“بينما تستمر الحرب” النخبة الثقافية والديكتاتورية الفاشية

Print Friendly, PDF & Email

تعد السينما الشيلية في الأعوام الأخيرة الأفضل على مستوى قارة أمريكا الجنوبية من حيث جودة الأفلام وأيضا من حيث موهبة المخرجون الذين أاطلقوا في هوليوود بعدها، ويأتي في مقدمتهم بابلو لارين صاحب الإسهام الأكبر كمنتج قبل أن يكون مخرجا، وهناك أيضا سبستيان ليليو صاحب الإنجاز الأخير الحاصل على الأوسكار بفيلم “امرأة رائعة” عام 2018، لكن يظل الأكثر موهبة وجودة على مستوى الاختيارات والتنفيذ المخرج أليخاندرو أمينبار.

 أهم ما يميز هذا المخرج اختياره الدقيق لنوعية شخصيات أبطال أفلامه وتقديم رسم شديد الحرفية لهم على غرار دور “جريس” الذي قدمته نيكول كيدمان في فيلم “الآخرون” الذي اعتبره أهم دور في مسيرتها، ودور “رومان سامبدرو” الذي قدمه خافيير بارديم في فيلم “داخل البحر” الذي حصد على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2005 ويعد من أهم أدوار بارديم في تاريخه، ودور “هيباتيا” الذي قدمته راشيل وايز في فيلم “أجورا” عام 2009، وفي أخر أفلام أليخاندرو أمينبار يختار شخصية تعد الأكثر جدلا في التاريخ الإسباني الحديث وهو الأديب والمفكر ميجيل دي أونامونو في فيلم يحمل اسم “While At War” وبالإسبانية  “Mientras Dure La Guerra”أو “بينما تستمر الحرب” .

تدور أحداث الفيلم في أهم فترات تاريخ إسبانيا عام 1936 بعد سقوط الجمهورية الاشتراكية الثانية بقيادة مانويل أثانيا واستبعاد رئيس الوزراء كاساريس نتيجة انقلاب عسكري لضباط الجيش المعروف تاريخيا تحت مسمى “انقلاب يوليو” ثم اندلاع الحرب الأهلية، وقبل وصول الجنرال فرانشيسكو فرانكو رسميا إلى الحكم وتربعه على السلطة في الفترة المعروفة بحكم الديكتاتور والتي استمرت ما يقرب من 36 عاما منذ 1939 حتى 1975، من خلال مواقف “ميجيل دي أونامونو” المثقف والمفكر وعميد جامعة سلامانكا التي تقع في شمال غرب إسبانيا، فالفيلم لا يمكن اعتباره يتناول تلك الفترة تاريخيا أو سياسيا أو عسكريا بشكل أساسي لكن محور الأحداث هي العلاقة بين النخبة الثقافية والدكتاتورية الفاشية، وكيف يمكن للمثقف أن يكون عاملا مؤثرا في ترسيخ الديكتاتور.

ميجيل المثقف العجوز والاشتراكي السابق الذي قدم في مقالاته انتقادات لاذعة لأربعة ملوك سابقين، تخلى عن الاشتراكية لأنها من وجهة نظره خرجت عن مسارها أثناء التطبيق ولم تعد تحقق العدالة الاجتماعية ولم تجني منها الشعوب سوى الفقر، ثم في البداية أيد الانقلاب العسكري لأنه اعتقد أنه سيعيد الاستقرار ووحدة الشعب من جديد ولو لمرحلة مؤقتة انتقالية لكنه يكتشف أن الديكتاتورية لا تستخدم سوى القبضة الحديدية، ولا تؤسس إلا للعنف والظلم والاضطهاد والاستبداد.

برع المخرج أليخاندرو أمينبار في رسم شخصيتي ميجيل وفرانكو والتناقض الشديد الذي تحمله كل شخصية، تاريخ ميجيل نفسه يحمل العديد من المتناقضات الفكرية فهو ليس مثقفا متلونا أو متسلقا بل صوته وأراءه نابعين من ضميره ومن حبه لوطنه الذي قد يصيب أحيانا وقد يخطئ في مرات أخرى، لكن يظل الفيصل في الأمر مواقفه عندما يكتشف أنه مخطئ أو مضلل، إنسان فقد زوجته في الماضي ولم يتبقى له سوى وظيفته التي يحاول الحفاظ عليها لأنها تمثل له الحياة، ميجيل شخص متسامح مع نفسه ومع أفكاره ومع المقربين له الذين هم في نفس الوقت من أكبر المختلفين معه فكريا مثل ابنته الثورية “ماريا” وصديقاه الأول “أتيلانو كوكو” القس المسيحي المتدين والثاني “سلفادور فيا” الشاب الاشتراكي، والذي كان اعدامهما نقطة تحول لميجيل في إعادة تقيمه ونظرته المؤيدة للانقلاب العسكري.

نفس التناقض يحمله الجنرال فرانكو من خلال علاقته المحبة بزوجته وابنته وعشقه للعزف على البيانو والتوجه للصلاة نزولا لرغبات زوجته المسيحية المتدينة، حتى على مستوى عمله فهو يبدو متحفظ قليل الحديث، لكن هذا الرجل على نحو آخر عسكري شديد الشراسة والقسوة سفك الدماء وأعدم أبرياء دون محاكمة، وظلت فترة حكمه هي الأسوأ في تاريخ إسبانيا التي شهدت تطير عرقي شديد  تعاني منه الدولة حتى يومنا هذا.

قام المخرج عن قصد بحصر فيلمه بين مسارين متوازيين لا يلتقيا في المطلق لكن التقاءهما يمثل تهديد للمسار المستقيم، الأول المتلق بألاعيب السياسية والمؤامرات العسكرية والعنف وحمل السلاح والحرب ذلك الجانب الذي أظهر من خلاله الانقسام الموجود حتى في الجيش قبل ترجيح كفة فرانكو، والثاني مسار المفكرين والمثقفين الذين يعتمدون على العقل في تقييم الأحداث، كيفية العلاقة بين العالمين وتأثير كل منهما في الآخر خصوصا في المشهد الخاص بالمؤتمر العسكري الذي أقيم في الجامعة التي يعتبرها ميجيل معبده الفكري ومن قبله محاولات الجنرال “استراي” جعل الجامعة مقرا له.

نجح المخرج أيضا في المزج بين اللقطات القصيرة التي ارتكزت على تعبيرات ميجيل وبين اللقطات الطويلة التي نقل من خلالها احتشاد القوات وتحية العلم ومشاهد التمركز العسكري والمشاهد الخاصة برحلات السير التي جمعت ميجيل مع صديقاه أتيلانو وسلفادور، ويعتبر مدير التصوير الإسباني أليكس كاتالان أحد الأبطال المميزين في هذا العمل من خلال اختيارته في الإضاءات الخافتة في المشاهد الداخلية سواء منزل ميجيل أو في مكتبه في الجامعة أو في مشاهد اجتماعات القادة العسكريين، وكانت ذروة إبداع الإضاءة في المشهد الخاص بالجامعة خصوصا مع زوايا التصوير وحركة الكاميرا الداائرية التي حددها المخرج.

حتى على مستوى البوستر الدعائي الذي كان عبارة عن لقطة بعيدة المدى لميجيل تمتسي باللون الأسود وهو يرتدي ثياب المثقفين فذ ذلك التوقيت، ينظر إلى أشعة النور التي تدخل إلى المكان على استحياء وتحاول أن تنير الظلام، وفي يده خطاب زوجة صديقة أتيلانو الذي أعدم ظلما، وفي الخلفية أصوات دوي الانفجارات وطلقات النيران التي أصبحت سمة الشوارع الإسبانية بعد بداية الحكم العسكري.

قاد ميجيل انقلابا هو الآخر لكنه لم يكن عسكريا بل انقلب على أفكاره وقناعاته في رحلة إنسانية بديعة برع الممثل الإسباني كارا إليخالدي في نقل أدق تفاصيلها وفي كل المراحل التي مر بها من خلال طرح الأسئلة الداخلية التي ظهرت من خلال نظرات عيناه وتعبيرات وجهه وعلاقاته مع ابنته وحفيده وأصدقائه التي شهدت تقلبات كثيرة، وتحولات العلاقة بينه وبين القادة العسكريين خلال التدرج في اللقاءات التي جمعتهم في البداية حيث التوافق والالتزام ثم الشك والمراقبة ثم الانقلاب والعودة إلى صوت الضمير

التحولات التي شهدتها شخصية ميجيل كانت العنصر الأكثر ابداعا وتميزا للمخرج من خلال فكرة الربط بين موهبة ميجيل في استخدام قصاصات الورق لتصميم حيوانات، واختياراته للحيوانات التي صممها في كل مرحلة، في البداية صمم الجمل ثم الحمار ثم القرد، وهي المراحل التي مر بها ميجيل بداية من تعينه من قبل الحاكم العسكري في منصب عميد الجامعة مدى الحياة، ثم محاولاته اقناع المثقفين بدعم الانقلاب، واستحداثه لمصطلح “الدفاع عن الحضارة المسيحية الغربية” الذي وجد ان الديكتاتورية تتاجر به أمام الشعب.

عندما طلب منه حفيده تصميم أسد قال ميجيل بتردد له أنه لا يستطيع ذلك، لكن نجده في نهاية الأحداث وقبل المشهد الخاص بالمؤتمر الذي أقامته السلطة الديكتاتورية في الجامعة قام ميجيل بتصميم أسد و بعدها اتجه للمؤتمر وألقى كلمته الشهيرة التي تزال باقية حتى اليوم في التراث الأدبي والسياسي الإسباني التي انتقد فيها طريقة حكم الجنرالات وأنه كان مخطئا عندما أيدهم، فاق المثقف وتحول إلى أسد وتراجع عن موقفه لكن هل هذا يغفر له دوره المؤثر في ترسيخ حكم الديكتاتور للأعوام طويلة.

Visited 79 times, 1 visit(s) today