“الكيت كات”.. فن ترويض الحياة

محمود عبد العزيز في دور الشيخ حسني محمود عبد العزيز في دور الشيخ حسني
Print Friendly, PDF & Email

يحقق فيلم “الكيت كات” (1991) من تأليف وإخراج داوود عبد السيد، نجاحه وتأثيره العابر للأجيال بالأساس من  خلال شخصية الشيخ حسني، أفضل أدوار محمود عبد العزيز، وبسبب عالم الشخصية الساحر والساخر، بحيث يعرّف الكثيرون الفيلم نفسه بأنه فيلم “الشيخ حسني”، وهو أمر تستحقه الشخصية تماما، ولكنه يخفي، في نفس الوقت، النجاحات المدهشة الأخرى التي حققها داوود عبد السيد كمخرج وككاتب للسيناريو للفيلم المأخوذ عن رواية “مالك الحزين” للروائي إبراهيم أصلان.

الشيخ حسني، وقصة بيعه للبيت الذي يملكه، وعالمه الموازي، وخفة ظله التي تلامس حب المصراوية للنكتة البارعة، والسخرية اللامعة الوجهة حتى الى الذات، كل ذلك هام وأساسي، وخصوصا أن داوود قام بتحويل الشيخ حسني من شخصية ضمن شخصيات الرواية الكثيرة، الى عامود للسرد، والى اعتباره الشخصية المحورية، والتي نرى من خلالها نموذجا إنسانيا متفردا، يكاد يلخص نظرية ترويض الحياة القاسية، سواء بالضحك والغناء، أو بابتكار عالم مواز يديره هو بدون شريك.

الشخصية أيضا هي وسيلة داوود لاكتشاف عالم حي الكيت كات، وشخصياته الكثيرة التي تحاول مقاومة عجزها وبؤسها، والتي تعيش يوما بيوم، وتشهد تحولات حقيقية على مستوى المكان والظروف، وقد اختار داوود للسيناريو عنوانا أوليا اعترضت عليه الرقابة، ولكنه دال جدا في وصف أحوال الناس، وكان العنوان هو “عراة وسط الزحام”، فالشخصيات نراها من الخارج والداخل، وهي فعلا عارية ومفضوحة، فلا الشيخ حسني يسكت، ولا المكان نفسه يمكنه أن يخفي سرا، هذا هو قانون الحكاية كلها: البوح والفضح والإعتراف.

أعظم مراقب

القصة إذن عن أهل الكيت كات، مثلما هي عن الشيخ حسني الذي يمكن اعتباره عنوان فلسفة ترويض الظروف التي يعيشها، ويعيشها الجميع، إنه بالتأكيد أعظم مراقب ظهر في أفلام داوود، هناك دوما في أفلامه هذا المراقب الذي تدخله الظروف في تجربة التورط والمشاركة، والشيخ حسني مراقب يقظ رغم لحظات غيبوبة الحشيش المؤقتة، إنه تقريبا ذاكرة الحي كله، ويعرف كل شيء رغم أنه كفيف، وهو لا يكتفي بالمراقبة والمعرفة، ولكنه يعلن في الوقت المناسب عما يختاره، أما التجربة التي سيتورط فيها فتتمثل في بيعه للبيت وللمقهى الموروث للمعلم هرم، الذي باع الميراث بدوره للمعلم صبحي تاجر الفراخ.

انتزاع  الشيخ حسني بشخصيته الآسرة بعيدا عما حوله مدخل غير صحيح لقراءة الفيلم، وانبهار خادع بالشخصية على حساب نجاح أهم وأعمق، وهو أن يكون  الشيخ حسني شاهدا ومعلقا ومراقبا، وأن يكون مرآة للناس وللمكان في نفس الوقت، وخصوصا أن بيع البيت والمقهى، ورغبة الابن يوسف في السفر، ودور الأمن في إدارة الحياة، وتوحش المعلم صبحي الى حد التهديد والتلويح بالقتل والإغراق، وحالة العجز التي يعانيها يوسف، وظاهرة الأزواج المهاجرين، وكسر الخواطر، والبحث عن غيبوية موازية، كل تلك الإشارات لها دلالات اجتماعية واضحة للغاية،  تكشف عن تبدل الأحوال، وصعوبة الحياة، أو كما قال الشيخ حسني لعم مجاهد الميت:”الحكاية مش حكاية البيت، الحكاية حكاية الناس اللي لازم تعيش”.

لعله أراد أن يقول أيضا إن الحكاية ليست حكايتي أنا وحدي، ولكنها حكاية كل هؤلاء، وإنما الشيخ حسني هو العنوان اللامع، وهو الوتد الذي يقيم خيمة القصة والدراما، بحيث يسير البناء الفذ للسيناريو من الشيخ حسني الى شخصية أو شخصيات أخرى، ثم نعود للشيخ وهكذا، وتعمل هذه الحركة الدائمة على رسم بورتريه إنساني للشيخ حسني، وللشخصيات الأخرى في نفس الوقت، بينما تدفع تطورات وأثار بيع البيت الأحداث الى الأمام، خاصة بعد أن عرف الشيخ حسني أن هناك من استعماه، وهو لا يحب من يستعماه، لقد اكتشف أن بيع البيت مقابل الحشيش لم يكن منصفا، والأهم من ذلك اكتشافه أن علاقته بابنه الوحيد على المحك.

رحلة اكتشاف

هي إذن رحلة اكتشاف لمجتمع يتغير من خلال رسم ملامح شخصياته، هذه البورتريهات التي تتناول نحو 16 شخصية، على رأسها الشيخ حسني، تكشف عالما لانراه، مع أنه على النيل، وفي قلب العاصمة، ودوما يختبر داوود بالتجربة، وبالدراسة العميقة للشخصيات، تيماته الأثيرة: العجز في مقابل القدرة، والمراقبة في مقابل التورط والمشاركة، والقيود في مقابل التحرر وتحطيم الأغلال.

ومثلما اعتبرنا الشيخ حسني أفضل مراقب متورط في عالم داوود، فإننا يمكننا اعتباره أيضا أفضل عاجز قادر في عالمه، وأفضل مقيد متحرر في هذا العالم، وكما ذكرت من قبل، فإن الشيخ حسني يراقب العالم، ويعلق عليه، ويعرف عنه كل شيء، لدرجة أنه يعرف مثلا أن فاطمة ويوسف ابنه سيذهبان الى السينما، ويلمح الى هذه المعرفة بأغنية “حرّج عليا بابا ما روحش السيما” ، وهو يعرف أيضا ما يدور في بيت الأسطى حسن من ورائه .. الخ

إنه مراقب عليم ومذهل، ولكنه أيضا سيتورط في بيع ميراثه، وسيتورط في التعامل مع شخصيات تسرق الكحل من العين، مثل المعلم هرم والمعلم صبحي، والمراقبة والتورط في الفيلم ممتزجان الى درجة يصعب فصلها.

أما عن العجز والقدرة فالشيخ حسني كفيف، ولكنه أقدر وأذكى شخصيات الفيلم في التعامل مع ظروفه، وبينما يقول عنه يوسف في البداية إن مشكلة والده أنه أعمى وسط مبصرين، ومغني وسط ناس لا تسمع، سنكتشف تدريجيا أن بصيرة الشيخ حسني جعلته مبصرا وسط عميان، وليس العكس، وفي مشهد ميكروفون الجنازة الشهير سيفضح ويعرّي الجميع، دون أن يعرف، وسيكتشف المحيطون به أنه فعلا مبصر وبصير، وأن الغفلة تليق بهم وليس به.

تدريجيا سيكتشف يوسف نفسه أن والده يرفض أن يكون أعمى، وأنه أكثر قدرة على الفعل منه شخصيا، يقول يوسف ذلك لفاطمة معترفا بأنه غير قادر على السفر، ولا تعلم الموسيقى، بل إنه غير قادر على أن يكون رجلا معها، ويعلق الشيخ حسني من وراء الشباك في الشارع:” إخص الله يكسفك!”، ولا يتحقق يوسف جنسيا مع فاطمة إلا بعد أن يضرب الشخص الذي أرسله المعلم صبحي لتهديد الشيخ حسني بالإغراق، وكأن والده يخلصه من عجزه بطريق غير مباشر.

وضع عجز يوسف في مقابل قدرة الشيخ حسني، حتى ولو كانت قدرة تثير الضحك، منح الحكاية حيوية فائقة، ليس لأن الشيخ حسني قوي وواثق من نفسه وقادر على معرفة أخطائه وتصحيحها فحسب، ولكن لأنه أيضا يحاول مقاومة عجز لا يمكن الشفاء منه، وأعني بذلك فقدانه لبصره، وهي محاولات تثير الضحك طوال الفيلم من بدايته حتى نهايته، ولكن الشيخ حسني، مثل سيزيف، لا يتوقف عن المحاولة، ويكرر في أول مشهد في الفيلم، وفي آخر مشهد منه رفضه لمواجهته بأنه أعمى، ويقول لمن يسخر من فقدانه للبصر :” أنا باشوف أحسن منك .. في النور وفي الضلمة كمان”.

المنطق معكوس: الأب الكفيف قادر على ترويض الحياة، والابن الشاب عاجز تماما عن الحياة، لا شيء ينجح فيه سوى اصطياد عدة سمكات للغداء، أحلامه ممدة معه في قارب عابر في النيل، وهو لا يتمسك بالبيت إلا باعتباره وسيلة للحصول على أموال للسفر، وبينما يرفض  يوسف السفر للكويت أو السعودية، فإننا نتشكك في مدى نجاح هكذا شخصية إذا سافرت فعلا الى أوربا.

الوعي والتحرر

التيمة الثالثة وهي التحرر في مقابل القيود حاضرة أيضا بتنويعات مختلفة أولها بالتأكيد في حالة الشيخ حسني، الذي نعتقد لأول وهلة أنه غافل عن مأساته الخاصة، ثم نكتشف أنه شديد الوعي بها، ولكنها يواجهها بالغناء والضحك، إنه يبدو مثل زوربا الذي لو توقف عن الرقص لانتحر، حتى الحشيش الذي يعترف الشيخ حسني أنه عيبه الوحيد، لم يكن إلا وسيلة لكي يفضفض، حتى لا يموت غما وكمدا بعد موت زوجته.
 الغناء أيضا وسيلة للبهجة ولتحقيق التوازن، وكذلك الخيال الخصب، الذي يجعل عماه مرتبطا برؤية فتاة جميلة على الشاطيء، والذي يجعل موت عم مجاهد أسطوريا، بالإدعاء بأنه غرق أثناء عبوره النيل من شاطيء الى آخر، فمثل عم مجاهد، وهو أيضا مراقب عتيد وعتيق، لا يجب أن يموت ببساطة  هكذا أمام قدرة الفول في وسط الحارة.

الشيخ حسني يتحرر بطريقته من مأساته، مثلما يتحرر يوسف في علاقته مع فاطمة من عجزه، وتتحرر هي من مخاوفها ومن كبتها: يفضفض لها عن مخاوف طفولته من العود المسكون بالعفريت، وتعترف له بإعجاب قديم به منذ الطفولة، ثم تعترف له أيضا بأن زوجها الغائب قد طلقها من فترة طويلة، هما أيضا واعيان بمأساتهما، وقيودهما الداخلية، ويبتكران وسائلهما الخاصة للتحرر.

كل شخص يعترف ليتخلص من عبء ثقيل، ولكي يمكنه أن يروض ظروفه وحياته، وكل واحد يعيش الحياة على طريقته: المعلم صبحي يرى طموحه في الشراء والهدم والبناء ، والمعلم هرم المقهور من الضابط، يصنع حريته بلعبة مع سجين يستبدل معه ملابسه، وسليمان الصائغ يتحرر بالإعتراف عن دور صمته وخجله في فشل زواجه، وفي هروب زوجته روايح من بيته.

مباهج قصيرة

عالم يبدو مستترا وعاريا في نفس الوقت، مباهجه قصيرة، وخياناته بائسة، هاديء من الخارج، وصاخب في الأعماق، هكذا تسير الحياة، ليست ساكنه كما تبدو، ولكنها تتغير في اتجاه صعود وتوحش المعلم صبحي وأمثاله، وفي اتجاه انزواء الشيخ حسني وصديقه الكفيف الشيخ عبيد في عالمهما، يتذكر الشيخ حسني مع أم روايح أيام لعبة عريس وعروسة في الحقول، فتقول له إنه لم تعد هناك حقول، صارت هناك أبراج وبنايات.

العالم ينسحب من الشيخ حسني فيقاوم بالغناء والخيال والضحك، ويقاوم بذكائه وحيلته ومعرفته، ويقاوم حتى برفض العمى، وبمنافسه المبصرين في قيادة الموتوسيكلات، ومشاهدة الأفلام، ربما كان يسخر من عجزه ومن نفسه، ويتحدى قدره مهما كانت النتائج.

ومثلما يحمل الشيخ حسني مأساته وضحكاته، لكي نرى من خلاله عالم الكيت الكات القديم والجديد، فإن مشهدين عظيمين يلخصان وعي الرجل ومعرفته الشاملة، رغم ظروفه القاسية، المشهد الأول هو مشهد حديثه لعم مجاهد بائع الفول الذى مات في مكانه، يقول الشيخ حسني إن ظروفه هي التي أجبرته على بيع البيت، وإن معاشه الهزيل، وظروف مرض أمه، جعلا الحياة صعبة، وإنه ترك معاشه لأمه، ويسأل الشيخ حسني عم مجاهد أين كان عندما طردته زوجة أبيه؟

لا يرد مجاهد لأنه مات، فيحمله الشيخ حسني في عربة الفول، وكانه يحمل زمنا لن يعود لكي يدفنه، ظل عم مجاهد مجرد مراقب، غير قادر على التغيير، وهو صديق الأب وبديله، ولكن الظروف المتغيرة، تكتسح الكيت كات، وتسدل الستار على زمن مجاهد بأكمله، وموته هو نهاية عصر، وليس نهاية مراقب عتيد فحسب، ورأي الشيخ حسني، في حواره الأخير مع عم مجاه،د بأن الحكاية ليست حكاية البيت، وإنما حكاية الناس التي تريد أن تعيش، هذا الرأي هو مفتاح الفيلم، ومحور وهدف فلسفة الشيخ حسني في ترويض الحياة، إنه يروض الحياة حتى تكون محتملة العيش، سواء بسبب ظروف فقدانه للبصر، أو بسبب أزمة ابنه، أو بسبب ظروف معاشه الهزيل، أو نتيجة مصاريف أدوية أمه.

مدرس الموسيقى وعاشق الحياة المتفوق الذي تسلم شهادة تقدير من عبد الناصر في عيد العلم، صار أنيس مجلس الحشيش اليومي، باع ميراثه بالحشيش، هذه مأساة قاسية يمكن أن يقود الى الموت السريع، ولكن، ووفقا لنظرية الشيخ حسني، يمكن مواجهتها بالمحاولة وبالمقاومة: يستيقظ الشيخ حسني ضيق الصدر، مكتئبا، ثم يبدأ في الغناء، وينطلق في الخيال، فيعيد اختراع واقعه كما يشاء، مثل مصارع ثيران محترف، يلوح باللون الأحمر للثور الشرس، ولا يغفل لحظة عن شراسة عدوه، فطالما التزم بالوصفة لن يقتله الثور، ولكن المشكلة أنه أيضا لن يقتل الثورأبدا.

أما المشهد الثاني العظيم فهو مشهد ميكروفون الجنازة، وإفشاء الشيخ حسني دون أن يقصد لكل أسرار الحارة، وهو مشهد يذكرنا بمشهد افشاء الأسرار عبر الميكروفون في الفيلم الأمريكي “ماش”، ولكنه يمثل في فيلم “الكيت كات” انتقام المراقب، الموصوف ظلما بالعجز، من كل المبصرين، إنه غناء صولو حاد ومؤثر يسمع كل الطرشان، ويؤكد من جديد أن بصيرة الشيخ حسني تتحدى عجزه وعجز الآخرين على حد سواء، تعرية كاملة تثبت عبثية وفوضى حياة الجميع، لم يقصد الشيخ حسني أن يثرثر أمام ميكروفون مفتوح، ولكنه أراد أن يفضفض للجالسين حوله، فلما عرف آثار ما حدث، كان سعيدا ومنتشيا، هذه حياة الجميع ملخصة في في جلسة، وهذا سعيهم الخائب، وحصادهم الهزيل، يقول كل ذلك في عزاء عم مجاهد الشاهد على تغير الأحوال، والميت الذي لم يسمع مبررات الشيخ حسني، فكأن الرجل يفارق بصخب  فاضح تعويضا عن صمت قديم ومؤلم.

ثم يأتي مشهد النهاية بين الشيخ حسني وابنه يوسف حاملا نوعا آخر من التصالح، الابن الذي كانت خطواته مغروسة في الأرض، صارت خطواته الآن خفيفة وكأنه يطير، الشيخ حسني في حالة طيران دائم، هنا يتقاربان، يتفهم يوسف منطق ترويض الحياة، ويحمل عوده ليشارك والده الغناء، يكتب سيد حجاب ويلحن إبراهيم رجب واحدة من أشهر أغنيات الأفلام المصرية.

تلخص الأغنية معنى الرحلة كلها، وتقرر البند الأول في فن ترويض الحياة، عندما يغني الشيخ حسني : “ياللا بينا تعالوا/ نسيب اليوم في حاله/ وكل واحد مننا يركب خياله/ درجن درجن درجن “.

يتيح الخيال هروبا من اليوم، ومن المكان، ويتيح العودة الى أيام زمان، ولكن الشيخ حسني ليس مغيبا عن واقعه، فسرعان ما يقول بصراحة : ” وبص بص شوف .. شوف الناس والظروف”، يستعجب من الأحوال المقلوبة، ومن تعدد ألوان الطبائع البشرية، التى تشبه تعدد ألوان الجلود، وتعدد المنتجات التي تصنع منها.

ذلك الذي اعتقدناه مهرجا هاربا من الحياة، ومغيبا عن واقعه، يبدو الآن فيلسوفا لا يقل عن زوربا الراقص الأبدي، يقول الشيخ حسني :” خد بالك”، ويقترح أن نرى الواقع أعمق بعين الخيال ” جايز تلقى الديابة لابسة فروة خروف/ جايز تلقى الغلابة في أول الصفوف “.

أضحكنا الشيخ حسني على الحياة وعلى نفسه، ولكنه جعلنا نرىفي العمق لا أن ننظر فقط، قال لنا إنه ليس مضحك المدينة، ولا مغنيها، ولكنها شاهدها وعينها النافذة، قال لنا إنه وصل من الحكمة الى درجة أنه صار مهرجا، أصبح صانع اللحن والكلمة المؤرقة، باع البيت، ولكنه لم يبع خياله ولا استمراره في المحاولة، فقد عينه ولم يفقد وعيه، يحلق ويطير لكي يرى الواقع بشكل أشمل، ولكي يتوازن مع جاذبية الأرض البائسة.

يتواطأ يوسف المتحرر نسبيا مع والده، يتركه يقود الموتوسيكل، فيسقطان في النيل، يخرجان، الابن ما زال واقعيا، يواجه والد بانه أعمي، فيصمم الشيخ حسني أنه يرى أحسن من ابنه، في النور وفي الظلام، يضحكان معا، نشعر أنهما يطيران وهما في مكانهما، وعي بالواقع، واعتراف أيضا بأهمية الخيال في ترويض الواقع، أرضية سوداء وسماء زرقاء صافية، تترجمان هذه الثنائية المدهشة، وضحكة من الأعماق تنتصر ل سيزيف المصري، ول زوربا العائش في الحياة، والعائش في حياة موازية في نفس الوقت.

صورة وشخصيات

الآن فقط نكتشف أن الصورة ضخمة ومصنوعة بمهارة، يتوسطها الشيخ حسني بعباءته التى تخرج منها كل العجائب، رأسه تبحث عن شيء ما في الأعلى، عن يمينه يوسف الباحث عن طريق، والذي يريد أن يقهر خوفه، وعن يساره فاطمة البائسة أسيرة ظروفها، والشاكية لسيدي المغربي من قهر الحياة، ومن قسوة العشق، والمقاومة لكبتها وخوفها، لم تستطع أن تقهر الخوف حتى النهاية، ولكنها حاولت وستحاول.

خلف الشيخ حسني في الصورة أمه المؤرقة بالمستقبل، وعم مجاهد بديل الأب، وضمير الزمن الغارب، والشيخ عبيد الكفيف الذي خدعه الشيخ حسني، والثلاثة يرسمون خطوطا هامة في بورتريهات الغلابة، وفي بورتريه الشيخ حسني في نفس الوقت. 

من بعيد يظهر في الصورة ثلاثي صفقة البيع والشراء: المعلم عطية الذي يريد الإحتفاظ بالقهوة، والمعلم هرم الشاري الأول، والمعلم صبحي الشاري الثاني، أوالحوت  الشرس القادم.

ثم تتزاحم شخصيات الحكاية كأطياف تستكمل الصورة: سليمان الصائغ، زوجته الهاربة روايح، أمها الباحثة عن ماض لن يعود، الأسطى حسن الذي لا يرى ما يحدث في بيته رغم أنه مبصر، زوجته اللعوب فتحية، صديق يوسف الذي يدير أشرطة قادمة من العراق، الضابط الذي يريد قضايا مخدرات جاهزة من هرم، هذه هي علاقة الحكومة الوحيدة بالحي، والفيلم يفتتح مشاهده بأقدام رجلي شرطة تتفقد المكان، وتمر أمام دكان الأنس والفرفشة، ولا تقتحمه إلا في مشهد آخر.

مأساة ضاحكة

ثلاثة أجيال ترسم لوحة مزعجة لمن أراد أن يتأمل: جيل الشيخ حسني الذي يقاوم ويروض واقعه، وجيل عم  مجاهد المراقب المتأمل والغارب، وجيل يوسف العاجز غير القادر على الفعل أو تحقيق الحلم، فيالها من مأساة تغلفها الضحكات، وتعبر عنها موسيقى راجح داوود الشجية، التي تمنح العود، صوت الشيخ حسني، حضورا دائما في صراعه القدري مع ظروفه، والتي تحلق معه وهو يقود الموتوسيكل، وتبارك نجاته في المشهد الأخير.

 استخدم راجح أيضا صوت آلة الأرغون المهول والعميق، لعله صوت صخرة سيزيف الهائلة التي لا تنتهي معاناتها، ومع ذلك نحملها، ونصارعها ونروضها، بلا توقف.

أهدى داوود فيلمه الى فنان السينما المصرية، مهندس المناظر أنسي أبو سيف، الذي بنى حارة مذهلة فى تفاصيلها، لا أعني بذلك البناء المادي فحسب، وإنما  أيضاروح المكان ورائحته، ولذلك لم نشعر أبدا أن هناك ديكورا في الفيلم، ولم نجد فاراق بين مشاهد قليلة حقيقية لحي الكيت كات، وبين الحارة المصنوعة و التي كان يتحرك فيها الممثلون بحرية تامة، وكأنها المكان الذي ولدوا فيه.

 بيوت الشخصيات مثل بيت فاطمة وبيت الشيخ حسني تنطق بانتمائها الى الشخصيات، هي امتداد لهم، وتعبير بصري عن ظروفهم، يستحق أنسي بالتأكيد تحية داوود الخاصة عن هذا الإنجاز الفني، الذي يستلهم الحكاية، ويعبر عنها  ببراعة، مكانا وألوانا ورائحة.

محسن أحمد مدير التصوير هو أيضا أحد أعمدة هذا البناء البصري المدهش للفيلم، هناك مشاهد مظهرها واقعي، ولكن مضمونها خيالي، مثل المشهد الإفتتاحي الذي يحكي فيه الشيخ حسني في جلسة حشيش كيف أصابه العمى، ومشهد النهاية الذي يجمع بين السماء الزرقاء والأرض السوداء.

استوعب محسن أحمد مضمون هذه المشاهد، فمنحها هالة من السحر المضيء، في المشهد الأول ينير الشيخ حسني فيعكس على الحائط خيالا إضافيا يزيده ضخامة، وكأنه صارا عملاقا بخياله المحلق، وفي المشهد الثاني منحت الإضاءة الشيخ يوسف وابنه مظهر الحلم لا الواقع، فانتقلنا من واقعية فوضى قيادة الموتوسيكل في الشارع، الى عالم ساحر يتصالح فيه الخيال والواقع.

هناك تكوينات لا تنسى ترجمتها كاميرا محسن أحمد، سواء في اقترابها من وجه الشيخ حسني، وكأن هذه الكلوزات المتتالية تريد أن تدخل الى مسامه وخلاياه، أو مشهد نقل الشيخ حسني لجثمان عم مجاهد ووضعه في عربة الفول، ثم هبوط الكاميرا ليضيق مدى رؤية نهاية الحارة، ومشاهد الفوتومونتاج البارعة والسلسة في انتقالاتها (مونتاج عادل منير)، سواء عن معاناة فاطمة وشكواها للشيخ المغربي، أو في مشاهد استرخاء يوسف المتأمل في قاربه، ولا أنسى  تكوينا بديعا ومعبرا تجلس فيه فاطمة طاوية ساقيها، وتظهر خلفها الحارة، هي عملاقة مثل تماثيل محمود مختار، والحارة  باهتة مثل لوحة مرسومة بألوان الماء.

داوود عبد السيد اختار كالمعتاد ممثليه الملائمين: محمود عبد العزيز الذي استلهم، كما ذكر داوود، تفاصيل  شخصية الشيخ حسني من الشيخ عيد الأبيض الذي ظهر في الفيلم، وهو قاريء القرآن الذي استعان به الشيخ حسني لإحياء عزاء عم مجاهد، لغة الجسد كانت أيضا في مكانها، يسكن الشيخ حسني فكأنه جثة في عباءة عند الحزن والشحن، ولكنه يتحرك ويزيح الهواء بيديه ورجليه عندما يحس بشيء أو بشخص، مما يحدث تأثيرا كوميديا، صوت الشيخ حسني يبدو ساخرا ولكنه ليس صوتا سعيدا على الإطلاق، أما تعبيرات وجهه بالذات وهو في مشهديه مع عم مجاهد، فإن فيهما ألما خارقا، وخجلا عميقا، وشجنا دفينا ومؤثرا، لقد كشف الشيخ حسني مناطق غائرة في  شخصية محمود عبد العزيز الإنسان والممثل، فتحرر المشخصاتي بداخله من قيوده وصنعته، مثلما تحررت شخصية الشيخ حسني من  قيود واقعها وزمنها.

شريف منير كان أيضا في أفضل حالاته، وكأنه يسكب احباطات جيله، في إحباطات يوسف، وبدت عايدة رياض مثل أنثى كاملة تقاوم تكفينها، نظراتها وصوتها وحركة جسدها، كل ذلك يصرخ ويعبر، ولكنها أيضا يسكنها الخوف والحزن، ولا تستطيع أن تغادر مكانها، فاطمة تبدو كما لو كانت تنويعة على تململ النساء وتمردهم في الكيت كات، والذي سيترجم أيضا الى خيانة فتحية، وهروب روايح، ومشروع موعد أم روايح مع الشيخ حسني، وغضب جدة يوسف الدائم، وتأنيبها له، وقد لعبت دورها بحضور وباتقان الأم والجدة الخالدة أمينة رزق.

من الأدوار المميزة أيضا دور نجاح الموجي في شخصية المعلم هرم، تاجر مخدرات وفهلوي يختلس كل شيء، ويعرف كيف يفوز بالفرصة، سواء وهو يشتري البيت بالحشيش، أو هو يفوز ب فتحية زوجة صديقه الأسطى حسن، ملامحه وحركته تجعله مثل ذئب قناص، حتى وهو يقنع مسجونا بارتداء ملابسه نظير وجبة طعام.

هناك كذلك دور أحمد كمال في شخصية سليمان الصائغ، الصامت الذي لا تحل عقدة لسانه إلا البيرة، خجول وعاجز عن المواجهة أو الفعل، يأخذ معه الشيخ حسني ليسترد له زوجته، ولا يعترف سليمان بمأساته إلا في المقهى المفتوح، ومن خلال مونولوج مؤثر ترجمته تعبيرات وجه أحمد كمال، فمزج  ببراعة بين الألم والشعور بالعجز وبالذنب معا.

وبين دوره في “الكيت كات” ودوره في “البحث عن سيد مرزوق” قطع المشخصاتي علي  حسنين مسافة واسعة بفضل موهبته العظيمة، السيد المرزوق يبدو أمامنا الآن شيخا ضريرا مستطيعا بغيره اسمه الشيخ عبيد، مشاهده مع محمود عبد العزيز صارت من كلاسيكيات الفيلم المصري، وهما مثيران للضحك وللرثاء في نفس الوقت.

أعمى يقود أعمى، وأعمي يحمل ميتا، ويد تبحث عن جدار، أو تمسك بشخص، وناس حقيقية سواء في أحلامهم، أو في واقعهم، ينتزع داوود عبد السيد في “الكيت كات” جوهر شخصياته في  عالمهم المحدود، وفي ظروفهم الشاقة، بل ينتزع أيضا جوهر الشخصية المصرية، في عجزها وفي قدرتها، في فهلوتها وفي ذكائها، في صبرها وتململها، وفي تكيفها مع الواقع، وفي صناعتها لواقع مواز، ولخيال خصب، بنفس الدرجة من القوة.

“الكيت كات” عالم يزول، وأخر يقاوم، وثالث محبط وعاجز، ورجل ضحكنا على حالته في الفيلم، فأبكانا على حالنا بعد نهاية الفيلم.

Visited 40 times, 1 visit(s) today