فيلم “القضية رقم 23” الاستعداء الوحشي بين العرب

Print Friendly, PDF & Email

هذا دمي ’ يا اهْلَ لبنان ’ ارسموهْ
قمرا على ليلِ العَرَبْ.
هذا دمي – دمُكم خذوه ووزّعوهْ
شجرا على رمل العرب…
هذا بكاء رصاصنا، هذا يتيم زواجنا فلترفعوهْ
سهرا على عُرس العربْ
هذا نشيجي مزِّقُوه وبعثروهْ

مطرا على ارضِ العربْ
هذا خروج اصابعي من كفِّكمْ
هذا فطام قصيدتي ’ فَلْتكتبوهْ
وترا على طَرَب العربْ
هذا غبار طريقتنا، فلترفعوهْ
لهم حصونا اوقلاعا اوذراعا
يا اهْلَ لبنانَ الوداع

(محمود درويش- مديح الظل العالي)

لا يمكن للمرء الا ان يشعر بالحيرة والتيه الحارقين، بعد مشاهدته لفيلم “القضية 23” للمخرج اللبناني زياد الدويري. فالموضوع من اشد المواضيع حساسية وايلاما للشعب الفلسطيني، والشعوب العربية. وهو الخلاف الذي احتد بين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وحزب الكتائب اللبناني المسيحي. وتحوله الى صراع مسلح دموي ومأساوي. ويتمثل ذلك، في الصراع الذي نشب بين اللبناني طوني حنا. وهو مسيحي كتائبي تربى ونشا على العداء للوجود الفلسطيني في لبنان. وياسر سلامة، وهو لاجئ فلسطيني يقيم في العاصمة اللبنانية بيروت، موظف لدى شركة لبنانية. ويذكرني اسم ياسر، بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

يختار المخرج زياد الدويري ان يقف في هذا الصراع موقف المحايد. وهو اختيار استراتيجي مدروس، يحقق على الاقل هدفين الاول: الاحتياط وتجنب الدخول في اية مشاكل سياسية قد يسببها انحيازه الى هذا الطرف على حساب اخر، نظرا للشحنة السياسية الهائلة والمتوترة للفيلم. والثاني: يعطيه امكانية اشعال فتيل هذا الصراع، والتراجع للخلف والتفرج عليه، ومخاطبة المشاهد بمقولة: هذا هو الواقع، وها هي الفرجة.

يندلع الصراع بين الاتنين، عندما يُصبب الماء المتسخ من شرفة منزل اللبناني على الفلسطيني وهو منكب على عمله بالشارع. يطلب من اللبناني معالجة المشكل. فيرد عليه بعصبية وهو يغلق الباب في وجهه: انتقل الى الشارع الاخر. يقوم الفلسطيني بقطع الانبوب الذي يصب الماء، ويركب انبوبا ليحول مجرى الماء الى الانبوب الكبير كي ينزل الماء بدون ان يُصب على الشارع حيث يشتغل. يكسر اللبناني الانبوب بعصبية شديدة. فيعايره الفلسطيني بعصبية اشد، وهكذا يحتدم الصراع. يهدده اللبناني لدى مديره برفع شكوى ضده، فيطلب المدير من الفلسطيني ان يعتذر له. يرفض في البداية. وبعد الحاح، يقرر الاعتذار.

لكن في الوقت الذي ذهب اليه في محل عمله ليعتذر، يشعر باستفزاز حين سمع من جهاز التلفاز، صوت زعيم حزب قوات الكتائب اللبنانية بشير الجميل ـ المعروف برفضه الصريح للفلسطينيين ـ يلقي خطابا ينضح بالتعصب ضد الفلسطينيين، فيصفهم بأنهم يسيؤون الى من يحسن اليهم. وما ان يقف امام اللبناني حتى يصدمه ويصدمنا معه بكلام طافح بالعداء للشعب الفلسطيني، ويذهب الى حد تمجيد اسرائيل. وهو الذي كان مستعدا لطي الصفحة، عندما يتلقى الاعتذار(!!):« .. انتم شعب بلا اصل.. ليس غريبا اصلكم الوسخ.. لو كنتم تحترمون انفسكم لاعتذرت منذ مدة.. وعلى قول اليهود: الفلسطيني ما ان يضيع فرصة، حتى يضيع اخرى.. ».

 يشتعل الفلسطيني غضبا وينصرف بعصبية شديدة. يلحق به مديره ويطلب منه العودة للاعتذار. يصيح اللبناني في وجهه: «ليث شارون محاكم عن بكرة ابيكم». يصل الاستفزاز في الفلسطيني الى ذروته. ينفجر غضبا، ويلكمه على بطنه. فيرفع اللبناني الدعوى ضده. وهكذا ينفتح الفيلم على صراعات قضائية. في المحكمة الابتدائية ثم الاستئناف، وقبل ان يصدر الحكم من محكمة الاستئناف بالبراءة ايضا. يأتي الفلسطيني الى اللبناني ليعتذر له، ينتقم منه اللبناني بلكمه هو الاخر على بطنه.

وفق منطق البناء السردي للفيلم: يمكن ان يطرح المشاهد مجموعة من الاسئلة منها اولا: عندما وضع الفلسطيني يده على منزل اللبناني، ليغير مجرى الماء. باي حق يضع يده على المنزل ويقطع الانبوب؟ فالفلسطيني كلاجئ، المفروض ان يتصرف باحترام البلاد التي تستضيفه واحترام مواطنيها. وان يتجنب الدخول في اية مشاكل معهم. عندما صب عليه اللبناني الماء، ان يلجا الى الشركة التي تشغله، ليضعها امام مسؤوليتها القانونية عن سلامة موظفيها. اذ تعذر ذلك، فهناك سلطات البلد، وهي المسؤولة عن فض مثل هذه النزاعات. ثانيا: لماذا وصف اللبناني الفلسطيني بتلك الاوصاف القذرة، وقد جاءه بقدميه ليعتذر له؟ ولماذا استمر القاضي في تداول ملف القضية، ثالثا: لماذا انتقلت القضية اصلا الى محكمة الاستئناف، وقد اعترف الفلسطيني بلسانه انه مذنب؟ اليس الاعتراف سيد الادلة؟ رابعا: عندما احتج اللبناني على قاضي المحكمة الابتدائية واتهمه بالفساد والاحتيال، لماذا لم يُحاسبه على ذلك؟ اليس هذا الاتهام، اهانة للقاضي وهو موظف كبير لدى الدولة؟

بين هذه البداية الغير محبوكة والغير مقنعة، وتلك النهاية الفارغة التي لم تفض الى شيء. يتناول الفيلم هذا الموضوع الحساس، وأكثر المواضيع ايلاما للعرب. والذي يدخل في الاطار العام باسم الصراع العربي -العربي. وفي الإطار الخاص والاقليمي: الصراع بين اللبنانيين المسيحيين واللاجئين الفلسطينيين في لبنان. أو محاربة بعض اللبنانيين المسيحيين للوجود الفلسطيني في لبنان. خوفا من ان يميل التوازن الديموغرافي في لبنان الى المسلمين على حساب المسيحيين. (والفيلم لم يشر الى هذا الخوف ولم يقدم اي سبب موضوعي لعداء اللبنانيين المسيحيين للوجود الفلسطيني في بلادهم).

المعروف عن المخرج زياد الدويري، انه مثير للجدل، بتناوله لمواضيع حساسة، وبكتابة سينمائية مخالفة لما يتوقعه المشاهد العربي، وأحيانا صادمة. ويتبنى في ذلك مبدا «هذا هو الواقع»، ويعتمده كمقولةيخاطب بها المشاهد. (ما دمت اعرض عليك الواقع، ليس عليك الا قبوله). هذه النظرية في الحقيقة، لما تنطوي عليه من قصور فكري، تمثل اشكالية نظرية تعاني منها مجموعة من المخرجين العرب، الذين يحملون تصورات تحصر غاية الابداع السينمائي في تحليل الواقع وعرضه على الشاشة، بدل ان يكون وسيلة لصناعة افلام تعبر عن تجذر ورسوخ هويتهم. وتحمل خطابا سينمائيا له استقلاله الذاتي. وانتماء ثقافيا محددا. ان الاكتفاء بتبَني مقولة«هذا هوالواقع»، يؤدي كثيرا الى تجريد الخطاب من ذاتية المخاطِب. وتُحول الفيلم الى اداة تحصر مهمتها في تحليل الواقع واستعراضه، بدل توظيف ذلك التحليل للتعبير عن هوية مجتمع، على انه مجتمع له خصوصياته الثقافية.

الطامة الكبرى في هذه الاشكالية، وهذه التصورات، ان دخول التوزيع السينمائي كمعطى يدفع بـ «لاذاتية» الخطاب، الى انقلاب البعد الاشهاري، وتحوله من اداة توظَّف لخدمة هوية الفيلم، الى اداة للتشهير بتلك الهوية، وتصبح مظاهر التخلف، زخرفة للأفلام ومادة للفرجة.

اختيار زياد الدويري الحياد وضبط التوازن في موقفه بين الاثنين. من جهة: يوقع المشاهد في متاهة البحث عن موقف المخرج من الصراع. ومن جهة اخرى: يعطيه الانطباع بانه خيار يجنب المخرج من اية مشاكل او تبعات او اتهامات، خاصة مع تلك الحمولة السياسية الحساسة والصادمة للفيلم. لكنه في النهاية، يسمح له بتمرير مقولة: «هذا هو الواقع».. هذا هو واقع العلاقة العدائية بين عربيين طائفيين متعصبين: فلسطيني هجرته اسرائيل من وطنه، ولجا الى لبنان، ولبناني لا يرحمه، ويريد طرده دون رحمة او شفقة. و(يعطيه المخرج) الجرأة، ليمجد ابغض شخصية عند الفلسطينيين والعرب: شارون، المعروف بتاريخه الدموي والوحشي وجرائمه ضد الانسانية في حق الفلسطينيين العزل، خاصة عندما غزا لبنان سنة 1982. وارتكب مع قوات الكتائب اللبنانية، اكبر مجزرة عرفتها البشرية في تاريخها المعاصر. وبوحشية لم يشهد العالم نظيرًا لها منذ مئات السنين. مجزرة صبرا وشاتيلا.

تردد اسم شارون في الفيلم ثمانية عشر مرة. ليس بتلك الصفة التي تخزنها الذاكرة الفلسطينية والعربية والانسانية، كعدواني متوحش ومتعجرف تجاه الشعب الفلسطيني، بل كمحترم قوي ومرعب، قادر على انزال اكبر اذى بخصومه. ويتردد اسمه كثيرا في تلك الجملة المستفزة لمشاعر العرب جميعا وخاصة الفلسطينيين «ليت شارون محاكم عن بكرة ابيكم».

هذه الجملة التي ترددت كثيرا في الفيلم، لا تحمل فقط مشاعر الكره والعداء الذي يكنه اللبناني طوني حنا للفلسطينيين. بل تاتي كذلالة على عجز اللبناني عن القضاء على الفلسطيني. وبما يمثل ذلك من الانا العلوية لاسرائيل وشارون المحترمين. امام العرب كمجرد متعصبين ومتخلفين.

مقابل ذلك، ولتبرير الموقف العدائي لياسر من طوني، يعرض الفيلم شريط هجوم مجموعة مسلحين من المسلمين اللبنانيين (الحركة الوطنية اللبنانية) ومنظمات فلسطينية (الصاعقة وجيش اليرموك) على منطقة الدامور مسقط راس طوني حنا. حيث غالبية سكانها من المسيحيين. باعتبار ذلك الهجوم، السبب الذي زرع العنجهية والنعرة الطائفية في نفسية اللبناني طوني حنا، الشاهد على الهجوم حيث كان طفلا. واطنب الشريط في عرض صور معانات المدنيين العزل من ذلك الهجوم. مرفوقا بصوت محامي طوني حنا محاولا التأثير على علينا، بانخفاض صوته وتانيه في سرد معاناة سكان اهل الدامور من (مجموعات المسلمين المتوحشين الساديين).

مقولة: «هذا هو الواقع»، في مخاطبته المشاهد، تعطي المخرج امكانية الانتقاء من الواقع، ما يراه ملائما لمقولة فيلمه. لكن مشكلة هذه المقولة في فيلم القضية رقم 23، انها تخرج الاحداث من سياقها التاريخي. وبالتالي تغيب الاسباب والعوامل التاريخية التي ادت الى احداث مأساوية. كخطابات بشير الجميل ذات النعرة الطائفية الفجة، التي لم نعد نسمع بها في لبنان اليوم، حيث تجري احداث الفيلم. لسبب واضح، وهو العدوان الاسرائيلي على كل من هو عربي. او هجوم الحركة الوطنية اللبنانية والصاعقة وجيش اليرموك على قرية الدامور. وتصوير المهاجمين ـ وكلهم مسلمون ـ على انهم مجرد اشرار متوحشين طائفيين. هدفهم فقط، هو افتراس المدنيين المسيحيين الابرياء والمسالمين ونراهم يحتفلون بقتلهم. أو الاقتتال بين الجيش الاردني والمسلحين الفلسطينيين في احداث ايلول الاسود بالأردن.

عندما يكون هذا المنهج الانتقائي هو المبدأ في الكتابة السينمائية على شاكلة فيلم القضية 23، لا يمكن الا ان يعطي صور (العربي المتخلف، مقابل اسرائيل المتحضرة) بما يسببه ذلك من حرقة نفسية للمشاهد العربي.

Visited 42 times, 1 visit(s) today