“أثينا”.. رؤية كابوسية عن اللاجئين

Print Friendly, PDF & Email

يبدو أن شيء ما يدور في العمق الأوروبي يتعلق بالمهاجرين والجماعات العربية الراسخة هناك، ولا تبثه شاشات التليفزيون أو النشرات الإخبارية وفق ما يستحق من الإهتمام، إلا أن شاشات السينما تملك قولاً أخر ورؤية مُغايرة عن السائد، فالمُتابع للسينما العالمية في السنوات الأخيرة، يكشف حجم الإنتاجات السينمائية التي تطرق مباشرة أزمة المهاجرين في أوروبا وتحديداً العرب القابعين في هذه الدول، تقريباً لا يخلو كل عام من فيلم ما، يُسلط الضوء على الأوضاع المُتأزمة بحس إغترابي واضح، قوامه الإحساس بالدونية وعدم الإستقرار.

وأحدث هذه الإنتاجات الفيلم الفرنسي “أثينا” أو Athena  إنتاج عام 2022، إخراج “روميان جافاراس” الذي اشترك في كتابة السيناريو مع “إلياس بلقادر” والمخرج وكاتب السيناريو “لادج لي” الذي أخرج للسينما قبل ثلاثة أعوام فيلمه “البؤساء”، والذي يتشابه موضوعه مع مضمون فيلمنا.

يستند كلا الفيلمين “البؤساء” و”أثينا” إلى أحداث العنف التي شهدتها فرنسا في بدايات الألفية، تحديداً في أكتوبر 2005، على إثر مقتل شابين بعد الإشتباه بهما، لتندلع الإحتجاجات المُناهضة لما جرى، هنا نرى أحداث مُماثلة مع إتساع زاوية الرؤية، المؤطرة بناقوس خطر يدق طوال مدة الفيلم، ويبث رسائل تحذيرية قوامها شيء واحد، ألا وهو، أحذروا.. الطوفان قادم.

المتظاهرون يحرقون عربة الشرطة

“إدير” المراهق البالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، تذهب روحه هباءاً بعد مقتله على إيدي بعض الرجال المُنتمين فكرياً للأحزاب اليمينية المُتطرفة، إلا أن الفيديو المُنتشر على وسائل التواصل يُثبت أن قتلة الطفل يرتدون زي الشرطة الفرنسية، وهنا تكمن أزمة الفيلم وحبكته، فأحداث الفيلم تدور حول الإحتجاجات التي اعقبت انتشار هذا الفيديو، وتحول الحي الفرنسي “اثينا” إلى جمرة مُشتعلة من النيران.

استعار المخرج “روميان جافاراس” اسم المدينة المُتخيلة التي تدور فيها أحداث فيلمه من اسم المدينة القديمة، وكذلك جاء البناء الدرامي للفيلم يعتمد على المنطق الأرسطي للدراما، حيث الإلتزام بوحدة الزمان والمكان، فالأحداث تدور في إطار زمني لا يتعدى الأربعة وعشرون  ساعة أي يوم كامل، منذ بداية اليوم حتى صباح اليوم التالي، والمكان لا يتغير وهو الحي المُشاغب “أثينا”، فالفيلم يبدأ بمشهد نرى فيه “عبدل” (دالي بن صلاح) الجندي بالجيش الفرنسي، أثناء إنعقاد المؤتمر الصحفي بعد مقتل شقيقه “إدير”، وهو يُحاول تهدئة المتظاهرين، والشرطة تتوعد بالإمساك بالفاعل الحقيقي، وفجأة يتحول هذا الهدوء الحذر المشوب بالتوتر، إلى فوضى لا رابط لها ولا حد، بعد إلقاء “كريم” (سامي سليمن) شقيق “عبدل” و”إدير” الزجاجات الحارقة على منصة المؤتمر، لتبدأ جموع المُعترضين في أعمال السلب والنهب في الحي الذي يُشكل المُهاجرين والعرب النسبة الأعم من بين تعداد سُكانه.

فقد اختار السيناريو أن يُدخلنا رأساً في صلب موضوعه دون أدنى تمهيد مُسبق، إلأ أنه على الرغم من الوتيرة المتلاحقة والإيقاع اللاهث للسرد، فالمعلومات عن الشخصيات والأحداث تطفو على السطح تدريجياً، كلما توغلنا في الأعماق كلما انكشف المزيد عن الشخصيات وتاريخها ودوافعها، فالسيناريو تسير أحداثه وفق المبدأ التقليدي، بداية ووسط ونهاية، ومع التزام كامل بالفصول الثلاثة، والحبكات الدرامية التي تدفع الأحداث للأمام.

وبالتالي ينساب السرد في سياق عام محفوف بالتوتر المشوب بالخطر، فالمشاهد تتوالى دون أن تلوح أدنى بادرة هدوء في الأفق، فقد خلق السيناريو البيئة العامة للأحداث أشبه بالجحيم، بما يتناسب مع مضمون الفيلم التحذيري من القلاقل المُحتملة إذا تركت الأوضاع كما هي دون البحث عن حل حقيقي لهذه التوترات والنزاعات لإزالة الإحتقان الداخلي، لا مُسكنات مؤقتة سيشتعل بعدها الوضع مُجدداً في دوامة لا نهائية، مثلما يقول “كريم” في أحد المشاهد “هل يتحدثون عن القلاقل؟ إذن سنريهم القلاقل”.

يبدأ الفيلم من جانب المُتظاهرين، يقتحم عالمهم، نُتابع تحركاتهم وانقضاضاتهم المُفاجئة على مركز الشرطة، وإنشاء حصونهم البدائية المُسيطرة على مداخل الحي، كل ذلك يتم بقيادة “كريم” الباحث عن حق أخيه المقتول غدراً، على الجانب الأخر يضعنا السيناريو بموازة عالم أخر وشخصية أخرى، هي الضابط “جورمي” (انتوني باجون) من قوات مكافحة الشغب، نراه في المشاهد الأولى أثناء التحضيرات لاقتحام الحي، ينظر لصورة أبنته والخوف يستولي على ملامح وجهه.

كريم يتابع المظاهرات ويقودها

فهو يرى نفسه في حرب لا مصلحة له فيها، بالكاد يُمارس مهام عمله المتعارف عليها، فإذا كان العنصر المُضاد “كريم” يبدو ذو قوة مؤثرة ومُحركة للأحداث، فهنا “جورمي” مفعول به، لا لتبرئة جهاز الشرطة الفرنسي، بقدر ما هو تعبير عن وضع عام الجميع فيه تحت رحمة سلطة ما أكبر منهم، وهي من تملك القدرة على دفع التوقعات في إتجاهات أخرى غير ما وصلت إليه.

وعند هذه النقطة نصل لجوهر الصراع الدرامي، فالصراع هنا لا يدور بين مجموعة ثائرة من المتظاهرين والشرطة فحسب، بل يمتد لما هو أعمق، الصراع من أجل إثبات الوجود، ففي أحد المشاهد نرى “كريم” يقول للثوار “سئمنا أن يرانا العالم كضحايا”، وفي مشاهد أخرى تتكرر نغمة “هم ونحن” وكأن هؤلاء الغاضبون يعيشون في عالم مُنفصل عن الأخرين، فالإحساس اليقيني لدى المهاجرين والعرب أنهم مواطنين من الدرجة الثانية، أدنى من أمثالهم الفرنسيين، رغم مساواتهم القانونية في الحقوق والواجبات، لتبدو فرنسا في هذه الشق، كأنها تُسدد ديونها التاريخية تجاه مُستعمراتها القديمة، فبنظرة خاطفة على الوجوه الغاضبة، يُمكن تخمين أصولهم العرقية، البعيدة تماماً عن النمط الفرنسي أو الأوروبي، وهذا ما يرغب الفيلم في التعبير عنه بهذه الجرعة الكابوسية الكثيفة المُغلفة للسرد، فالمعني هنا هو التحذير من القادم والخوف من الوصول لحافة الحرب الأهلية، مثلما تبث النشرات الإخبارية في أحد المشاهد قائلة “حرب أهلية في فرنسا”.

أما “عبدل” تتحول حياته إلى النقيض المُعاكس، من جندي بالجيش الفرنسي يخدم بلاده الجديدة في “مالي” إلى مُجرم هارب من العدالة، نرى ملامحه المُحتقنة بالغضب على مقتل شقيقه، لكنه يُجيد إخفائها أسفل أطنان الهدوء الزائف الذي يُغلف وجهه، ليبدو وحيداً في خضم هذا الجنون المُحيط به من جهاته الأربع، هكذا رسم السيناريو شخصيته موسومة بالمُعاناة، وصولاً لحافة الإنفجار والإنهيار التام، بعد مقتل “كريم” كذلك برصاص الشرطة، فالشخصية تتحول تماماً إلى الإتجاه المُغاير، وتترك غضبها المُستعر يطفو على السطح.

تقتحم قوات الشرطة الحي السكني، تدفع بسيارات الإطفاء التي تتخذ من درجها المرتفع حصناً للإرتقاء للصفوف العلوية، حيث مكمن المتظاهرين، في مشهد ملحمي أشبه بمعارك الإلياذة، يُشكل شريط الصوت فيه عنصراً لا يُمكن إغفاله، وفي المقابل يقف “كريم” مُنتصب القامة بشعره الهائش أقرب في هيئته لجندي يوناني قديم يتابع سير المعارك بين الطرفين.  

بوستر الفيلم

فالفيلم يحفل بالعديد من اللمسات الإخراجية التي تكشف عن رؤية وبصمة خاصة، جعلت الفيلم طموحاً على المستوى الشكل والمضمون، بداية من حركة الكاميرا البانورامية المُعتمدة في تتبعها للشخصيات على اللقطة الواحدة، مروراً بإدارة المجاميع والتحكم بها، عبر مشاهد التظاهرات والإشتباكات الموظفة درامياً، والتي لا تكاد تتوقف طوال مدة الفيلم، وما يوازي هذه المشاهد من إضاءة خافتة مُقبضة دالة على الكابوسية التي تُحيط بالأجواء، تلك السودواية التي تنبأ بها الفيلم وتكررت بعدها، هذه المرة في العالم الواقعي في بصيرة شفيفة لا تملكها سوى السينما والأفلام الكبرى، و”أثينا” أحد هذه الأفلام.

Visited 1 times, 1 visit(s) today