“دولميت هو اسمي” تمرُّد بطعم الضحك

Print Friendly, PDF & Email

إنَّه فيلم جدِّيٌّ يروي قصة فيلم هزليّ.. إنَّه ممثلٌ بارع يقوم بدور ممثل فاشل.. إنَّها حكاية نجاح ناجحة تروي حكاية نجاح تافهة. في هذا الفيلم براعة في تمثيل الفشل، ودقة في محاكاة الابتذال، ودراما بأدوات سريعة وجادة، وكثير من الكوميديا الفعَّالة. فيلمنا هو “دولميت هو اسمي” Dolemite Is My Name.

الفيلم إنتاج عام 2019. للمخرج كريج بروير، والمؤلفيْنِ سكوت أليكسندر، ولاري كاراسزيكي. وبطولة الممثلين ايدي ميرفي، ميكي ابس، كريج روبنسون، دافين جوي راندولف، وآخرين غيرهم ينتمي لنوع السير الذاتيَّة، مع الدراما والكوميديا. من إنتاجنتفليكس  حقق نجاحًا ملحوظًا حتى يومنا هذا، ومازال يسابق أقرانه في شباك التذاكر. مع حصوله على تقييمات نقديَّة متقدمة جدًّا.

الفيلم يروي قصة نجاح مُمثل أسود البشرة هو “روبي راي موور” في بداية السبعينيَّات في الولايات المتحدة، حيث يُقابَل بكلّ الفشل من كافَّة الجهات التي تقدَّم لها؛ ليعرض عليها ما يسمِّيه “فنًّا” من أغانٍ وعروض هزليَّة.

وهو يعتقد في نفسه أنَّه قادر على تقديم الفنّ -حسب مفهومه-. وهو كذا يتهم جميع مَن استطاعوا تحقيق نجاح من ذوي البشرة السوداء مثله أنَّهم لا يستحقون ما حققوه من نجاحات، حتى إنْ استحقوا فهو يستحق المِثل على الأقل. لقد أراد بطلنا أنْ يقدم فنًّا مُغايرًا، فنًّا نابعًا من بشرته، أو فلنقُلْ فنًّا مضادًّا لفنّ ذوي البشرة البيضاء. وها هو بطلنا يصيب بعض النجاح في تجربته؛ معتمدًا على خلفيَّة الثقافة الإفريقيَّة، ويسجِّل عروضه الهزليَّة على أسطوانات، ثم يلتمع حلم حياته الأكبر في ذهنه حينما يدخل فيلمًا شهيرًا ولا يضحك، بل يجده سخيفًا مُملاً. فيقرر أنه يستطيع صُنع فيلم سينمائيّ كامل من بطولته، مليئًا بما يراه فنًّا يريده الجمهور. ويسيطر هذا الحلم على حياته كلها، ويدخله في أزمات عديدة؛ فهل سينجو منها؟

وفنّ العروض الهزليَّة، الذي أراد بطلنا أن يقدِّمه – والذي سيستمع إليه المتفرِّج في مشاهد طويلة من الفيلم- قوامه هو الإضحاك في هزل وابتذال، واستخدام التلاعبات الكلاميَّة؛ أو ما يُسمَّى في البلاغة العربيَّة بـ”التورِيَة”: وهو إطلاق كلمة ذات معنيَيْن؛ معنى قريب لا يقصده القائل، ومعنى بعيد هو المقصود. ويؤدي لك مُستخدمًا أسلوب “السجع”: وهو اتفاق أواخر الجُمَل في الحرف الأخير، أو المَقطَع الأخير منها؛ مما يصنع موسيقى في الكلام. وبالعموم هذه الأسس كانت -وظلَّتْ- شائعة بشدة في كل الفنون الشعبيَّة في الثقافات المُتعددة، كما أصبحت أيضًا أساسًا لفنّ “الرَّاب” الذي فيه يؤدي المُؤدِّي جُملاً في أداء سريع للغاية، مُستخدمًا السجع، مُحاولاً إحداث توازن بين الجُمَل حتى يتوهَّم السامع تأثير “الشِّعر” -أيْ الوزن والقافية-.

هذا “الفنّ” الغريب الذي يُطالعك في الفيلم؛ هو صيحة لإعلان التمرُّد، للصراخ بأنّ ذوي البشرة السوداء موجودون على قيد الحياة، وها هم ينتجون فنًّا يسخر من تأدُّب الرجل الأبيض الزائف، الذي لا يرونه إلا في الدعايات وفي الأفلام.

ورغم كون الفيلم سيرة ذاتيَّة من ثيمات قصص النجاح إلا أنّ المُؤلِّفيْن لمْ يلجآ إلى هذه الأساليب الرخيصة والمكررة في استجلاب تعاطف لشخصيَّة البطل. بل نراهما قد فعلا ضدّ هذا!! فقد اعتمد النص على:

1-  الدخول السريع والمباشر إلى قلب الحدث، دون إطالة أو حشو. لنرى في موقفيْن أو ثلاثة كل ظروف البطل، وكذلك إلقاء الضوء على مشكلات السود.

2-  لمْ يلجأ إلى تبرير نوعيَّة “الفن” المُقدَّم بالأسلوب الخطابيّ، بل من خلال بعض الحوارات الدائرة بين البطل ومؤلف الفيلم، وبينه وبين شركات الإنتاج. ثم ترك المتفرج يرى هو ويحلل.

3-  استطاع أن يحافظ على دراميَّة الفيلم، ولمْ يُذِبْ هذه الدراميَّة في بحار الكوميديا أو الابتذال الفنيّ الذي تمّ تقديمه في القصة الحقيقيَّة للرجل “روبي موور”. وهذه أصعب العناصر في صناعة الفيلم. وهي التي أحدثت التقدير والتعاطف من جانب الجمهور، رغم هذا الكمّ من الابتذال الظاهر على الشاشة.

4-  استخدام ذكيّ وسريع لبعض الجمل التي تظهر القيمة الحقيقيَّة التي أراد صُنَّاع العمل أن يقدموها بتقديمهم هذه السيرة الذاتيَّة.

وجاء الإخراج عنصرًا داعمًا لنجاح الفيلم. من أوَّل اختيار طاقم العمل، إلى النقل المناسب والمُعبِّر لظروف عصر السبعينيَّات في “الولايات المتحدة الأمريكيَّة”، إلى الحفاظ على قدر من الكوميديا الذكيَّة، والحفاظ على الإيقاع السريع في كل فصول الفيلم؛ مما ساهم كثيرًا في التفاعل معه، ومما ناسَبَ محتوى القصة المُقدَّمة.

ولا شكَّ أن هذه العناصر كلها ما كان لها أن تتحقق بغير واحد من أهم أعمدة الفيلم؛ هو الممثل البارع ايدي ميرفي الذي عرفه الملايين من الغرب والشرق، واستطاع أن يضحكهم بقدرته الفطريَّة على الإضحاك. وفي هذا الفيلم استطاع أن يجعلهم يعتبرون الشخصيَّة التي يمثلها دون أنْ يسلك الطرق الرخيصة التي قد يلجأ إليها غالب الممثلين في هذه النوعيَّة من الأفلام. ولولا الحيويَّة الشديدة التي يتمتع بها “ميرفي” ما كان للفيلم أن يكتسب نصف ما اكتسبه من تقييم جماهيريّ ونقديّ. وأنَّك ستعجب عندما تعلم أن الممثل الذي يؤدي كل هذه الأداءات الجسديَّة والنفسيَّة قد شارف على الستين من عُمره. وهنا يبرز اجتهاد الممثل وجديَّته في اتخاذ عمله، واحترامه لمتطلبات هذا العمل.

وستخرج من هذا الفيلم دون أن تفارقك قولة ايدي ميرفي الأخيرة: “اجعلوا القمر هدفكم؛ فإنْ لمْ تصلوا إليه فتشبَّثوا بالنجوم”.

Visited 67 times, 1 visit(s) today