سوق الإنتاج السينمائي السعودي: المارد القادم

Print Friendly, PDF & Email

في نهاية السبعينيات تنبأ المخرج السعودي عبد الله المحيسن في حديثة عن مستقبل السينما السعودية قائلاً: “ستكون السعودية هي رائدة الإنتاج السينمائي في العالم العربي “، ويبدو أن نبوءة عراب السينما السعودية في طريقها للتحقق بعد هذه الطفرة السينمائية الهائلة التي تشهدها المملكة منذ قرار إعادة افتتاح دور العرض السينمائية في 2018.

لقد جاءت عودة الحياة للسينما بعد حظر دام لأكثر من ثلاثة عقود متتالية منذ حادثة الحرم المكي في بداية الثمانينيات، والتي كان من نتائجها انحسار المشهد الثقافي والفني عامة في المملكة تخوفاً من تكرار حوادث التشدد الديني التي زاد وقعها في هذه الفترة.

قبل هذا الحادث الأليم كان المناخ الفني في السعودية مناخاً متزناً ومتنوعاً، وكانت العروض السينمائية حاضرة في الفنادق والأندية الرياضية والمنازل والمناسبات المختلفة، وكانت النظرة للفنون معتدلة ومحايدة بعيدة عن المغلاة والتزمت والعدائية.

وخلال تلك الغيبة الطويلة لهذا الفن البديع عن المملكة، ظلت الجماهير السعودية متعطشة للسينما رغم توفر عروض الأفلام العربية والعالمية على شبكة الانترنت إلا أن الذهاب للسينما في حد ذاته ممارسة فنية واجتماعية وترفيهية حُرم منها الشعب السعودي لعقود، إلى أن جاءت تلك اللحظة التي عبرت عن رغبة المملكة الجادة في عودة هذه الأجواء الفنية مرة أخرى، مع وجود إرادة حقيقية لخلق تجربة سينمائية متكاملة تحقق أهدافاً ثقافية وترفيهية واقتصادية أيضا.

وقد يندهش البعض لما حققته العروض السينمائية في المملكة من أرباح خلال هذه الفترة الوجيزة، حيث كشفت تقارير الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع، عن تحقيق قطاع السينما؛ إيرادات تجاوزت 3 مليارات ريال، من خلال 51 مليون تذكرة مباعة، وذلك منذ عودة دور العرض في المملكة، حيث بلغ عدد شاشات العرض أكثر من 620 شاشة، و تجاوز عدد دور السينما 69 داراً، بسعات تخطت 64 ألف مقعد، موزعة في أكثر من 20 مدينة سعودية، بل العروض السينمائية في المملكة حققت خلال أول 30 أسبوعاً من عام 2023، أكثر من نصف مليار ريال، حيث عرض 185 فيلماً من ست دول من بينهم 6 أفلام سعودية هي (سطار، والهامور ، وعياض في الرياض، وأغنية الغراب، وملك الحلبة، وطريق الوادي).

وقد حقق فيلم “سطار” وحده 41 مليونا خلال عرضة لمدة 19 أسبوعا، وتتوقع الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع في السعودية أن يصل عدد دور السينما بحلول عام 2030 إلى 350 داراً بـ2500 فيلم يعرض في عموم المملكة، وأن تصل قيمة الصناعة السينمائية إلى مليار دولار، كما تتوقع أن يرتفع الإنفاق الأسري على الترفيه من 3 بالمائة إلى 6 بالمائة، ومن ثم تنتعش حركة السوق بقيمة 30 مليار ريال.

كل ما سبق يجعل من السوق السعودي محط أنظار كبار المستثمرين في قطاع السينما حول العالم، نظراً لتلك الأرباح المهولة والأرقام المبشرة رغم حداثة هذه السوق الناشئة.

ويعتبر الإنتاج السينمائي المحلى مفتاح النجاح والاستمرار لتلك الصناعة وعدم الاعتماد على الفيلم الأجنبي بشكل حصري كمغذى لتلك السوق الواعدة، فقد شهد عام 2022 عرض 11 فيلماً سعودياً في دور العرض، مقابل 7 أفلام فقط العام 2021 من مجمل 31 فيلما سعودياً تم عرضهم جماهيريا خلال الخمس سنوات الأخيرة، مع وجود أمال في أن يصل عدد الأفلام المنتجة محليا إلى مائة فيلماً سنوياً.

هذا التصاعد المستمر يعكس الإيمان بجدية المشروع السينمائي السعودي المدعوم بإرادة حقيقية واعتبار الفيلم الوطني أداة فاعلة من أدوات تشكيل الهوية الثقافية وإطار لطرح هموم البشر ومعالجة القضايا الملحة لمجتمع تحرر لتوه من قيود الانغلاق الاجتماعي.

وتتجلى ملامح تلك الإرادة من خلال الدعم المالي الكبير التي توجهه المؤسسات السعودية لهذا القطاع، حيث توفر “هيئة الأفلام السعودية” التابعة لوزارة الثقافة، دعماً لصناع الأفلام السعوديين المحترفين من خلال “برنامج ضوء”، عبر تقديم مبالغ نقدية غير مستردة لشركات ومؤسسات الإنتاج السينمائي في المملكة، إضافة إلى جهات الإنتاج الأجنبية بشركاء سعوديين.

ويستثمر “الصندوق الثقافي” التابع للحكومة 233 مليون دولار على مدى 3 سنوات، من خلال برنامج تمويل قطاع الأفلام الجديد، لتعزيز البنية التحتية للسينما في البلاد ودعم الإنتاج السينمائي بالمنح والقروض.

ويدعم مهرجان البحر الأحمر صانعي الأفلام، من خلال صندوق البحر الأحمر، الذي يقدم 14 مليون دولار سنوياً لدعم الأفلام في مراحل التطوير، والإنتاج، وما بعد الإنتاج، وذلك لـ 100 مشروع للمخرجين السعوديين.

كل هذا الدعم الحكومي المتزايد يؤكد التزام المملكة بدعم الثقافة والفنون وتوفير بيئة ملائمة للتطور الثقافي والسينمائي. ما يتيح للسعودية الانضمام إلى مجموعة الدول ذات التأثير الفاعل على مستوى صناعة السينما العالمية. هذا بالإضافة إلى إمكانية اللجوء إلى مزايا استراتيجية الإنتاج الدولي المشترك حيث تلجأ الدول التي لا تتمتع بخبرة إنتاجية كبيرة لشراكات كبرى في دول أخرى لتسريع الوصول إلى الأسواق والموارد الدولية والتنافس في السوق العالمية مثلما فعلت السينما الدنماركية في بداية الالفية الجديدة والسينما الاسكتلندية التي تغلبت على محدودية الموارد والأسواق المحلية الضيقة لصناعة السينما، وأدى ذلك إلى إنتاج أفلام عالية الجودة وناجحة تجاريًا وفنياً.

وتكرّيساً للاستثمار في الطاقات البشرية والبنى التحتية السعودية ووضع المملكة على خارطة الانتاجات العالمية، فتحت السعودية أبوابها لصناع السينما العالميين في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث شهدت المملكة إنتاج العديد من الأفلام العالمية، التي جرى تصويرها في مناطق مختلفة من السعودية، مثل فيلم “قندهار” من بطولة جيرارد باتلر، والذي تم تصويره في محافظة العُلا ومدينة جدة؛ وفيلم “Cherry” الذي تم تصويره أيضًا في محافظة العُلا والعاصمة الرياض. وفيلم “محارب الصحراء” من بطولة أنتوني ماكي، والذي صور جزء كبير منه في مدينة تبوك على مدار العام. وهذه الأفلام وفرت فرص عمل لأكثر 850 فرداً من التقنيين والفنيين المحليين في المملكة خلال فترة التصوير، إلى جانب المئات من الأدوار المساندة والثانوية والمساعدة التي شارك فيها ممثلون سعوديون فاق عددهم الـ 425 سعودياً. وعلى صعيد الشركات المتعاقدة، تم تعيين نحو 214 شركة سعودية ومحلية متعاقدة لإنجاز أعمال فنية وتقنية ولوجستية وغيرها في هذه الأفلام 

من جهة أخرى تنوى الشركات المالكة للشاشات العرض في السوق السعودي الدخول لمجال إنتاج ودعم الأفلام السعودية هذا التوجه والتعاون بين شركات الإنتاج والموزعين ودور السينما، يؤدي إلى نجاح الأفلام المحلية التي تستهدف ذائقة المشاهد السعودي، ويساهم في إتمام دورة ناجحة من الاهتمام والاستثمار المتزايد في قطاع السينما؛ مما يؤدي إلى المزيد من النمو والتطور والرواج

المراجع للأرقام السابقة يستنتج بسهولة أن سوق الإنتاج السينمائي السعودي بكل عناصره هو المارد القادم الذي سيحتل المنطقة بقدراته المهولة خاصة وإن تمكنت المملكة في الوصول لما تطمح إليه من أرقام بنهاية 2030.

** جميع الأرقام والإحصائيات الواردة في المقال مأخوذة من تقارير الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع في السعودية، ودراسات مركز سمت للدراسات.

Visited 2 times, 1 visit(s) today