صراع الهوية وسينما الواقع  في فيلم “القضية رقم 23”

Print Friendly, PDF & Email

ينسج  فيلم “قضية رقم 23” للمخرج اللبناني زياد الدويري قصة فيلمه  المستوحاة من أحداث حقيقية، تتعلق  بالصراع السياسي المتجذر بين الهويات اللبنانية والفلسطينية.

تبدأ القصة بحدث بسيط وهو طلب ياسر سلامة اللاجئ الفلسطيني والذي يقوم بدوره الممثل الفلسطيني كامل الباشا، من طوني حنا، اللبناني المسيحي والذي يقوم بدوره عادل كرم، إصلاح ماسورة مياه على شرفة منزله لكن هذاالطلب البسيط سرعان ما يتحول إلى صراع كبير، يعكس الصراع التاريخي بين الهويتين، يمثل طوني حنّا الهوية اللبنانية المسيحية، التي تشعر بالظلم والاضطهاد، أما ياسر سلامة فيمثل الهوية الفلسطينية التي تشعر بالألم والضياع، يرفض طوني إصلاح الماسورة لمجرد سماعه لهجة  ياسر الفلسطينية وبعد أن يقوم ياسر بإصلاحها بنفسه، يكسرها طوني بمطرقة، ثم يشتمه بوصف له ب”العرص”، يتطور الصراع  ليتحول إلى قضية رأي عام، تعيد فتح مواضيع وملفات خطيرة في المحاكم اللبنانية، ويبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن أن يتحقق السلام والتعايش بين الهويتين المتناحرتين؟

الذاكرة الانتقائية والذاكرة المنقوصة هي أخطر أنواع الذاكرة لأنها تخلق صورة مغلوطة عن الواقع، وتؤدي إلى أحكام مسبقة ومواقف خاطئة، يُعتبر تحديد المسؤول عن جريمة الحرب أمراً معقدأ وصعباً، ففي كثير من الأحيان يشارك العديد من الأطراف في ارتكاب الجريمة وربما يكون من الصعب تحديد الدور الذي لعبه كل شخص.

إن بداية الفيلم بشاشة سوداء مكتوب عليها ” إن الآراء  الواردة في هذا لفيلم تعبر عن اراء  الكاتب والمخرج”، هذه العبارة تحمل بطياتها الانتقائية في الفيلم، فهو يتناول مجزرة الدامور التي شارك فيها اطراف عديدة من بينهم مقاتلو حزب الكتائب اللبنانية عام 1976، وحزب فلسطيني منشق، لا يمكن التقليل من قيمة الحرب الأهلية اللبنانية والآثار النفسية التي تركتها داخل المجتمع اللبناني، فقد أدت إلى نزوح ملايين اللبنانيين داخل وطنهم، و تدمير البنية التحتية والاقتصاد الوطني أيضاً، ورغم انتهاء الحرب لا يزال اللبنانيون يعانون مما حصل معهم من ذكريات اليمة وموجعة، فهناك الكثير من اللبنانيين الذين فقدوا أحبائهم أو منازلهم أو أعمالهم بسبب الحرب المدمرة لا شك في ذلك.

ركز الفيلم على الجانب الفلسطيني من المجزرة، وحاول أن يصور شخصية الفلسطيني ياسر على أنه وحش همجي في حين يغفل الحديث عن الطرف اللبناني من المجزرة.

 يستعرض الفيلم تقنية التلاعب البصري لتشويه الحقائق، كما ويستخدم تقنيات سينمائية عديدة لتصوير الفلسطينيين في الفيلم بطريقة نمطية، فهو يعرض مجموعة من اللقطات التي تظهر الفلسطينيين وهم يتظاهرون بعنف، ويضربون الحجارة، ويشعلون النيران، الأمر الذي يساهم في ترسيخ الصورة نمطية سلبية عنهم، يرافق هذه اللقطات موسيقى تصويرية تلعب دور مهم في تعزيز التأثير.

 من ناحية اخرى هدف الفيلم إلى أسطرة  بشير الجميل وتصويره على انه قائد عظيم ومثالي من خلال خطاباته التي يستمع اليها طوني حنا بعناية، ومن خلال صوره المعلقة في مخفر الشرطة والبيت والشارع وكل مكان، ويمكن الحديث هنا على أنه الى جانب كل من طوني حنا وياسر سلامة الشخصيات الرئيسية يلعب بشير الجميل من خلال خطابته كدور شخصية محورية ثالثة في الفيلم تتحكم بسير الأحداث، وتدفع طوني نحو الظلام بشكل أكبر، يستهل الفيلم المشهد الأول بلقطة قريبة لوجه بشير الجميل، الزعيم المسيحي اللبناني، وهو يلقي خطاباً أمام حشد من أنصاره، يخاطب الجميل الحشد قائلاً: “إذا سألوكم رئيسكم مين بتقولولهم رئيسنا بشير الجميل”.

تتبع هذه اللقطة لقطة واسعة للجمهور وهو يصفق بحرارة، ينوع صانع الفيلم أيضاً في استخدام التقنيات سينمائية لإيصال رسالته في الفيلم، فالتركيز على وجه بشير الجميل يظهر أنه شخصية محورية في الفيلم بدليل أن رقم 23 في الفيلم لم يكن اعتباطياً 23 هي عدد الأيام التي تفصل انتخاب بشير الجميل عن اعدامه، وفي رواية اخرى اغتياله، بسبب حضور هذه الشخصية في اغلب المشاهد اما حضورا شفويا من خلال الحوار او حضورا أيقونياً من خلال الصور الفوتوغرافية في مخفر الشرطة وفي غرفة الطفلة او من خلال المشاهد التي تدعم أفكاره او حضوره من خلال الأرشيف، كما شاهدنا طوني حنا وهو في كراج السيارات يعمل و يستمع الى خطاب الجميل على التلفاز.

قبل احتلال فلسطين وقبل وقوع الحرب الأهلية اللبنانية، كان الفلسطيني واللبناني يعيشان في نطاق حب وسلام وأمان، لكن مع احتلال فلسطين عام 1948، تم تهجير الفلسطيني عن أرضه وبدأت العلاقات بين الفلسطيني واللبناني تتغير، وساهم الاحتلال في خلق مشاعر الكراهية والعداء بين الطرفين.

 يفتح الفيلم أبواباً لمحاولة الفهم العميق لحياة الفلسطيني في المخيمات اللبنانية، ويبين التحديات والمعاناة التي تواجه اللاجئ في بيئة تسلب منه حقوقه وترسمه ضمن حدود التعاسة فقط، حيث يعيش اللاجئ الفلسطيني في نطاق معين وضمن ظروف محدودة وضمن مجموعة من القوانين التي تحد من انسانيته وحركته وتنقله فهو أيضأ ممنوع من العمل في 73 وظيفة في البنان.

يعرض الفيلم في احدى جلسات المحكمة حوار من قبل الشخص الذي قام بتوظيف ياسر، يتحدث صاحب العمل عن اخلاص ياسر ودقته في عمله، ووصفه بأنه “ديك” أي يستيقظ مع صياح الديك للذهاب الى عمله، وبعد سماع المحامي لهذا الكلام فإنه يستفز كونه يعمل جاهداً على ادانة ياسر، يحاول اظهار ياسر بوضع مثير للشفقة وجعله شخص غير أمين وغير صادق بوصفه له بأنه “خذل صاحب العمل وناكر للجميل”.

 يشير المشهد أيضاً إلى المخاطرة بتشغيل الفلسطيني كون ذلك يساهم في توطين نصف مليون فلسطيني في لبنان وهذا غير مقبول، في المشهد ذاته تتحدث المحامية التي تدافع عن ياسر عن اخلاصه في عمله من خلال استجواب صاحب العمل، ووصفت ياسر بأن ” جوهره غير عدائي”، ليرد عليها المحامي بأن الجهور غير مهم بمناقشته في المحكمة وانما عند طبيب نفسي، لترد قاضية المحكمة والتي هي هنا لتمثل القضاء اللبناني بطريقة هزلية ” كنت بطلع اكثر مصاري”.. يرافق هذه العبارة حركة انتقالية  بالكاميرا بلقطة متوسطة للحضور اللبناني المسيحي والمؤيد لطوني  في المحكمة وهو يضحك بطريقة مثيرة للسخرية على هذه العبارة وكأن حقوق الفلسطيني هي عبارة عن نكتة في الشارع اللبناني والقضاء اللبناني ايضا، كما تعبر هذه العبارة عن الرفض الاجتماعي للفلسطيني في لبنان، وفي هذا المشهد يستخدم صانع الفيلم لقطات قريبة ولقطات بعيدة لخلق تأثيرات نفسية معينة، فعندما يستخدم لقطة قريبة لوجه ياسر عندما يتعرض للظلم أو الإهانة بهدف إظهار معاناته وشعوره بالظلم، كما يستخدم لقطات بعيدة لتصوير المحاكمة والتجمعات العامة لإظهار حجم التمييز الذي يتعرض له الفلسطينيون.

يوظف الفيلم الخطاب العنصري الموجع في محاولة لمعالجة قضية التمييز ضد الفلسطينيين في لبنان، ويبرز خطاب الكراهية بشكل واضح، ولعل خطاب بشير الجميل الذي نستمع اليه بشكل متكرر خير مثال على تجليات العنصرية والكراهية في الخطاب الموجه ضد الفلسطينيين في لبنان.

في مشهد بالفيلم يذهب ياسر مع رئيسه المسؤول عنه في العمل بنية الاعتذار من طوني، نجد طوني  في عمله يستمع لخطاب بشير الجميل على التلفاز، وفي هذا الخطاب يصف الجميل الفلسطيني بأنه “داير على بلاد العالم، عم يشرب من بير بلاد العالم وعم يرجمها بحجر”.

إن استخدام اللغة البغيضة في هذا الخطاب من شأنه أن يعزز بأن الفلسطيني هو  إنسان عدواني ومستغل وبالتالي فهو لا يستحق الاحترام،  كما وفيه دعوة إلى العنف، كان من الممكن أن يتم توظيف الخطاب الموجه بطريقة توعوية وعادلة توضح الظلم الذي حصل مع الفلسطيني واللبناني في أنٍ واحد، فالخطاب في الفيلم كان انتقائي وهجومي على اللاجئ الفلسطيني، فبدلاً من  أن يسعى الفيلم  إلى بناء مجتمع لبناني أكثر تسامحاً يحترم حقوق جميع المواطنين عزز مفهوم الانقسام بين الفلسطينيين واللبنانيين.

يظهر صراع الأجيال في الفيلم  على مبدأ الشكلانين الروس،  فمثلما  يتحرك الحصان على رقعة الشطرنج بشكل متعرج تتحرك الأجيال أيضاً في المجتمع،  فهي تنتقل من جيل إلى جيل، يمثل المحامي وجدي وهبي، الذي يدافع عن طوني في الفيلم، الجيل القديم المتعصب الذي نشأ في ظل الحرب الأهلية اللبنانية، والذي تعرض للظلم والقهر وربما ترك هذا الظلم أثراً عميقاً  داخله والذي جعله ينظر إلى الفلسطينيين نظرة عدائية، وتحاول الأجيال الجديدة التمرد على أفكار الأجيال القديمة تقديم ما هو جديد ومبتكر لذلك.

 أما المحامية نادين وهبي التي تدافع عن ياسر، فهي تمثل الجيل الجديد الذي يحاول التصالح مع الفلسطينيين والذي يقدر معاناة اللاجئ الفلسطيني ويستطيع ان يميز بين المؤامرات التي حيكت سابقا حول القضية وابناءها وبين ثقافة القطيع التي انجر خلفها كثير من المواطنين، فهي ترى أن الفلسطينيين هم أيضاً ضحايا الحرب الأهلية اللبنانية ويستحقون العدالة والكرامة.

ويمكن أن نرى في صراع الأب وابنته رمزية عميقة، إن هذا الصراع يمثل صراع الأفكار والقيم بين الأجيال، فالجيل القديم يمثل القيم التقليدية التي تتسم بالعنصرية والتعصب،  أما الجيل الجديد فهو يمثل القيم الجديدة التي تدعو الى التسامح والاحترام، ولعل هذا الصراع دائم ومستمر في المجتمع فكل جيل يحاول فرض قيمه على الأجيال القادمة، ولكن في النهاية القيم الجديدة هي التي تفرض نفسها كون المجتمعات تتطور وتتغير باستمرار، فالمحامية لم تتفق مع والدها في أفكاره وظلت تدافع عن ياسر حتى الوصول الى الحدث الأخير في الفيلم وهو انتصار ياسر سلامة  في القضية وتبرئته بكونه غير مذنب

قدمت الممثلة دياموند بو عبود أداءً رائعاً في دور المحامية نادين وهبي ، فهي تجسد شخصية المحامية الشابة المتصالحة مع نفسها اولاً، ثم مع  الفلسطينيين بشكل واقعي، فهي تظهر الصدق والعاطفة في وجهها الأمر الذي  يعطي انطباعاً قوياً بمشاعرها الداخلية، فالإتقان في التمثيل والصدق والعفوية والحضور القوي هي عناصر فنية مهمة يمكن ملاحظتها في اداء الممثلين، وتساهم بجذب انتباه المشاهد وفي  تطور أحداث الفيلم بشكل متسلسل،.

يلعب تطور القضية من خلال الشخصيات الرئيسية في الفيلم عن طريق ربط ما يحصل معهم داخل المحكمة لتصبح قضية رأي عام دوراً مهماً في شد حبكة الفيلم، فالمشاهدون يتابعون تطور الأحداث باهتمام، ويرغبون في معرفة ما سيحدث في النهاية، فالشخصيات المعقدة جعلت المشاهد يشعر نفسه مرتبطاً بها ومهتم لما سيحدث لها، فالقضية توضح أن الصراع يمكن أن يؤثر على الجميع، حتى على أولئك الذين ليسوا جزءاً منه.

لحل هذه الأزمة، يمكن أن يكون إيجاد مخرجين سينمائيين فلسطينيين ولبنانيين يحاولون تقديم صورة أكثر واقعية وموضوعية عن هذه القضية من خلال عرض وجهات نظر مختلفة من كلا الجانبين، في ظل الظروف الحالية التي تعيشها الأمة العربية، والتي تتميز بالانقسام والتفرقة ربما يحتاج المواطن العربي بشكل أكبر إلى أفلام توحده وتساعده أيضاً على فهم الآخرين وتعزز قيم التسامح والحوار، فيمكن للأفلام العربية أن يكون لها القدرة على إيصال قوة إيجابية في المجتمع العربي وأن تساعد على بناء مستقبل أفضل.

Visited 2 times, 1 visit(s) today