في الحنين إلى “سائق التاكسي” وروبرت دي نيرو

Print Friendly, PDF & Email

لا يمكنك أبداً أن تشيح أبصارك عن روبرت دي نيرو خصوصاً، وهو في دور “سائق التاكسي” المتوحد المنفصل عن الواقع، الذي يحلم بمحاربة الشر، ويصمم على تحقيق ما يحلم به. إنه الجندي السابق في فيتنام، الذي يعيش في نيويورك في منتصف السبعينات، ويتحدث إلى نفسه، ويكتب يومياته ورسائله الى والديه باستمرار.

ويظل دي نيرو الشاب، هو سر نجاح فيلم “سائق التاكسي” (1976) Taxi Driver وحتى بعد أكثر من أربعة عقود، لا يمكنك أن تشيح بصرك عن دي نيرو، خصوصا عندما يكون بمفرده على الشاشة، يخطط، يتدرب على الأسلحة، ويتحدث إلى المرآة أو الى العدسة. حضوره المدهش والمقنع، يجعلك تنسى أنك تشاهد فيلما، او أن هذا تمثيل، بل تصبح جزءا من الأحداث، شاهدا على حياة مدينة كبيرة، يعيث فيها الفساد، السياسي والاجتماعي، في أعقاب حرب فيتنام خلال حكومة الرئيس نيكسون، الذي يستقيل من منصبه بعد فضيحة مدوية غير مسبوقة.

يشعّ حضور دي نيرو الآسر على باقي أقرانه عندما يكون معهم في المشهد. ويرتقي أداؤهم إلى حد كبير معه، فيتحولون إلى شخصيات حقيقية، قد تحبها وتتعاطف معها، مثل الرائعة المراهقة الصغيرة، التي تلعب دورها جودي فوستر ببراعة، كعاهرة قاصر هاربة من أهلها. أو قد يتحولون إلى شخصيات تكرهها وتتمنى لها الموت، مثل الممثل الكبير هارفي كايتل في دور القواد الشرير، المجرم الرئيسي في الفيلم، الذي يخدع فوستر بكلماته المعسولة وحبه الزائف، كي يواصل استغلالها جنسيا وماديا. وبالطبع فان روبرت دي نيرو وجودي فوستر أصبحا أيقونتين سينمائيتين بعد هذا الفيلم، ولا يزالان. وكلما شاهدنا الفيلم، نراهما يخرجان من الشاشة إلى الواقع.

 سكورسيزي يجلس في التاكسي في دور رجل مضطرب

يقف خلف هذا الفيلم الخالد، مخرج الروائع مارتن سكورسيزي الذي يرسم الأحداث بطريقة تدريجية، توصلنا الى النهاية العنيفة المحتومة، لنكتشف أن سائق التاكسي ليس إنسانا مهووسا يعاني من خيالات مرضية، بل إنسان يعيش داخل هذه الهلوسات، ويخطط بهدوء لنقل هذه الخيالات إلى الواقع، ليخلطهما مع بعض، لنتوهم أحيانا ان هذه النهاية العنيفة، ربما هي من أوهام البطل أو مجرد كوابيس، لم تحدث واقعيا كما إقترح بعض النقّاد. لكن كاتب النص، پول شريدر، لا يكتفي بالتأكيد على أن جميع الأحداث ليست أحلاما او خيالات بما فيها النهاية الدموية العنيفة جدا، بل يقول إن هذه النهاية تلتصق بالبداية، وكأننا في دورة او حلقة، وأن “سائق التاكسي” لا يزال يجول المدينة فعليا، باحثا عن الأشرار كي يصفي حسابه معهم، وينقذ الضحايا الأبرياء، وكأنه بطل جبار أو سوبرمان، لكن من لحم ودم، يعاني ويشعر ويتألم ويفرح مثلنا.

هذا البطل، الذي يريد تحقيق العدالة بيديه، بعيدا عن السلطات والشرطة، ينبثق من الإحباط الذي يشعر به سكان المدن الكبرى، تجاه السلطات السياسية والأمنية. إنه إحباط يدفع الناس إلى تجاوز القانون أحيانا، والتمرد على السلطات، التي قد تحمي الأشرار أحيانا، أو وربما دائما، وقد توفر لهم المناخ الملائم للقيام بجميع موبقاتهم.

كل هذا ينقله لنا سكورسيزي وشريدر، عن طريق دي نيرو وفوستر وكايتل وآخرين، في واحد من أهم الأفلام التي أنتجتها هوليوود. انه بمثابة درس للفنانين والمشاهدين والنقّاد. لكن سكورسيزي يندمج في عمله، الى حد أنه يأخذ دورا قصيرا متميزا لراكب تاكسي مختل نفسيا، يركب مع دي نيرو في التاكسي. ربما كي يذكرنا ان ما نراه هو فيلم، وعلينا أن ننتبه ولا ننغمس كليا، اذ يحاول أن يعمل كسرا للتغريب الذي تمارسه السينما علينا، فتبعدنا عن واقعنا الحقيقي.

Visited 71 times, 1 visit(s) today