“الـطـائـر الـمـطلي” أوديسّة عـصرية في زمن الحرب

Print Friendly, PDF & Email

في احدى ليالي خريف 2019 وبالتحديد في مدينة فينسيا الساحرة، كان العرض العالمي الأول لفيلم “الطائر المطليThe Painted Bird للمخرج التشيكي “فاكلاف مارهول“، وهو من نوعية دراما الحرب. وقد بدا صادماً بعض الشيء لدى عرضه الأول على جمهور مهرجان فينسيا، بل أن قلة من الجمهور غادروا صالة العرض بالفعل بسبب مشاهد الفيلم الصادمة والمزعجة أحياناً، لكن ذلك لم يؤثر بأي حال على الحفاوة التي قوبل بها الفيلم بعد نهاية عرضه.

الفيلم من كتابة وإخراج فاكلاف مارهول وهو مقتبس عن رواية ذائعة الصيت للأديب الأمريكي من أصل بولندي “جيرزي كوزينسكي“، من بطولة بيتر كوتلار (الصبي جوسكا)، أودو كير، ستيلان سكارسجارد، هيرفي كايتل، جوليان ساندرز، أليكسي كرافيتشينكو بطل الفيلم السوفيتي الشهير “come and see” والذي يحكي أيضاً عن فترة الحرب العالمية الثانية وأحداثها.

لاقى الفيلم استحساناً جماهيرياً ونقدياً وتم ترشيحه للعديد من الجوائز العالمية.

كيف بدأت القصة؟

في خريف عام 2012 أعلن مارهول أنه استطاع الحصول على حقوق رواية ” الطائر المطلي” والتي أثارت جدلاً واسعاً عند صدورها عام 1965، مارهول وبعد نجاح شريطه السينمائي “طبرق” والذي يسرد أيضاً أحداث من الحرب العالمية الثانية، قرر أن يكون مشروعه القادم سيناريو مقتبس من رواية كوزينسكي،

حينها ذكر موقع “كينوبوكس” التشيكي أن التكلفة المتوقعة للفيلم ستقارب المائة وعشرون مليون كرونة تشيكية، وبالفعل شرع مارهول في كتابة السيناريو وبدأ تصوير الفيلم في عام 2017 وعلى مراحل عدة، وانتهى التصوير في منتصف عام 2018.

وبالعودة للوراء قليلاً فإن الرواية التي خرجت للنور في منتصف الستينيات كانت محل جدل كبير، واتُهم كوزينسكي بسرقة أحداثها من روايات محلية بولندية غير مشهورة، وهو نفس الجدل الذي أثارته روايته الأكثر شهرة “أن تكون هناك” والتي تم اقتباسها أيضاً في فيلم سبعيناتي بديع بنفس الاسم من إخراج “هال أشبي” وبطولة “بيتر سيلرز”، وقد اتهم كوزينسكي أيضاً باقتباسها من حكايات فولكلورية بولندية أيضاً.

حاول كوزينسكي أكثر من مرة أن يقوم بتسويق روايته “الطائر المطلي” حتي يتم اعدادها للسينما، كي تحذى بنجاح وشهرة شقيقتها ” أن تكون هناك”، لكن محاولاته باءت بالفشل ولم يحالفه الحظ في رؤية روايتها على شاشة السينما، فقد مات في العام 1991 قبل عرض فيلمنا هذا بسنوات طويلة.

اتهم البعض الفيلم بالقسوة المفرطة، ولكن عند مقارنة الفيلم بالرواية يتضح لنا أن فاكلاف مارهول برغم حدة أحداث فيلمه، فهي لا تقارن بقسوة أحداث الرواية الأصلية والتي تفوح من صفحاتها رائحة الدماء والقسوة والعنصرية، ذلك برغم إخلاص مارهول الشديد للخط الدرامي الأصلي للرواية.

يحكي الفيلم رحلة صبي يهودي صغير، في قري بدائية في شرق أوروبا بعد أن أبعده والده عن أتون الحرب المشتعلة في المدن الكبرى، في ظل تهديدات النظام النازي لليهود والغجر والأقليات الأخرى، تولت رعايته عجوز اسمها “مارتا” حتى توفت، وهنا يجد الصبي نفسه وحيداً لتبدأ رحلته الشاقة والخطرة في بلاد لا يعرفها ولا يجيد حتى التحدث بلسانها، تبدأ معاناته حين يرفضه أهل القرية ظناً منهم أنه غجري أو ممسوس بل إن البعض ادعى أنه مصاص دماء، يقوم أحد رجال القرية ببيعه لدجالة عجوز تعالج الناس بخلطات بدائية، يصاب بالطاعون فتقوم العجوز بدفنه واقفاً في حفرة تغطي جسده كله ماعدا رأسه، التي تنهشها الغربان وتنقذه العجوز في أخر لحظة، يقابل بعدها نجار طاعن في السن لا يجد غضاضة في اقتلاع عيني من ظن أنه طامع في زوجته، يقع في النهر وينجو، يرى النشوة ويشعر بلذتها، يعلمه “ليخ” صائد الطيور درساً لا ينساه، حين يلون طائراً صغيراً بالأصباغ بعد اصطياده، ثم يطلقه مرة أخرى ليعود إلى سربه الذي يلفظه لأنهم رأوه مختلفاً عنهم وألوانه ليست نفس الألوان، وهنا يتعلم الولد قدر المختلف، معضلة الطفل المستمرة في كونه مختلفاً لون شعره ولون عينيه، تختلف عن باقي الناس المحيطة به.

يقع أسيراً في أيدي الألمان وينقذه قس عجوز يحنو عليه ثم يرسله بعدها ليعيش مع رجل يرعاه، لكن ذلك الرجل يسيئ معاملته ويعتدي عليه، لكن الفتي ينتقم منه بعد ذلك أشد انتقام، تحمله الرحلة في طريقها ويتعرض لأهوال كثيرة حتى يعثر عليه والده في النهاية ليعود معه لبيته.

وبتحليل أحداث الفيلم، لم يرد مارهول ذكر مكان معين لأحداث فيلمه واكتفى فقط بالإشارة إلى إنه في مكان ما في شرق أوروبا، ذلك تجنباً للدخول في تعقيدات قومية، كما إنه استخدم لغة لا تنتمي لبلد بعينه، فهي لغة بين سلافية، يمكن اعتبارها إشارة للجنس السلافي ككل، ومن مشاهده الأولى بدا أن المخرج يريد توصيل فكرة ما عن نبذ العنف والتعصب والكراهية، ففي البداية لم يحدد لا جنس ولا ديانة الفتى المضطهد، فالكل يكرهه أو ينبذه ذلك لأنه مختلف، اختزل مارهول فكرته في قصة بسيطة عن الطائر الذي يقتله سربه ذلك لأن ريشاته صبغت بلون مختلف، تلك القصة رغم بساطتها كانت مفتاحاً مهماً لفهم رحلة الصبي الخطرة الأشبه بنزهة في الجحيم.

تلك الرحلة التي ألقت بظلالها على الفتى الصغير ولونته بلونها القاسي، فنراه لا مانع لديه من سرقة حذاء طفل يهودي يحتضر، أو حتى أن يسرق ملابس وموقد شيخاً قابله في الغابة ذلك بعد أن ضربه ضرباً مبرحاً، فالمسألة هنا حياة أو موت في ذلك الجحيم المستعر.

انتقد البعض جرعة الكآبة الزائدة في الفيلم خصوصاً وأن الفيلم تم تصويره بالأبيض والأسود، مما ضاعف من ذلك الشعور، لذلك أفرد مارهول جزءً من حديثه لمجلة “الجارديان” للرد على ذلك الإدعاء قائلاً:

“ربما يكون سبب رعب الجمهور أنهم خافوا من أنفسهم، لأني قمت بعرض أشياء في عقولهم وقلوبهم، أشياء يودون لو خفوها، ربما تلك هي المشكلة”.

من الناحية البصرية قدم لنا التشيكي “فاكلاف مارهول” شريطاً سينمائياً ساحراً؛ يمتد لما يقارب الثلاث ساعات، ساعده في ذلك اعتماده على العديد من المشاهد الصامتة كأداة أكثر فاعلية لتوصيل المعنى وامتاع المشاهد بصرياً، بأسلوب شبيه لما قدمه شاعر السينما السوفيتية “أندريه تاركوفسكي”.

كان مارهول كما قلنا مسبقاً أميناً في تناوله للنص الأصلي الذي قدم لنا فتىً أبكماً لا يتحدث نتيجة صدمته من تصرف أهل القرية المؤمنين الذين قاموا بالقائه في بركة الوسخ لأنه أسقط الكتاب المقدس من بين يديه أثناء القدّاس، كانت تلك حجة كافية ليبدع “مارهول” بمساعدة مدير التصوير التشيكي “فلاديمير سموتني” صاحب الفيلم التشيكي الشهير “كوليا Kolya” للمخرج جان سيفراك والذي حاز جائزة الأوسكار لأحسن فيلم غير أجنبي في منتصف تسعينيات القرن العشرين.

اعتمد “سموتني” اللقطات الطويلة المعبرة بمختلف الزوايا ودرجات القرب والبعد من الكاميرا، ليتضح لنا حجم المعاناة التي عاشها الصبي في رحلته الخطرة تلك وسط جحيم لا يرحم، عالم يحيا حياة مجنونة وحرباً ملتهبة طغت بقسوتها على من عاصرها، لنرى فرقة عسكرية تابعة للألمان تبيد قرية عن بكرة أبيها بعدما استباحت نساء تلك القرية، أو نرى نساء أخريات يقتلن سيدة غجرية جامحة بوحشية لا توصف، أو حتى عندما ينتقم جوسكا لكرامته حين ضربه أحد الباعة في السوق فيقوم الفتى بقتله بعدها بأيام.

نجح مارهول في تصوير كل ذلك، كما استطاع ربشة فنان ماهر أن يبرز فكرته عن الاختلاف؛ ليحاكي الصبي في رحلته الطائر الملون الذي لفظه سربه ذلك كونه مختلفاً عنهم، أو ليحاكي رحلة “أوديسيوس” الأسطورية في أوديسا هوميروس، وذلك من حيث خطورتها وجنونها في عالم لم يكن أكثر عقلانية ولا منطقية من ذلك العالم الخيالي الذي رسمته الأسطورة.

Visited 80 times, 1 visit(s) today