“الحرامى والعبيط”.. البصمة الهندية فى الفيلم المصرى!

Print Friendly, PDF & Email

تبدو مشكلة الفيلم المصرى “الحرامى والعبيط” للمخرج محمد مصطفى عجيبة بعض الشئ، فقد تعودنا من مؤلف الفيلم أحمد عبد الله مسحة من ميلودراما خفيفة تظلّل أفلامه الأفضل، من “كباريه” و”الفرح” الى “ساعة ونص”، ولكن دون أن تفسد البناء المتماسك، ودون تقذف بنا الى محيط من المبالغات والقفزات المزعجة، ولكنه فى الحرامى والعبيط، يقترب كثيراً من التوليفة الهندية، رغم أنه ينحت شخصيتين من قلب الواقع المصرى الذى يغوص فى الفوضى.

لم نتعود هذا الإغراق ولا الإرتباك ولا تلك الرغبة القسرية فى إغلاق الأقواس وكأن من المحتم وضع نقطة فى آخر السطر المضطرب أصلاً، والعجيب أن مخرج الفيلم محمد مصطفى لم يضع هذه النقطة أبداً فى فيلميه السابقين “أوقات فراغ” و”الماجيك”، لم يكتف أحمد عبد الله بالتقاط شخصيتين تعيشان حياة هامشية، ولكنه قررأن يضاعف الجرعة لتأكيد المعنى الواضح  تماماً، فانهارت التوليفة خصوصاً فى الثلث الأخير من الفيلم.

فى مناطق كثيرة، ظهر أبطال الفيلم خالد الصاوى وخالد صالح أقوى بكثير من الدراما المتلعثمة، كانت قوة أداء الممثلين تحاول التغطية دون جدوى عن الثغرات التى تراكمت، وانتهت بنا الى نهاية هندية، ولكن الصاوى وصالح اجتهدا الى درجة لافتة، على الأقل، فقد جعلونا نكمل العمل حتى نهايته، رغم تسرب الحماس والتركيز مع مرور الوقت.

 شخصيات محدودة

ليست مشكلة أحمد عبد الله هنا فى شخصيات “الحرامى والعبيط” المحدودة، بعد أن عمل فى أفلامه الثلاثة “كباريه” و”الفرح” و”ساعة ونص” على عدد كبير من الشخوص، لدرجة أصبح من الصعب أن تحدد بطل هذه الأفلام الأول، أو أصحاب الأدوار الثانوية، ولكن مشكلة الفيلم الجديد، أن هذه الشخصيات المحدودة لم تتكامل لتصنع بناء مقنعاً، ربما كان يمكن الإكتفاء فى هذه الحالة برسم ملامح العلاقات بين الشخصيات، تجسيد البروتريهات بنهايات مفتوحة، ولكن البصمة الهندية انطلقت من عقالها، فدخلنا الى دائرة الغرائب والعجائب.

المكان حارة مصرية من تلك التى يعرف عبد الله شخوصها بحق، والمعنى الأهم فى “الحرامى والعبيط” هو أن الفقراء المسحوقين فقراً وجهلاً واحتياجاً، يتجهون فى النهاية الى افتراس بعضهم بعضاً، ستجد هذا المعنى فى خط أو اثنين من خطوط الأفلام السابقة المشار إليها، ولكنه هنا هو الفيلم كله، والأحداث أبطالها ثلاثة فقط ندور معهم وبهم.

روبي

صلاح روسّى (خالد الصاوى) فتوة الحارة، بلطجى بلا مهنة، شرس ولكنه ظريف، وفتحى (خالد صالح) عبيط الحارة، ينام فى الشارع، ويأكل من القمامة، لايفهم أحد  شيئاً مما يقول، يخاصم الماء والإستحمام، تنتشر هذه الشخصيات ذوات الهيئات المخيفة فى شوارع القاهرة، ولكنها، فيما أتذكر، المرة الأولى الى يتم تقديمها  سينمائياً بكل هذه التفاصيل.

أما الشخصية الثالثة فهى ناهد (روبى) خطيبة البلطجى روسّى، ممرضة فقيرة، كل طموحها أن تتزوج، تجمع كل ما تحصل عليه من نقود من أجل تجهيز مستلزمات يوم الزفاف، نموذج آخر نراه فى كل مكان.

حول هذه الشخصيات المحورية، شخصيات أخرى قليلة مثل والد صلاح روسّى السكير الذى يعطف على فتحى، يجعله ينام فى مدخل المنزل، مقابل أن يجمع القمامة، وأم صلاح روسّى (عايدة عبد العزيز)، التى يختلف موقفها من فتحى نفوراً وتعاطفاً، والبلطجى الناشئ حمدى الذى يضرب روسّى برصاص الخرطوش فى عينه، مما يجعله بحاجة الى عملية نقل للقرنية، يجريها لها الطبيب/ التاجر (مجدى بدر).

رغم أن الشخصيات ثرية بالفعل، إلا أن الأحداث مغلقة، وقد أثّر ذلك بوضوح على مسار الفيلم، فالبلطجى الظريف روسّى يقرر بعد إصابته فى عينه، أن يستغل فتحى من أجل الحصول على القرنية المطلوبة، شراء قرنية من بنك الأعضاء يتطلب 20 ألف جنيه، والقانون يمنع تبرع الأحياء بالقرنية حتى لا تكون هناك تجارة بالأعضاء، ولا حل سوى استلاب العبيط فتحى.

فى تلك اللحظة التى يتم تطوير المعالجة نصطدم بمشكلات واضحة وخطيرة، روسّى بلطجى بالفعل، ولكنه ليس بتلك الوحشية الهندية التى تجعله يسلب عين شخص يتقزز منه، فى أحد المشاهد الأولى نرى صلاح روسّى وهو يقول إنه حامى السمك الصغير فى الحارة الهامشية، بل ونشاهده وهو يحتضن حمدى البلطجى الناشئ بعد أن أصابه فى رأسه، الشخصية فى الحقيقة أقرب ما تكون الى نموذج توشكى الذى لعبه عمرو عبد الجليل فى فيلم “كلّمنى شكراً”.

يزيد المشكلة لجوء السيناريو الى كسر الإيهام، بلا مبررواضح، من خلال حديث روسّى المباشر الى المتفرج وهو يقوده مثل مرشد سياحى، ليعرّفنا على الحارة وشخصياتها، ربما كان الهدف أن تكون المعالجة كوميدية شعبية وحميمة وليست ميلودرامية كئيبة، ولكن ذلك لم يستمر، بعد أن ظهرت البصمة الهندية.

العبيط العجيب

من ناحية أخرى، فقد ظهرت شخصية فتحى بصورة عجيبة ومضطربة، معظم الشخصيات الهائمة فى الشارع المصرى تعانى فى حقيقتها من خلل نفسى أو عقلى، معظمهم مصابون بالإكتئاب أو الفصام مثلا، ولكن أحمد عبد الله يصرّ على أن بطله عبيط، مع أنه يقدم من خلال مشاهد العودة الى الماضى على مدار الفيلم، ملامح أزمة نفسية حادة، قادمة مباشرة من فيلم هندى: فتحى (الذى لا نعرف له عملاً) ضبط زوجته فى أحضان عشيقها، ضربها وشهّر بها وطردها، منع ابنته الطفلة سلمى من التعلق بامها، قام أهل الزوجة بضربه وإلباسه ملابس النساء، فأصبح عبيطاً هائماً فى الشوارع!!

البصمة الهندية تُعنى بالنتائج، ولا تدرس الأسباب، هناك خلل واضح فى رسم شخصية فتحى رغم براعة خالد صالح المشهودة فى تجسيدهأ بمساعدة ماكياج متقن، فقد افترض عبد الله أنه عبيط بسبب صدمة الفيلم الهندى الذى عاشه، مع أنه أقرب الى الإضطراب النفسى، والفارق هائل بين الأبله الذى لا يعى شيئاً، والمضطرب نفسياً الذى يدرك تماماً معنى أن يقطعوا أجزاء من جسده، ولكن الفبركة الهندية لا تعنيها هذه الفروق، المهم هو تراكم الأعاجيب والغرائب، وفتح صندوق المأساة بكل محتوياته.

خالد صالح

يستمر هذا المنهج التبسيطى الساذج مع شخصية الطبيب الجرّاح الذى لا يوافق فقط بسهولة على إجراء عملية القرنيّة، ولكنه يقترح ايضاً أن يحصل من فتحى على إحدى الكليتين، ويدفع للبلطجى روسىّ مبلغ عشرة آلاف جنيه، مع إجراء عملية القرنية مجاناً، يتحول فتحى بذلك على حد تعبير روسّى الى سوبر ماركت يأخذ الطبيب ما شاء من أعضائه، والحساب عند صلاح روسّى.

لاحظ أن هدف روسّى كان فى البداية مجرد تعويض عينه المصابه، ولكنه يتحوّل جذرياً، بموافقة ناهد الممرضة، وبتشجيع أمه، الى التجارة فى أعضاء العبيط الذى لايمكن أن يكون عبيطاً كما أوضحنا، ورغم انتزاع قرنية وإحدى كليتى فتحى، ورغم حصول روسّى على أموال تجعله يحقق طلب خال ناهد (سيد رجب) بسرعة إتمام الزواج، إلا أن الفيلم لا ينتهى، فما زالت الجرعة أقل من جرعة الفيلم الهندى التقليدى.

يحتاج الأمر الى شخصية جديدة، مقاول وتاجر أعضاء (ضيائى الميرغنى)، ويحتاج الى إنفاق روسّى المال على الخمر والمخدرات، ويتطلب الإغراق فى التلفيق إكتشاف روسّى لخيانة ناهد له مع الطبيب الأقرب الى رجال العصابات، وطبعا لن يسكت الطبيب على دخول المقاول مزاد سرقة أعضاء فتحى البائس، سيكون هناك بلطجية، وسيتم تخدير ناهد لبيع أعضائها للمقاول بدلا من فتحى .. مجرد انتقام شعبى لامؤاخذة!

فى المشهد الأخير، يلتئم شمل مفردات أفلام الدرجة الثالثة الهندية: فى مكان مفتوح تتصدر الكادر شجرة بلا أوراق (لاحظ دلالة الرمز)، يترنح روسّى من الخمر، متحدثاً عن انتقامه من ناهد الخائنة، يخرج فجأة مسدساً، يلقى به على الأرض، يمسك العبيط بالمسدس، تنطق رصاصة الرحمة العشوائية لتقتل روسّى والفيلم معاً، ولا ينسى فتحى أن يحدثنا مباشرة بحكمة أخيرة هى أن نكون فى منتهى الحرص مع العبيط، ويبدوأن اللعب مع البلهاء لا يختلف كثيراً من اللعب مع الكبار.

لا ينقص هذا المشهد لكى يكون هندياً سوى الصرخات المعتادة مصحوبة بموسيقى عالية وأصوات حادة رفيعة، ولكن فيلمنا اكتفى بصرخات فتحى العبيط على صديقه الذى باعه للأطباء، لابد أن يأكل الفقراء بعضهم بالمعنى الحرفى لكى يطمئن أحمد عبد الله أن المعنى قد وصل، لم يأخذ باله أبداً أن أفضل لحظات الفيلم وأقواها تأثيراً لم تكن فى تلك الحبكات الهندية الجانبية، ولكن فى اللمسات الإنسانية المحدودة: تلك العروسة التى يحملها فتحى لتذكره بابنته، علاقة الأم بالعبيط فى منزلها، رعشة أيدى ناهد وهى تتحدث بانفعال عن كفاحها من أجل شراء مستلزمات فرحها التى وضعتها فى صندوق حقير داخل حجرة أقرب الى القبر، رنّة عتاب فى صوت حمدى البلطجى الناشئ لأن ابن الحارة روسّى ضربه فى رأسه بالمطواة .. إلخ

كان يكفى ان نكون أمام علاقة بين بلطجى يريد أن يعيش مع أبله يعانى قصوراً عقلياً ولا يستطيع أن يحيا دون الإعتماد على غيره، ولكن اللمسة الهندية جعلت من  البلطجى لصاً للأعضاء، وحوّلت شخصية مأزومة نفسياً الى أبله، دون أدنى إدراك لتلك الفوارق، ولذلك حصدنا نهاية عبثية لمقدمات مضطربة وغير محكمة، رغم قوة الأصل الواقعى للشخصيتين اللتين يمكن أن ترى تنويعات مختلفة منهما فى الشوارع والميادين.

كنت حزيناً لأن أحمد عبد الله أضاع هذه المرة العجينة التى كان يمكن أن تصنع دراما إنسانية هائلة، فاختار أن يجعل منها كتلة بلا ملامح أو هدف، ربما خاف من قتامة الفكرة، فحاول تخفيفها بتصرفات مضحكة من صلاح روسّى أو فتحى، ولكن ذلك لم يمنع من التناول الغليظ المزعج، كنت حزيناً أكثر لأن هناك جهداً عظيماً بذله الموهوبان خالد الصاوى وخالد صالح لإنقاذ شخصيات افتقدت  عناصر كثيرة على الورق، امتلك الإثنان حضوراً مدهشاً، وقدما مشاهد مشتركة مميزة، ولكن ذلك لم يستطع إنقاذ الدراما، لابد من الإشادة بأداء روبى رغم أن صوتها يخونها كثيراً عندما تنفعل، تحتاج الى بعض التدريب، ومع ذلك، فدور ناهد من أفضل أدوارها حتى الآن مع دوريها فى فيلمى الشوق والوعد.

يمتلك الفيلم أيضاً اجتهاداً تقنياً لافتاً من مخرجه محمد مصطفى الذى يحاول أن يقدم نصوصاً مختلفة أقرب الى المدرسة الواقعية، ومن مدير التصوير سامح  سليم الذى رسم بالضوء وبالظلال وباللونين الأزرق والأسود معالم حياة خانقة فى أماكن معدودة ومحدودة، ومن مصممة الملابس مونياً، ومؤلف الموسيقى عمرو اسماعيل، ومصمم الديكور حمدى عبد الرحمن الذى نقل تفصيلات واقعية لمفردات المنازل الفقيرة، ورغم كل ذلك، فقد أفسدت الجرعة الزائدة النوايا الحسنة، والإجتهاد الواضح.

“الحرامى والعبيط” يتحدث عن المهمشين والمعذبين فى الأرض، مشكلته أنه سرق عالم الفيلم الهندى، وافترض أحياناً بلاهة المتفرج وليس بلاهة إحدى شخصياته فقط ، فجاءت المعالجة غليظة ومزعجة ومفتعلة، رغم أهمية الفكرة، ورغم بذور الشخصيات الواقعية، الجديرة بفيلم أفضل بناءً، وأكثر إحكاماً

Visited 85 times, 1 visit(s) today