ديريك مالكولم يتذكر بونويل وبرجمان وبوليوود

ديريك مالكولم مع روبرت دي نيرو ديريك مالكولم مع روبرت دي نيرو
Print Friendly, PDF & Email

ترجمة: رشا كمال

بصفتي ناقدا سينمائيا لصحيفة “الجارديان”، عندما كان بوسعي في الأيام الخوالي السفر حول العالم لمشاهدة الأفلام المعروضة دون إنفاق الكثير من أموال الصحيفة المحدودة للغاية، كنت أتناول الإفطار بصحبة هوارد هوكس، والغداء مع لويس بونويل، والشاي مع شارلي تشابلن، والعشاء برفقة أندريه تاركوفسكي، فلما لا أتباهي بهذا

ولكن هذا دور حرف الباء لذا من الأفضل أن أتحدث عن بونويل، وأحد القلائل الذين صنعوا الكثير من الأفلام الجيدة في بداية مشواره الفني بل وأصبحت أفضل في نهاية مشواره. فالكثير من المخرجين يقدمون بضعة أفلام جيدة في بادئ الأمر ثم، وبعد كثير مما ينالونه من الثناء، يخيبون الآمال.

واحد فقط ممن أعرفهم قطع طريقا عكسيا، فقد قام بإخراج فيلم وهو في السبعين من عمره بعد ما يقرب من عشرة أفلام يمكن القول إنها ذات مستوى فني متواضع.

وكان رأيي أنه الرجل الأوفر حظاً، لأنه لا يوجد أسوأ من الحديث عنك بصيغة الماضي الذي كان، من قبل أولئك الذين قدروا أعمالك الأولى.

أما بونويل، الذي قام بتغيير أسلوبه بين المكسيك، إسبانيا وفرنسا، فلم تتضاءل أبداً جودة أفلامه. فقد كان فناناً بكل تأكيد، ولم يكن يهتم برأينا في أفلامه المعروضة طالما أنها تحقق ما يكفي في شباك التذاكر بما يسمح لع باخراج فيلم أخر.

بونويل يضبط الممثل قبل لقطة من “حسناء النهار” مع كاترين دينيف

كان يشعر، حسبما أخبرني، بندم كبير لعدم قيامه بإخراج أي فيلم على الإطلاق في هوليوود.

وعندما أخبرته أنه كان أكثر حظا مما يعتقد، أوضح لي أن العديد من افلامه المكسيكية قام بتنفيذها لمنتجين أسوأ من منتجي هوليوود، لم تكن لديهم أي فكرة عما إذا كان ما صنعه لهم يعد جيداً، سيئاً، أم دون المستوى، طالما أنهم حققوا بالطبع بعض المكاسب المالية.

كان تناول الغداء معه تجربة غريبة، فهو لم يكن يتحدث الإنجليزية، ولم يكن مترجمه جيداً جداً. والمشكلة تمثلت في عدم استعداده للحديث كثيراً عن أفلامه، شأن كيشلوفسكي. فقد زعم، تماما مثل كيشلوفسكي، أن لديه فكرة ضئيلة عما تروي أفلامه في الواقع. لكنه كان على استعداد للتحدث عن ممثليه، وعن الفكرة الأساسية في جميع أفلامه، وهي أن يكون صادقاً بقدر الإمكان تجاه شخصياته، فلو تمكن من القيام بذلك على حد قوله، فستظهر جميع المواضيع بشكل تلقائي.

وكان ظريفا جداً بشأن معاصريه، مشيراً أن سلفادور دالي كان زير نساء كبير، وكانت له مغامرات مع الأمريكيات على وجه التحديد. لكنه نادراً ما كان يمارس الجنس معهن.

زعم بونويل أنه طلب مرة واحدة فقط من امرأة أن تتعرى أمامه، ثم قام بوضع بيضتين على كتفيها، قبل أن يطلب منها بكل أدب الخروج من منزله.

أخبرته أن فيلمي المفضل من أفلامه هو “تريستانا.”: وكان تعليقه: “آه، تعجبك كاترين دينوف”!

قلت: كلا.. بل أفضل فرناندو راي. ويبدو أن ردي أعجبه، ثم تناولنا غداء قليلا ولا يمكنني أن أتذكره بل أتذكر فقط تلك التجاعيد تحت عيني بونويل، والنظرة الثاقبة لعينيه.

لم أقابل برجمان قط، لكني أسأت إليه مصادفة وذلك بسبب عدم ذكر أي من أفلامه في كتابي “قرن من الأفلام”. وهو يتضمن مائة فيلم، واحد لكل مخرج، قمت بإرساله إلى الناشر، الذي أشتكى من أن عددها 99 فيلما فقط. وللأسف، فقد صدقته فأضفت فصلا آخر عن فيلم “الفراولة البرية” لبرجمان، ولكن بعد صدور الكتاب انتابني الذعر من إغفال الناشر هذا الفيلم.

ليف أولمان

ليف أولمان، خليلة برجمان وقتها، أرادت نسخة من الكتاب وعرضتها على برجمان، الذي انزعج بدوره من تجاهله. ولكن كان من المستحيل إخباره بما حدث بالفعل دون أن يبدو عذرا أقبح من ذنب.

هناك شيء أخر أخبرتني به ليف أولمان وهو أنه على الرغم من النبرة الحزينة المحبطة في الكثير من أفلام برجمان، إلا أن تصوير أفلامه كانت على العكس من ذلك، أوقات مليئة بالمرح في أغلب الأحيان.

لست متأكدا تماماً من صدقها، ولكن أتمنى لو كان بإمكاني أن أصدقها. فلن تري هذه الأيام الكثير من أفلام برجمان إلا إذا سعيت إليها بدأب. ولكن عندما اعود لمشاهدة أفلامه، أدرك كل مرة أنه لا يوجد أحد آخر يماثله في امتلاك قوة التعبير عن الحقيقة القاسية الصارمة وراء العلاقات الإنسانية.

في بوليوود

بوليوود مسألة مختلفة نوعاً ما فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية الحقيقية. لكن ينبغي على المرء أن يتذكر أنه، في سالف العصر، في فترة الثلاثينيات والأربعينيات تحديداً، كانت أفلام بوليوود كما يطلق عليها اليوم (أي الأفلام الهندية المصنوعة في مومباي) متميزة بعدد من أفضل ما أنجبتهم الهند من مخرجين ممن تعاملوا مع ملحنين ومطربين كلاسيكيين من الدرجة الأولى في أفلامهم.

فمشاهدة أفلام لمخرجين مثل غورو دوت من تلك الفترة يعد أمرا مدهش بحق. حتى أفضل أفلام بوليوود الآن تبدو مليئة بالأفكار المبتذلة مقارنةً بالأفلام القديمة.

ولكن لا ينبغي أن يسخر أحد من بوليوود، فحالها كحال هوليوود، التي تقوم بصنع أفلام لمن يرغبون في التسلية بكل بساطة. لكن يبدو أنه على الرغم من التقنيات الحديثة الرائعة، أن أزهى عصور بوليوود قد عفا عليه الزمن.

إلى برلين

مهرجان برلين السينمائي- دورة عام 2014 على الأبواب، في جو قارص شديد البرودة بكل تأكيد، وبرنامج يحوي أفلاما كثيرة جداً. ستكون مشاهدة عشرين بالمئة منها أمراً مستحيلاً. فالعدد يفوق كثيراً ما قد تم عرضه في كلٍ من كان وفينيسيا المهرجانين الرئيسيين الآخرين.

وللأسف العديد من الأفلام المشاركة ذات مستوى متوسط جداً بالفعل. ولكن ينبغي أن نتذكر أن فيلم “انفصال” الايراني قد فاز بجائزة هذا المهرجان الذهبية وهو فيلم واحد فقط من الأفلام العالمية التي تم منحها الجائزة هناك في السنوات الأخيرة.

فاسبندر في برلين

كنت عضوا في لجنة التحكيم هناك قبل فترة طويلة، وكان راينر فيرنر فاسبندر واحدا من زملائي أعضاء اللجنة. لم يكن مسروراً قط بعدد من الأفلام المشتركة في المسابقة، فاعتاد أن يغفو بانتظام أثناء العرض.

سكرتيرة اللجنة حينذاك كانت سيدة عجوز، تعمل هناك منذ سنوات، ولم تكن من النوع الذي يقبل بأي تهاون.

لقد قالت له ذات مرة: “سيد فاسبندر.. هلا تكرمت وأبديت بعض الاهتمام، فليس من المنصف لمخرجي الأفلام أن تنام أثناء عرض أفلامهم”.

يجب القول إن فاسبندر الذي تعرض للهجوم من قبل تلك السيدة العجوز، قد أبدى اعتذارا واضحاً. ولكنه سرعان ما غطس في النوم مجددا.

وفيما يتعلق بمناقشات لجنة التحكيم، فقد فتحت أبواب الجحيم السبع على مصراعيها عندما ذكر أسم فيلم روبير بريسون “الشيطان ربما”، فقد راق لعدد قليل منّا، بينما رغب الباقون في تجاهله. وأعقب هذا الجدال شكوى مريرة من عثمان سمبين المخرج الأفريقي العظيم الذي كان رئيسا للجنة التحكيم آنذاك. فقد أعلن أنه لا يستطيع ترأس تلك اللجنة المتشاحنة، فاقترحت على الفور أن تتولى الممثلة الأمريكية القديرة إلين بيرستين زمام الأمور. وهو ما قامت به بالفعل، موضحةً لنا عدم سماحها بأي تصويت يحابي فيلم بريسون الذي يحمل وجهة نظر متعاطفة مع الشباب الذين يفكرون في الانتحار.

من فيلم “الشيطان ربما” لروبير بريسون

كان هذا كلاما فارغا، لذا فقد أعلنت أنني سأنسحب من اللجنة لأن سمعتي كناقد ستتأثر سلبياً في حالة عدم فوز بريسون بجائزة. ولكن ما أصابني بالدهشة والارتياح في نفس الوقت كان وقوف فاسبندر في مقعده قائلاً “وإذا رحل هو، فسأرحل أنا أيضاً.”

بالطبع لم تكن استقالتي من اللجنة تتسبب سوى في ضجة بسيطة. أما في حال ترك فاسبندر للجنة فكان بإمكان الخبر أن يتصدر الصفحة الأولى في جميع الصحف الألمانية وربما يتجاوز الأمر ذلك.

حتى بيرستين أدركت ذلك، ولهذا حاز فيلم بريسون على جائزة لجنة التحكيم الكبرى (بينما ذهب الدب الذهبي لفيلم روسي ممتاز، عن استحقاق). وبعد انتهاء الأمر كله، وفي كل مرة أقابل فيها فاسبندر يلقي علي تحية تشبه التحية البروسية.

كان شخصا غريبا، مثلي الميول ذا نزعة تدمير ذاتي، وكان يروق له ارتداء البنطال القصير الضيق، بشكل يبدو مزعجاً، والغرض تركيز الاهتمام على مؤهلاته الخاصة!

كان مشهوراً بكل تأكيد بفتوحاته الكثيرة دون أي مساعدة في هذا الأمر.

ولكن يا له من مخرج سينمائي. قم بإلقاء نظرة الآن على أفلامه وستدرك ما الذي فقدناه إثر رحيله المفجع المبكر عنّا. لقد كان محقاً بكل تأكيد بشأن فيلم بريسون حتى ولو لم يكن من أفضل أفلامه.

20 يناير 2014

ديريك مالكولم في شبابه
Visited 128 times, 1 visit(s) today