الفيلم الفرنسي “سانت أومير”.. إرث الطفولة

Print Friendly, PDF & Email

عبد الواحد عبد الله

سانت أومير” هو أول فيلم روائي طويل للمخرجة الفرنسية (من أصول سنغالية) أليس ديوب، وهي أيضا كاتب السيناريو، والفيلم فاز بجائزة الدب الفضي -جائزة لجنة كبار الحكام في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي ٢٠٢٢ .

 اقتبست ديوب السيناريو عن قصة حقيقية لمحاكمة شابة سنغالية تقيم في فرنسا عام ٢٠١٦، بتهمة قتل طفلتها البالغة من العمر سنة وثلاثة أشهر، بعد أن تركتها علي شاطئ في شمال فرنسا في ليلة كانت قوة المد شديدة حتي جرفها التيار مع الرمال، وهي جريمة مناقضة لفطرة الأمومة والعلاقة الخاصة بين الأم وابنتها .

أليس ديوب تابعت المحاكمة ومزجت بين الخيال الروائي وبين ما حدث خلالها مع إضافة شخصية راما (الممثلة كاييجي كاجامي) وهي روائية وصحفية حضرت المحاكمة لكي تستلهم منها أحداث الجريمة وخلفياتها والمحاكمة في سرد روايتها القادمة.

راما لها نفس ظروف المتهمة من حيث الأصل العرقي والنشأة حيث كانت علاقتها متوترة مع أمها دائما، ولم تشعر معها بالدفء والحنان والاهتمام، كما أنها أيضا حامل، ومتزوجة من فرنسي أبيض يعمل في مجال تأليف الموسيقى، وهي تخاف أن تلقى مصير المتهمة أو أن تتكرر مأساة علاقتها بأمها مرة أخري .

France – 2h02 – 23/11/22 – 2022 – Réalisatrice : Alice Diop – Scénaristes : Alice Diop, Amrita David et Marie NDiaye – LEGENDE PHOTO : Valérie Dreville –

الفيلم يجري في معظمه داخل المحكمة، وسانت أومير هو اسم البلدية التي تقع المحكمة في نطاقها في شمال فرنسا، ومن خلال المحاكمة والأسئلة التي توجه للمتهمة من رئيسة المحكمة والادعاء وهيئة المحلفين وتداخل المحامية المنوط بها الدفاع عنها يرفع الغطاء بشكل كامل عن القضية وخلفياتها وماضي المتهمة العائلي .

المتهمة، لورانس كوليه (الممثلة  كوسلاجي ماليندا) شابة ولدت في السنغال لعائلة من الطبقة الوسطي، الأب مترجم في الأمم المتحدة والأم لا تعمل، وكان جل اهتمامهما هو تعليمها تعليما جيدا وهي تتكلم الفرنسية فقط ولا تتحدث باللغة المحلية. وبعد فترة قصيرة من ولادتها وقع الطلاق بين الوالدين، وأصبحت الطفلة وحيدة مع جدتها التي ترعاها بينما الأم دائما غائبة ومتعبة ولا يوجد تلاق فيما بينهما ولا اهتمامات مشتركة، والأب تراه مرة في الشهر وليس لديها أصدقاء.

سافرت كولين إلى فرنسا في عمر الثامنة عشرة عام لتدرس القانون بالجامعة كما أراد الأب لها، ولكنها لم تستكمل دراستها، واختارت دراسة الفلسفة ولكن الأب حزن جدا وقرر عدم إرسال مال لها مرة أخري، وهنا تأزمت الحياة معها، وأصبحت تعيش مع خالتها فترة ثم تتركها بسبب توتر العلاقة بينهما وتعمل جليسة أطفال، وأيضا ساءت علاقتها مع أمً أحد الأطفال، ثم تعرفت علي فرنسي في السابعة والخمسين من عمره، وأحبته وارتبطت به وألحقها بالجامعة مرة آخري، ولكنه لم يقدمها للمجتمع ولأسرته وابنته كما قالت في المحاكمة.

وقد حملت منه رغم عدم وجود رغبة لديها في الحمل كما أنه لم يهتم بحملها ولم يتابعها خلاله ولم يحضر ولادة الطفلة ولم يسجل الطفلة في سجلات المواليد، كل هذه الأحداث جعلتها تعيش في عزلة عن العالم، أو بمعني أصح دخلت في اكتئاب ما بعد الولادة وأيضا أصبحت تتعرض لهلاوس مرضية وتعتقد أن خالتها في فرنسا هي من لعنتها وصنعت السحر لها .

عندما تسألها القاضية في المحكمة لماذا قتلتِ ابنتك؟ تجيب: “لا أعلم. وأتمني أن  تجيب إجراءات المحاكمة علي هذا السؤال “.

لورانس كوليه تكذب كثيرا أثناء المحاكمة ولا تتذكر أشياء حدثت وهناك تضارب في أقوالها بين ما ذكرته في تحقيقات الشرطة وتحقيقات النيابة وما تقوله أمام المحكمة.

الفيلم يسير في مسارين متوازيين، المحاكمة، وانعكاس إجابات لورانس علي الروائية راما داخل المحكمة حيث ملامح الخوف تعتريها دائما، أو عندما تخلد لنفسها داخل غرفتها فتبكي وتتحسس بطنها وحملها والخوف من المصير المشابه، واحتمال أن تشعر أن بعبء المولود القادم عليها ولا تستطيع أن تمنحه الحب والحنان المفترض بسبب تشابه ظروف الطفولة المتوترة من أمً كانت دائما حزينة، وكذلك فترات تعنيفها لها .

الفيلم يناقش أيضا موضوع المهاجرين الأفارقة وصعوبات الاندماج والمشاكل التي تقابلهم في مسيرتهم، خاصة المشاكل المادية التي من الممكن أن تدفعهم لارتكاب أخطاء تكلفهم الكثير .

يطرح الفيلم قضية مهمة وهي أن العلاقة السوية بين الأبناء والوالدين منذ البداية، خاصة من أول ثلاث سنوات في عمر الطفل، فيما يتعلق بالحب والحنان والاهتمام، يؤثر عليه كثيرا في خلق إنسان متزن نفسيا وعاطفيا.

الفيلم مكتوب بلغة رائعة، والحوار داخل المحكمة يشعرك بأنك أمام قضاة وادعاء ومحامين محترفين، وتنظيم الجلسة ودور كل شخص في المحكمة مرسوم بدقة سواء من نمط أسئلة التحقيقات أو تعبيرات وجه رئيس المحكمة المحايد في طرح الأسئلة رغم لمسة تعاطف في عينيها أو الادعاء ولغة مختلفة ووجه أكثر جدية وصرامة في طرح الأسئلة.

جاءت نهاية المحاكمة من المحامية التي ألقت كلمة طويلة وقالت إنها تعلم أن موكلتها مذنبة ولكن لنبحث عن الأسباب حتي لا يكون اهتمامنا منصبا علي إقامة حكم قانوني وليس تحقيق العدل، وأن المتهمة هي ضحية مرض عقلي يجب أن نبحث عن أسبابه، وهي تحتاج للعلاج أولا، وهي في النهاية أم وابنتها ستعيش داخلها دائما .

كان أداء الممثلة جوسلاجي ماليندا في دور المتهمة بالقتل، موفقا، وجه جامد يعبر عن تعقيدات تركيبتها النفسية المريضة، ولا تتغير تعبيرات الوجه إلا في نهاية المحاكمة عندما تبكي بحرقة عندما تستمع للمحامية وهي تتحدث عن مأساتها النفسية والعقلية وأنها تحتاج للعلاج .

أم لورانس كوليه في مشهد معبر عن انفصالها عن واقع الجريمة وهي تتحدث مع راما، تذكر كيف أن الصحافة الفرنسية تتحدث عن فصاحة ابنتها ولغتها الفرنسية الرفيعة، ولا تفكر في أزمتها وأن لها دورا فيما آلت أليه من مأساة إنسانية، وكانت إجاباتها حادة، وعبرت بوجه مكتئب وبائس ببراعة.

الروائية راما البطلة المقابلة لها، كان أداءها التمثيلي نمطيا ثابتا طوال الفيلم بالتعبير عن الخوف وشرود الذهن من خلال ملامح الوجه والعينين ودائما بتقنية الفلاش باك تتذكر مواقف الأم معها ومعاملتها العنيفةً لها .

هذا فيلم دراما اجتماعية وإنسانية يجذبك من بدايته حتي نهايته من خلال سيناريو محكم وحوار بليغ لمدة ساعتين، مع انتقال سلس بين المتهمة ورئيس المحكمة والادعاء والشهود والمحامية .

عم الفيلم الفرنسي “سانت أومير(“: إرث الطفولة وأثره على الأمومة

“سانت أومير” هو أول فيلم روائي طويل للمخرجة الفرنسية (من أصول سنغالية) أليس ديوب، وهي أيضا كاتبة السيناريو، والفيلم فاز بجائزة الدب الفضي -جائزة لجنة كبار الحكام في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي ٢٠٢٢ .

 اقتبست ديوب السيناريو عن قصة حقيقية لمحاكمة شابة سنغالية تقيم في فرنسا عام ٢٠١٦، بتهمة قتل طفلتها البالغة من العمر سنة وثلاثة أشهر، بعد أن تركتها علي شاطئ في شمال فرنسا في ليلة كانت قوة المد شديدة حتي جرفها التيار مع الرمال، وهي جريمة مناقضة لفطرة الأمومة والعلاقة الخاصة بين الأم وابنتها .

أليس ديوب تابعت المحاكمة ومزجت بين الخيال الروائي وبين ما حدث خلالها مع إضافة شخصية راما (الممثلة كاييجي كاجامي) وهي روائية وصحفية حضرت المحاكمة لكي تستلهم منها أحداث الجريمة وخلفياتها والمحاكمة في سرد روايتها القادمة.

راما لها نفس ظروف المتهمة من حيث الأصل العرقي والنشأة حيث كانت علاقتها متوترة مع أمها دائما، ولم تشعر معها بالدفء والحنان والاهتمام، كما أنها أيضا حامل، ومتزوجة من فرنسي أبيض يعمل في مجال تأليف الموسيقى، وهي تخاف أن تلقى مصير المتهمة أو أن تتكرر مأساة علاقتها بأمها مرة أخري .

الفيلم يجري في معظمه داخل المحكمة، وسانت أومير هو اسم البلدية التي تقع المحكمة في نطاقها في شمال فرنسا، ومن خلال المحاكمة والأسئلة التي توجه للمتهمة من رئيسة المحكمة والادعاء وهيئة المحلفين وتداخل المحامية المنوط بها الدفاع عنها يرفع الغطاء بشكل كامل عن القضية وخلفياتها وماضي المتهمة العائلي .

المتهمة، لورانس كوليه (الممثلة  كوسلاجي ماليندا) شابة ولدت في السنغال لعائلة من الطبقة الوسطي، الأب مترجم في الأمم المتحدة والأم لا تعمل، وكان جل اهتمامهما هو تعليمها تعليما جيدا وهي تتكلم الفرنسية فقط ولا تتحدث باللغة المحلية. وبعد فترة قصيرة من ولادتها وقع الطلاق بين الوالدين، وأصبحت الطفلة وحيدة مع جدتها التي ترعاها بينما الأم دائما غائبة ومتعبة ولا يوجد تلاق فيما بينهما ولا اهتمامات مشتركة، والأب تراه مرة في الشهر وليس لديها أصدقاء.

سافرت كولين إلى فرنسا في عمر الثامنة عشرة عام لتدرس القانون بالجامعة كما أراد الأب لها، ولكنها لم تستكمل دراستها، واختارت دراسة الفلسفة ولكن الأب حزن جدا وقرر عدم إرسال مال لها مرة أخري، وهنا تأزمت الحياة معها، وأصبحت تعيش مع خالتها فترة ثم تتركها بسبب توتر العلاقة بينهما وتعمل جليسة أطفال، وأيضا ساءت علاقتها مع أمً أحد الأطفال، ثم تعرفت علي فرنسي في السابعة والخمسين من عمره، وأحبته وارتبطت به وألحقها بالجامعة مرة آخري، ولكنه لم يقدمها للمجتمع ولأسرته وابنته كما قالت في المحاكمة.

وقد حملت منه رغم عدم وجود رغبة لديها في الحمل كما أنه لم يهتم بحملها ولم يتابعها خلاله ولم يحضر ولادة الطفلة ولم يسجل الطفلة في سجلات المواليد، كل هذه الأحداث جعلتها تعيش في عزلة عن العالم، أو بمعني أصح دخلت في اكتئاب ما بعد الولادة وأيضا أصبحت تتعرض لهلاوس مرضية وتعتقد أن خالتها في فرنسا هي من لعنتها وصنعت السحر لها .

عندما تسألها القاضية في المحكمة لماذا قتلتِ ابنتك؟ تجيب: “لا أعلم. وأتمني أن  تجيب إجراءات المحاكمة علي هذا السؤال “.

لورانس كوليه تكذب كثيرا أثناء المحاكمة ولا تتذكر أشياء حدثت وهناك تضارب في أقوالها بين ما ذكرته في تحقيقات الشرطة وتحقيقات النيابة وما تقوله أمام المحكمة.

الفيلم يسير في مسارين متوازيين، المحاكمة، وانعكاس إجابات لورانس علي الروائية راما داخل المحكمة حيث ملامح الخوف تعتريها دائما، أو عندما تخلد لنفسها داخل غرفتها فتبكي وتتحسس بطنها وحملها والخوف من المصير المشابه، واحتمال أن تشعر أن بعبء المولود القادم عليها ولا تستطيع أن تمنحه الحب والحنان المفترض بسبب تشابه ظروف الطفولة المتوترة من أمً كانت دائما حزينة، وكذلك فترات تعنيفها لها .

الفيلم يناقش أيضا موضوع المهاجرين الأفارقة وصعوبات الاندماج والمشاكل التي تقابلهم في مسيرتهم، خاصة المشاكل المادية التي من الممكن أن تدفعهم لارتكاب أخطاء تكلفهم الكثير .

يطرح الفيلم قضية مهمة وهي أن العلاقة السوية بين الأبناء والوالدين منذ البداية، خاصة من أول ثلاث سنوات في عمر الطفل، فيما يتعلق بالحب والحنان والاهتمام، يؤثر عليه كثيرا في خلق إنسان متزن نفسيا وعاطفيا.

الفيلم مكتوب بلغة رائعة، والحوار داخل المحكمة يشعرك بأنك أمام قضاة وادعاء ومحامين محترفين، وتنظيم الجلسة ودور كل شخص في المحكمة مرسوم بدقة سواء من نمط أسئلة التحقيقات أو تعبيرات وجه رئيس المحكمة المحايد في طرح الأسئلة رغم لمسة تعاطف في عينيها أو الادعاء ولغة مختلفة ووجه أكثر جدية وصرامة في طرح الأسئلة.

جاءت نهاية المحاكمة من المحامية التي ألقت كلمة طويلة وقالت إنها تعلم أن موكلتها مذنبة ولكن لنبحث عن الأسباب حتي لا يكون اهتمامنا منصبا علي إقامة حكم قانوني وليس تحقيق العدل، وأن المتهمة هي ضحية مرض عقلي يجب أن نبحث عن أسبابه، وهي تحتاج للعلاج أولا، وهي في النهاية أم وابنتها ستعيش داخلها دائما .

كان أداء الممثلة جوسلاجي ماليندا في دور المتهمة بالقتل، موفقا، وجه جامد يعبر عن تعقيدات تركيبتها النفسية المريضة، ولا تتغير تعبيرات الوجه إلا في نهاية المحاكمة عندما تبكي بحرقة عندما تستمع للمحامية وهي تتحدث عن مأساتها النفسية والعقلية وأنها تحتاج للعلاج .

أم لورانس كوليه في مشهد معبر عن انفصالها عن واقع الجريمة وهي تتحدث مع راما، تذكر كيف أن الصحافة الفرنسية تتحدث عن فصاحة ابنتها ولغتها الفرنسية الرفيعة، ولا تفكر في أزمتها وأن لها دورا فيما آلت أليه من مأساة إنسانية، وكانت إجاباتها حادة، وعبرت بوجه مكتئب وبائس ببراعة.

الروائية راما البطلة المقابلة لها، كان أداءها التمثيلي نمطيا ثابتا طوال الفيلم بالتعبير عن الخوف وشرود الذهن من خلال ملامح الوجه والعينين ودائما بتقنية الفلاش باك تتذكر مواقف الأم معها ومعاملتها العنيفةً لها .

هذا فيلم دراما اجتماعية وإنسانية يجذبك من بدايته حتي نهايته من خلال سيناريو محكم وحوار بليغ لمدة ساعتين، مع انتقال سلس بين المتهمة ورئيس المحكمة والادعاء والشهود والمحامية .

Visited 1 times, 1 visit(s) today