّم يحيى شاهين طريقة حديثة بصورة من طبيعية من الفلاح تدل على قمة التمكن والتقمص للشخصية، فصار يحيى شاهين أو إبراهيم هو فلاح الشاشة المصرية الأول، وتجده يلوِّن حواره بلهجة الريف بصورة طبيعية، فعندما يستمع المشاهد لحواره مع زينب عن فكرته للهرب بحبهما، فيقول لها : “مش ممكن، مش ممكن يا عالم، دنا هججن، أيه العمل بس يا هوه، فترد زينب : العمل عمل الله، فيقول: ونعم بالله، لكن ربنا خلق لنا عقول، يعني نعد ساكتين كده والناس يدبحونا”، فهذا الحوار من يستمع إليه لا يمكن أبدا أن يظن أن صادر عن ممثل بل عن الفلاح الحقيقي.

   وكم كان يحيى شاهين مبدعا في أول بطولة سينمائية حقيقية له كبطل أول للعمل، وذلك من خلال دور”غريب” في فيلم “الغريب”1956 من إخراج فطين عبد الوهاب وكمال الشيخ، وتأليف حسين حلمي المهندس، وبطولة كمال الشناوي، فجسد في العمل دور ذلك الإنسان الذي كان ممتلئا حبا وحنانا ورحمة وشفقة بعد أن تربى غريبا في منزل أحد الأثرياء، فأحب ابنة الثري وبادلته المشاعر حتى ذله بعد ذلك شقيقها، فهرب من المنزل وعاد بعد سنوات ثريا ممتلئا بكل مشاعر الضيق والكراهية والغضب، وصبَّها على رأس غريمة وحبيبته التي تزوجت من غيره، فتمكن من بث هذين النوعين من المشاعر بصورة جذبت الانتباه مع تعاطف المشاهدين وتوحدهم مع بعض مواقفه. وكان شاهين في منتهى الاقتدار وهو يواجه غريمة، ويسقيه من كأس العذاب، فأوحت عيناه بمدى ما امتلأت به من قسوة وشدة.  

ويبدع يحي شاهين دور الدكتور”خالد” في فيلم “أين عمري” 1956 من إخراج أحمد ضياء الدين، وتأليف إحسان عبد القدوس، وبطولة ماجدة، حيث يستطيع أن يكون هو الشاب الممتلئ بالرجولة الذي يحب تلك الزوجة الشابة التي تعاني مع زوجها كبير السن، ويكتم عاطفته حتى يستطيع في النهاية أن يصارحها بها بعد تطور الحوادث وموت الزوج، فتمكن يحي شاهين من إجادة دور الشاب العاشق العف، خاصة من خلال تعبيرات وجهه التي تحمل ملامح الصدق والرجولة، وكان هو الشاب الذي دافع عن حبيبته ضد  أحد المستهترين وحماها حتى من نفسها، فكان من أدواره المميزة بالفعل.

   وفي فيلم “لا أنام” 1957 من إخراج صلاح أبو سيف، وتأليف إحسان عبدالقدوس، وبطولة فاتن حمامة تمكن يحي شاهين من تجسيد شخصية”أحمد”كما أرادها إحسان عبد القدوس، فهو الرجل المتزن العاقل الذي تحمَّل في سبيل تربية ابنته حتى صارت شابة، ووقع في الحب وتزوج لكن ابنته دبرت له المؤامرات المختلفة للتخلص من زوجته، وقلبت حياته جحيما وندمت بعد ذلك فصفح عنها، فتمكن يحيى شاهين من أن يكون الأب الرحيم المحب لابنته، الذي ينطق قلبه قبل لسانه بالشفقة والحب، ثم هو بنفسه المحب لزوجته، وهو المحب لشقيقه الراعي لمصالحه، لكنه يتحول إلى القاسي القلب بسبب مؤامرة ابنته، فتراه وكأنه ليس هو يحيى شاهين الذي قام بالجزء الأول عندما يتحول إلى القسوة مع زوجته، فتنطق نظراته بالغضب والضيق والعنف، فيصدقه المشاهد ويعايش الشخصية في كل حالاتها من براعة يحيى شاهين وقدرته الفائقة على التجسيد.

   وفي فيلم  “هذا هو الحب” 1958  يقوم يحيى شاهين بدور من أبرز أدواره في أفلام السينما المصرية، وهو من إخراج صلاح أبو سيف وتأليف محمد كامل حسن المحامي، وبطولة لبنى عبد العزيز، ويقوم فيه يحيى شاهين بدور”حسين”الذي يعمل مهندسًا في البلدية، لكنه ذو عقلية محافظة ومتزمتة، ويبحث عن زوجة لم تعرف رجالا من قبل، ويرى أن شريفة “لبنى عبد العزيز” هي الزوجة الأنسب لها، ويطلب يدها بالفعل، ويتزوجان، وبعد عشرة أيام من شهر العسل من الفيوم، يكتشف حسين أن زوجته كانت تعيش في الماضي قصة حب لم تكتمل، وبسبب عقليته المتزمتة، لا يرى حسين في زوجته سوى امرأة ساقطة، فيطلقها، لتعاني هي بعد الطلاق من ظلم حسين لها. فيستطيع يحيى شاهين أن يؤدي دور ذلك الإنسان المتلهف على الزوج من التي يحبها، ثم يؤدي دور الزوج الغيور الذي تتحطم حياته، فتستطيع أن ترى في عينيه ولمسات يديه الغضب الشديد والضيق من تلك الزوجة التي قد تكون تكذب عليه في ماضيها، فكان معبرا عن الشخصية أتم تعبير وبقوة جعلت من هذا الدور من أهم أدواره السينمائية مع غيره من الأدوار الكبرى التي يحفل بها تاريخه السينمائي المجيد.

   واستطاع يحيى شاهين أن يقوم بدور المعلم “عباس” في فيلم “المعلمة” من إخراج وتأليف حسن رضا، عن رواية “عطيل”  لشكسبير، ومن بطولة تحية كاريوكا، وكان هذا الدور إرهاصا لدوره المميز في فيلم “بين القصرين”، فقد تمكن في فيلم “المعلمة” من أداء دور المعلم بصورته الذهنية الحقيقية، وبطبيعة حديثه، حيث يستمع المشاهد إلى نسخة من حديث المعلم الواقعي لكنه من بين شفتي يحيى شاهين، فعندما يطلب من غريمه أن يتزوج يقول له في لهجة معلمي الأحياء الشعبية :”حقك تشرع بأه في الجواز”، فتعكس لهجته جو الحارة كما هي في الواقع، واستطاع يحيى شاهين أن يبث شكوك المعلم عباس تجاه زوجته قوية حية على الشاشة من خلل زفراته وحيرته ولفتاته وكلماته الحزينة، فكان دورا بارعا ليحيى شاهين في نمط مغاير لأنماط أدواره.

   وعلى الرغم من أهمية الكثير من الأدوار التي قدمها يحيى شاهين يظل دور “سى السيد” أو “السيد احمد عبد الجواد” الذي قدمه من خلال ثلاثية الأديب العالمي نجيب محفوظ، والمخرج العبقري حسن الإمام، هو الدور الأكثر شهرة في حياته، فلا يمكن أن ينسى أحدهم البراعة والاحتراف، الذي جسد من خلاله يحيى شاهين هذا الديكتاتور، التي ملأت حياته بالتناقضات الأخلاقية، ومحاولات السيطرة على الضعفاء من أهل بيته دون الأقوياء خارجه.

في الثلاثية

وقد مكن هذا الدور يحيى شاهين من أن يصبح أحد علامات السينما المصرية والعربية البارزة، ويفتح لها فتحا كبيرا بين عالم العمالقة والعظماء من ممثلي السينما المصرية، فكان تجسيد شخصية السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية” تجسيدا مبدعا، ففي فيلم “بين القصرين” 1964 من إخراج حسن الإمام، وتأليف نجيب محفوظ، وبطولة صلاح قابيل نجد يحيى شاهين يقدم أقوى أداء لشخصية ذلك الرجل المتسلط في بيته، الذي يفرض إرادته على أبنائه وزوجته المستكينة، وذلك الفرض من خلال قوته الجسدية والنفسية، فهو في قوة بناء جسدي، ويحمل طابعه الشدة والجدية التامة في الحوار، ولا يدع فرصة لأي ابتسامة تمر بشفتي من يحيطون به، فهو الصارم القاسي، ورغم ذلك فهو خارج المنزل بحيث لا تراه أسرته السكير العربيدـ صاحب المزاج والحظ و”الفرفشة”مع رفاقه والراقصات والمنحلات. واستطاع يحيى شاهين من تجسيد الشخصيتين المتناقضتين بكل حرفية وأستاذية لم يسبق إليها، فكان هذا الجزء من أنجاح أجزاء الثلاثية .

وتلاه جزء “قصر الشوق” 1966 من إخراج حسن الإمام، وتأليف نجيب محفوظ وبطولة نادية لطفي، وفي هذا الجزء يواصل يحيى شاهين تألقه بأداء شخصية أحمد عبد الجواد بعد أن تزوجت بناته، وكان قد امتنع عن السهر بعد استشهاد ابنه، لكنه عاد إلى السهر في منزل زبيدة العالمة، ويفاجأ بوجود الفتاة اليانعة زنوبة التي كانت صغيرة فيغرم بها، ويعاود حياة السهر، وتظل شخصيته على قوتها، ولكن يتمكن يحيى شاهين من أن يبث في الشخصية علامات الحزن والشجن رغم انطلاقها في “الفرفشة” والعربدة، ويتمكن شاهين من أن يجعل المشاهد ينظر لها بعين العطف مع الإعجاب التام. ثم يأتي الجزء الأخير من الثلاثية وهو فيلم”السكرية” 1973 من إخراج حسن الإمام، وتأليف نجيب محفوظ، وبطولة نور الشريف، ليواصل يحيى شاهين تألقه في تقديم الشخصية في مرحلة سنية متقدمة، بعد أن يصبح السيد أحمد عبد الجود جدا لجيل جديد، وقد تقدم به العمر، ولم يعد قادر على العمل، فيتمكن يحيى شاهين من إظهار عامل العمر وتقديم ما يعتمل داخل الشخصية من ذكريات وحنين مع معايشة الواقع؛ مما يثير التعاطف والشجن مع الشخصية الناجحة بكل المقاييس، المميزة في التراث السينمائي المصري.  

   وسبق تمثيل شاهين لدوره في السكرية تمثيله في فيلم “الأرض” 1970 الذي قام فيه بدور الشيخ حسونة، وفيلم “الأرض” من إخراج يوسف شاهين، وتأليف عبد الرحمن الشرقاوي، ومن بطولة محمود المليجي، وكان دور يحيى شاهين فيه هو دور الشيخ العالم الأزهري، ذلك الدور الذي يجيده، وسبق أن أداه، وهو هنا يحمل مع سمات الشيخ التقليدية صفة الوطنية وحب القرية والحنين إليها بعد أن نزح عنها ليعمل بالقاهرة، فكان يحيى شاهين نموذجا لهذه الشخصية في الحياة المصرية، قدَّم طيبتها وخفة ظلها وذكائها، مع حرصها على حياة رخية هانئة هادئة.

وتعد شخصية “الأرماني” في فيلم “الأخوة الأعداء” 1974 للمخرج حسام الدين مصطفى عن رواية “الأخوة كرامازوف” للمؤلف الروسي ديستوفسكى، ومن بطولة حسين فهمي ونور الشريف، هي وجه العربيد للسيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، لكن بالنكهة الروسية الشيوعية، وقد كان هذا الدور ليحيى شاهين من بصمات السينما المصرية التي لا يستطيع أحد أن يجاريه فيها أو يقوم بها مقامه، فقد تمكن من فهم أعماق الشخصية التي تقوم على الملذات والاستمتاع بالحياة قبل الموت والحساب الذي أحيانا يشك في وجوده، فكان يحيى شاهين معبرا عن كل تلك النواحي وعن العربدة والفجور بطريقة طبيعية مقنعة، وكانت تعبيراته عن الخوف من أحد أبنائه تعبيرات في منتهى الواقعية، كما كانت سخريته من ابنه الأبله مثيرة لروح الدعابة وأيضا الشفقة على هذا الابن.

Visited 103 times, 1 visit(s) today