السينما وسلاح الأيديولوجيا: سياسات الفيلم وجمالياته

Print Friendly, PDF & Email

يعتقد البعض، سواء من الكتاب أو من المهتمين بالسينما، أن الفيلم الجيد هو بالضرورة الفيلم صاحب التوجه السياسي الصحيح. و”الصحيح” تعني عندهم، التقدمي، الليبرالي، الذي ينتصر للخير على الشر، أو ينتقد الشر لحساب الخير، أو يدين ويشجب القهر والتخلف والعنصرية والاستعمار والإمبريالية وتدخلها في شؤون بلدان العالم الثالث مثلا، أي باختصار الفيلم صاحب الرسالة السياسية. ويطلق نقاد الغرب على هذه الرسالة the film politics أي الموقف السياسي للفيلم أو (سياساته) إذا شئنا الدقة الحرفية.

ويتوقف رفض الفيلم أو قبوله، في هذه الحالة، على ما يتخذه من “موقف” سياسي، فإذا كان الفيلم مثلا يدور حول العنصرية هنا ينحصر بحث نقاد (السياسات) على كل ما من شأنه أن يتفق مع نظرتهم التي تدين العنصرية وترفضها وتعريها وتفضحها. فإذا وجد هؤلاء أن بالفيلم بعض المشاهد أو الإشارات التي يمكنهم تفسيرها على أنها قد تصبح سلاحا ذا حدين، أي قد تحمل في طياتها أيضا نظرة عنصرية، يكون الموقف النقدي هنا رفض الفيلم واعتباره عملا فنيا رديئا لا قيمة له من الناحية السينمائية، بغض النظر عن جمالياته التي يمكن أن تكون ملهمة.

عند هؤلاء، لا يكون هناك نقد سينمائي بدون هذا الموقف النقدي “السياسي أو الأيديولوجي” في الأساس، بل يصبح هذا النوع من النقد، في رأيهم، نقدا  في “الفراغ”، لا طائل من وراءه ولا فائدة، فكيف يمكن أن يكون هناك فيلم “جميل”، يدعم مثلا النظرة “البورجوازية” للصراع الطبقي، أو كيف يمكن أن نعتبر فيلما ما متقدما من الناحية الفنية، وهو لا يحتوي على ما يؤكد وجهة نظر أو حتى رؤية نقدية للمجتمع الأمريكي، خصوصا، وللمجتمع الغربي عموما: الاستهلاكي، السلعي، الاستغلالي، الفردي الأناني، العنصري..إلى آخر كل ما يمكنك وضعه من اتهامات وأوصاف تحمل صبغة الإدانة. 

يتساءل أصحاب هذا الموقف العقائدي المتشدد: “ما قيمة أي فيلم إن لم يكن له موقف ما، سياسي واجتماعي؟ وفي هذه الحالة يتم رفض ما يراه آخرون ممن لا يتبعون المنهج السياسي العقائدي في تصنيف وتقييم الأفلام، واعتبار نظرتهم للفيلم متخلفة أو قاصرة أو تروج لـ”العنصرية” او للإمبريالية أوحتى، للنازية. وهم قد يتساءلون مثلا: كيف يمكن القول إن فيلما مثل “لورنس العرب” عمل بديع فنيا؟ فهل المسألة مسألة صنعة؟ وما أهمية الصنعة وكل الافلام الأمريكية الضخمة أو حتى المتواضعة الامكانيات، أصبحت- كما يقول أصحاب هذه النظرية- متقدمة في الصنعة؟ الا يعكس هذا موقفا رجعيا متخلفا؟!

في هذه الحالة يكون تصوير شخصية رجل شرير في الفيلم مثل تاجر العبيد مثلا، بطريقة جذابة رغم ما في شخصيته من قسوة ووحشية يكشفها الفيلم أيضا،أمرا مرفوضا من جانب النقاد العقائديين. وعند هؤلاء تتشابه كل الأفلام من حيث جودة الصنعة (من إضاءة وتصوير ومونتاج واخراج.. الخ) وهي صنعة لا قيمة لها عندهم فالعبرة بالرسالة النهائية التي يمكن أن نستقيها من الفيلم، أو بمعنى أدق، يستخلصونها هم  من الفيلم محل النقد والتقويم والتقييم.

ليس بوسع هؤلاء الناقدين أن يستوعبوا معنى أن يكون الفيلم عملا فنيا بديعا، بعيدا عن جوانب الصنعة التي أشرنا إليها، وبعيدا أيضا عن الرسالة أو المضمون. فهم عادة يتساءلون بغضب: ما معنى فيلم جيد وعلى أي أساس يعتبر جيدا، فلابد أن تكون هناك معايير محددة، وإلا هل المسألة مسألة حرفة أي براعة في التصوير والمونتاج والتمثيل، وما قيمة هذه العناصر التي يمكن لأي سينمائي أن يتعلمها ثم يجيدها إن لم تكن مرتبطة بموقف سياسي واجتماعي متقدم.. وأليست المسألة، أي مسألة النقد- أكبر كثيرا من ذلك؟

سلاح الأيديولوجيا

لقد دارت الكثير من المعارك النقدية والسجال النقدي حول هذه المفاهيم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة. وخلال ذلك ظهر النقد العقائدي الأيديولوجي لدعم الأفكار التقدمية الإشتراكية تحديدا، وكان هدفه التنقيب والبحث في كل ما يأتي من ذلك المعسكر الآخر، الرأسمالي، من أفلام، بعضها كان بالتأكيد، موجها ومدفوعا من جانب الإدرة الأمريكية أو بعض الوكالات التي تمثلها في هوليوود، ومنها أيضا بعض الوكالات “الصهيونية”، لكن معظمها كان يظهر كمنتج إبداعي فردي، يمثل صاحبه، أي مؤلفه ومخرجه، ويعبر عن تطور الوعي السينمائي لديه. بل يمكن القول بثقة أيضا، إن معظم ما كان يظهر من أفلام توجه نقدا سياسيا شديدا للمجتمع الأمريكي وللسياسات الأمريكية، كان يأتي من الولايات المتحدة، وتحديدا، من هوليوود التي يميل الكثيرون ممن ينتمون للمنهج العقائدي، إلى الشطب عليها وإعتبارها قلعة من قلاع الترويج والدعاية للفكر الأمريكي والسياسة الأمريكية، كما لو كان “الفكر” الأمريكي شيئا واحدا مصمتا لا تنوع فيه ولا إختلاف، وكما لو كانت الأفلام تصن فقط طبقا لتوجهات السياسات الأمريكية.

في عام 1974 ظهر كتاب روسي في النقد الأيديولوجي هو كتاب “الفيلم والايديولوجية وشباك التذاكر” للكاتب أ. كاراجانوف، نشرته وكالة نوفوستي السوفيتية. وكان يلخص حالة النقد الاشتراكي الأيديولوجي ونظرته المتوجسة تجاه الكثير من الأفلام الغربية التي كان البعض منها يعتبر من الأفلام “النقدية”، والبعض الآخر لاشك أنه كان يصنع بدفع وتخطيط من الوكالات الأمريكية المتخصصة في الدعاية المضادة مثل فيلم “القبعات الخضراء” The Green Beretsمثلا الذي إشترك في إخراجه ثلاثة مخرجين وقام ببطولته نجم أفلام الويسترن الأمريكية الشهير جون واين، وبلغت تكاليف إنتاجه سبعة ملايين دولار، وهي ميزانية كبيرة بمقاييس الفترة. وكان الفيلم عملا مناهضا للشيوعية، يدافع عن ويبرر المجازر التي كانت ترتكبها القوات الخاصة الأمريكية في فيتنام خاصة مذبحة “لاي ماي” الشهيرة (مارس 1968) التي راح ضحيتها نحو خمسمائة مدني فيتنامي من المزارعين الفقراء بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، على أيدي فصيلة ذوي القبعات الخضراء.

لقطة من فيلم “القبعات الخضراء”

وكان جون هوارد لوسن John Howard Lasson(1894- 1977)، رئيس شعبة الحزب الشيوعي الأمريكي في هوليوود لعدة سنوات، ثم أحد من أطلق عليهم “العشرة الكبار في هوليوود” ، قد نشر كتابه الشهير “الفيلم في معركة الأفكار” Film in the Battle of Ideas عام 1953 (ترجمه إلى العربية أسعد نديم وصدر عن دار الكاتب العربي بالقاهرة). وهو يعد اليوم كتابا كلاسيكيا في النقد العقائدي الاشتراكي الذي يفسر الأفلام بمعزل عن جمالياتها، مركزا فقط على الجانب السياسي والمفاهيم الضمنية التي تكمن داخل الفيلم، وما تحتويه من “أفكار” معادية للفكرة الإشتراكية أو تشوه القضايا النضالية مثلا. ولعل من أبرز الأفلام التي سلط عليها الضوء في هذا الكتاب فيلم “فيفا زاباتا” Viva Zapata الذي أخرجه المخرج الأمريكي إيليا كازان وعرض عام 1952 أي قبل صدور الكتاب. وكان كل من كازان ولوسن من الذين وقفوا أمام لجنة النشاط غير الامريكي (لجنة ماكارثي) وإتهم كازان وقتها بالشهادة ضد زملائه في الحزب الشيوعي. أما لوسن فقد وضع إسمه في “القائمة السوداء” الشهيرة. وهو لا يعترف قط في كتابه المشار إليه بأي قيمة جمالية أو فنية في فيلم “فيفا زاباتا” Viva Zapataبل يتوقف فقط أمام كل ما من شأنه التشكيك في نوايا صناع الفيلم، ولو بلوي عنق الأشياء بشكل ملحوظ، ويتهم الفيلم بتشويه شخصية زاباتا وثورته (قام بدور زاباتا مارلون براندو) إستنادا إلى أن الموقف السياسي لإيليا كازان لم يكن موقفا “ثوريا” سليما، وأتهم بالتخاذل بل بالخيانة.

وعلى حين يتجاهل لوسن في كتابه أي أبعاد جمالية أو فنية في فيلم “فيفا زاباتا” يتوقف أمام مضمونه الذي يراه منحرفا ليصدر الحكم التالي “إنه لتشويه كبير للتاريخ أن يتجاهل المرء حقيقة أن حركة الفلاحين بقيادة زاباتا كانت جزءا من انتفاضة قومية تتجه أساسا ضد السلطة الامبريالية للولايات المتحدة. لكن الفيلم يصور المكسيك بلدا للجنرالات والسياسيين الفاسدين، دون أن يلقي أي مسؤولية على أي دولة أجنبية بعينها. ويعالج مطالبة الهنود والمكسيكيين البائسين بالأرض كموضوع صراع منفصل ومنعزل، والفيلم يزكي المطلب من الناحية الإنسانية، لكنه يبين منذ البدء، أنه مطلب مكتوب عليه الفشل لأن الفلاحين من “الجهل” و”السذاجة” بحيث لا يستطيعون أن يمسكوا بزمام سلطة الدولة”.

جماليات الفاشية

كان النقاش قد إتخذ منذ وقت مبكر، منذ السبعينيات تحديدا، منحى جديدا عندما بدأ نقاد كثيرون في الغرب يراجعون المواقف التقليدية القديمة مثلا من أفلام المخرجة الألمانية الشهيرة ليني ريفنشتال التي اتهمت بالتعاون مع النازية، وبصنع أفلامها للدعاية للفكر النازي والزعيم النازي أدولف هتلر. وكانت الكتابة بشكل إيجابي، إنطلاقا من منهج جمالي وليس أيديولوجيا، عن فيلم ريفنشتال “إنتصار الإرادة” (1937) Triumph of the Willمثلا، أمرا صادما للمعتقدات الراسخة حول ريفنشتال التي سجنت لمدة ثلاث سنوات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغم أنها حوكمت أربع مرات، إلا أن المحكمة لم تستطع إدانتها بالتعاون مع هتلر.

كان من الصادم للكثيرين الاعتراف بالموهبة السينمائية الكبيرة التي كانت تتمتع بها ريفنشتال (1902- 2003).. وبالجماليات الواضحة في أفلامها وخاصة “إنتصار الإرادة”، وهو الطرح الذي ردت عليه الكاتبة سوزان سونتاج في مقالها الشهير بعنوان “جماليات الفاشية”!

لا يستطيع كثيرون حتى يومنا هذا قبول فكرة أن الفيلم الجيد ليس هو دائما الفيلم الذي يتبنى موقفا سياسيا أو إجتماعيا متقدما بالضرورة، وليس هو الفيلم الذي قد تتميز فيه عوامل الصنعة على أهميتها، بل هو الفيلم الذي يعرف صاحبه أولا ما يريد التعبير عنه، ويعرف كيف يعبر عن أفكاره بطريقة سينمائية مبتكرة، خلاقة تتجاوز ما هو مطروق ومألوف وسائد.

لقطة من فيلم “انتصار الإرادة”

ولكن كيف؟ ألا يعد هذا كلاما عموميا إنشائيا لا معنى له يقوله النقاد على سبيل اللغو لأنهم لا يجدون ما يكتبونه للقراء؟ هذا ما سيرد به علينا المعادون للنقد والنقاد والذين يعتبرونهم شرا يفسد متعة المشاهدة غالبا، لأنهم  يرون أن النقاد لا يفهمون الأفلام كما يفهمها المشاهدون العاديون، بل يتفلسفون كثيرا بلا معنى. والنقاد أيضا متهمون بأنهم إذا عجزوا عن العثور على تصنيف لنوع الفيلم فإنهم يرجعونه عادة إلى ما يطلقون عليه “سينما الشعر” أو السينما الشعرية، أو سينما التأملات الذاتية.. في حين أن “ناقدي النقاد” يرون أنه لا شعر هناك ولا يحزنون، بل مجرد شطحات متحذلقة وشذرات من أفكار لا يجمعها شيء، تفشل في تحقيق المتعة والفهم وتصبح مثل العبث بالألوان في لوحات الفن التشكيلي غير المفهومة، أي التي يغيب فيها الموضوع والرسالة والموقف، وهي نظرة تتسق مثلا، مع ما عبر عنه نيكيتا خروتشوف، الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1958، عندما وصف لوحات الفنان التشكيلي الروسي نزفستني عام 1962 بأنها مجرد “فضلات كلب” معبرا عن استيائه من تلك اللوحات التجريدية. وقد سارع الفنان الذي كان يتمتع بتقدير خاص في الأوساط الثقافية والفنية السوفيتية، بتعرية ظهره أمام خروتشوف لكي يريه ندوب تلك الجروح التي أصيب بها خلال معارك الحرب العالمية الثانية، غير أن خروتشوف أخذ يجادله في دور الفن في خدمة قضايا الجماهير لنحو ساعة، دون أن يحدث أي تقارب بينهما في وجهات النظر!

لا غرابة إذا ما سمعنا مثل هذا الوصف من العامة عن الكثير من الأفلام التي لا تخضع للمعايير الفنية السائدة، أي ممن يشاهدون نوعا واحدا من الأفلام، هي أفلام المواعظ والحكم الأخلاقية التي تربوا ونشأوا عليها، واعتادوا أن يكون الفيلم أولا، قصة جيدة محكمة، ثانيا، أن يكون له مغزى، أي رسالة أخلاقية يعتقدون أنها “ترقى بقيم المجتمع” وبالمشاهدين وترتفع بأذواقهم.

غير أن المدهش أن هذا الرأي ليس قاصرا فقط على بعض الناشئين أو الوافدين على عالم السينما بالمعنى العميق للكلمة (ولا أقصد بالطبع من يتذوقون الأفلام ويكونون عنها انطباعاتهم السريعة فقط) بل بعض من يدرسون تاريخ السينما ويتعمقون في مدارسها ومذاهبها واتجاهاتها المختلفة، وبعض من بدأوا مؤخرا أيضا، في الكتابة عن الأفلام. نقول لا غرابة في ذلك فهناك من بين من هم محسوبون على المثقفين، وعلى من يقال لهم أيضا “كبار المفكرين” في بلادنا، من يعتبرون أفلام فيلليني وبرجمان على سبيل المثال، ومن هما على شاكلتهما، أفلاما لا معنى لها ولا تحمل أي قيمة فنية كما يقال، بل مجرد لغو وعبث.  ما القول إذا كان القائل بهذا هو الدكتور جلال أمين، صاحب الكتب التي تنتقد تقاعس المصريين عن المعرفة وانحدار ثقافتهم في العصور الأخيرة، وهو رأي يضمنه كتابه “ماذا حدث للمصريين” وفيه يدين الأفلام الغربية الحداثية مثل أفلام فيلليني وأنطونيوني ويعتبرها أفلاما مليئة بالخواء والتفاهة!

الفيلم ورؤية المبدع

الأمر ليس على هذا النحو من البساطة، فالفيلم الذي لا يرى فيه كثيرون “قيمة ما” أو “هدفا” أو “تصويرا صادقا للواقع” ليس بالضرورة فيلما رديئا أو لا معنى له ولا مغزى، فالحقيقة أن الكثير من الأفلام لا يسعى مخرجوها أصلا إلى محاكاة الواقع، وهو الشغل الشاغل للسينما التجارية منذ ظهورها، أي إقناع المشاهدين بأن ما يرونه على الشاشة ما هو سوى إنعكاس لحياتهم، أو صورة دقيقة صادقة لواقعهم الاجتماعي، في حين أن ما يشغل مبدعي الأفلام، أو المخرجين أصحاب الرؤية السينمائية الخاصة، ليس محاكاة الواقع أو توصيل “رسالة” سياسية أو إجتماعية معينة، بل التحرر من كل القوالب السينمائية الجاهزة، والإبحار في عالم أبعد ولو قليلا عن عالمنا المحدود المباشر، من خلال تقديم تلك “الحكاية” ذات المفاصل المتعددة وليس المفصل الواحد الذي تستند عليه الدراما عادة، وتدور حوله باستمرار. والمشكلة أن “تعدد المفاصل” في الفيلم الواحد قد يربك بعض المشاهدين الذين لم يتدربوا على فهم أعمال الفن الكبرى: اللوحات المصورة لكبار الرسامين، والأعمال الأدبية التي تبتعد عن الواقعية الاجتماعية وينشغل كتابها بالبحث عن معنى لوجودنا، عن علاقة الفرد بالكون، عن فكرة الوجود ذاتها، كيف يعبر عنها الإنسان من خلال الحب أو الجنس والفن والرغبة الدائمة في التواصل مع الآخرين من خلال تلك اللغة الأخرى، لغة النظرات والهمسات والتعبيرات الموحية البسيطة التي قد لا تعكس مغزى مباشرا، حتى لو كان أبكما، أصما، أو أعمى، حتى وهو يقف على عتبات الموت. والتأمل عادة في موضوع الموت يعني في الوقت ذاته، التأمل في مغزى الحياة، فيما نفعله بأنفسنا وبالآخرين، في الوقوف على مسافة ما للتأمل في فلسفة الخلق والحياة والعيش، السعي المحموم لتحقيق الذات، الرغبة في إمتلاك القدرة على السيطرة، وما يرتكبه الإنسان في خضم هذه النزعة إلى السيطرة، من فعل الحرب أو فعل القتل. فهل يقتل المرء فقط من أجل السيطرة أم قد تكون لديه دوافع أخرى غير مباشرة، أو غير مرئية أو ملحوظة، يمكن تفسيرها بالعثور على الدافع النفساني والاجتماعي، أو لا يكن تفسيرها أحيانا بل تظل لغزا كبيرا مثل لغز الحياة نفسها؟

هذه الأفلام التي تبحث في قضايا أشمل وأبعد من مجرد رواية قصة تحاكي الواقع أو تريد توصيل قيمة ما أو رسالة ما، هي- عادة- “أفلام مركبة”، وهذه الأفلام المركبة ليس من الممكن أن تلجأ إلى تلك الأساليب السينمائية المعتادة، لأنها تحمل في طياتها بذور التمرد على الأشكال التقليدية السهلة السلسة التي تحكي في سياق نمطي، أو في خط يسير ويصعد قبل أن يهبط ويتوقف عند تلك النهاية التي تغلق دائرة التفكير.

إن أفلام الفكر والفلسفة والبحث الشاق عما وراء السطح الأولي للواقع، أي فيما وراء الأشياء، ليست بالضرورة أفلاما تبحث في الميتافيزيقيا. قد تكون كذلك أحيانا، لكن من الممكن أيضا أن يكون بحث السينمائي المبدع بحثا فلسفيا في المجردات: في معنى الحب، والموت، والميلاد، والطموح الإنساني والرغبة في التحقق، والمعاناة المرتبطة بالرغبة في التملك أو عدم القدرة على الفكاك من أسر الانتماء: الطبقي، أو الجنسي، أو السياسي، في إطار حركة أشمل من تلك الدائرة المحدودة للعائلة والأصدقاء، بل إن فكرة العائلة نفسها يمكن أن تصبح مطروحة للتفكير بهدف إعادة النظر في مفهومها، كمادة فلسفية للتأمل، للتمرد، للرفض.

ليس مهما هنا أن يبدأ السينمائي من لقطة افتتاحية عامة أو بعيدة، ثم يقترب تدريجيا من الشخصيات في لقطات متوسطة أو عامة متوسطة، ثم يبدأ في فحص التعبيرات من خلال اللقطات القريبة المكبرة.. وليس مهما أن يبدأ السرد من البداية، فهنا قد لا توجد بداية محددة، بل لحظة، تتداعى فيها الفكرة كشذرة في العقل الباطن، وتنمو وتتخذ مسارا متعرجا أو صاعدا وهابطا، ودائريا، أو تتوقف عند الماضي مثلا ولا تسير في اتجاه متصاعد متقدم زمانيا. إن السينما بهذا المعنى الذي نقصده، تصبح هي فن التلاعب بالزمن، القدرة على تكثيف “الرؤية” (وليس رواية القصة)، بأي كيفية يراها المخرج- المبدع، أي المخرج صاحب الرؤية، الذي يمزج في أفلامه بين نظرته الشخصية والعالم، بين الذاتي والفردي والاجتماعي، وبين الداخلي والخارجي (داخل النفس وكيف تتبدى تعقيداتها خارجيا)، وبين النفساني والعبثي، بين الإحساس بالذات والإحساس بالعالم حتى في رفضه لهذا العالم وتعبيره عن هذا الرفض. وخلال ذلك، ينتقل في الزمن كما يشاء، من الماضي إلى المستقبل، أو من الحاضر إلى الماضي، ومن الواقع إلى الخيال، ومن الهواجس إلى الأحلام، ومن الداخل إلى الخارج.. وهكذا.

الفيلم هنا يمكن أن يتكون من شذرات، من سياقات متداخلة، من مشاهد ينتهي كل منها بفكرة ما، بشخصية جديدة تدخل إلى الساحة، ومن الممكن أن تخرج منها بعد ذلك، دون أن يكون هناك “منطق” درامي تقليدي يمتلك التبرير والتفسير والشرح، بل هناك منطق آخر خاص، ينبع من داخل المادة المصورة، من بين تلك المشاهد والشذرات التي قد تصل إلى أقصى درجات السيريالية في التعبير.

هذا ليس تخريفا لا معنى له، فالبحث عن المعنى ليست مشكلة الفنان المبدع، بل وظيفة الناقد والمشاهد، وهو لا ينبغي أن يكون الهدف الوحيد للمشاهد، فالمتعة قد تتحقق من مجرد المشاهدة، من التطلع إلى تلك القدرة التعبيرية الهائلة من خلال الصور وتعاقب اللقطات والألوان والموسيقى والبناء التشكيلي. متعة للعين وللأذن.. وما هي متعة السينما إن لم تكن كذلك!

شعرية الفيلم

إن شعرية الفيلم لا ترتبط بـ”التخريف” الذي ليس له معنى- كما يتصور البعض في رفض متعجل مراهق يحمل سمات الجهل بجوهر الفن أكثر من أي شيء آخر، بل هي شعرية تنتج عن ذلك الإيقاع: إيقاع الصور وتعاقبها، صعودها وترتيبها ثم تناثرها وابتعادها في نسق فني ما يكشف (أو لا يكشف) عن المعاني والأفكار الكامنة، أو يخفي أكثر مما يكشف، أو يراكم زمانيا قبل أن يبوح ببعض الأسرار. هناك إذن الإحساس الشعري الناتج عن الإيقاع، عن العلاقات التي تتخلق بين الصور (اللقطات والمشاهد) في علاقتها بشريط الصوت. إن السينما الشعرية ليست هراء، ولا نفخ في الفراغ، بل رؤية لا علاقة لها بما هو كائن في “الواقع”، بل بخيال السينمائي- الشاعر، بما يتخيله هو ويجسده ويجعلك تراه كما لو كان يحدث في الحقيقة، في الواقع، فهل من الطبيعي مثلا أن نرى بحارا يفتح معطفه الثقيل وهو يتطلع إلى الكاميرا ثم يشق أضلعه لكي يخرج من بينها طائر يطير محلقا في الأفق؟ وهل من “المعقول” أو “الواقعي” أن نرى رجلا يحاسب نفسه، أي صورته التي تتجسد أمامه، بينما يجلس هو أمام البيانو يعزف فيوقفه ويناقشه في حياته ومعناها، أو وهو يتطلع في نفس اللقطة إلى ذلك الطفل الذي كانه يوما ما قبل أن يكبر، يحدثه ويتشاجر معه؟

لقطة من فيلم “سحر البورجوازية الخفي”

في فيلم “سحر البورجوازية الخفي” (1972) يصور لويس بونويل رجل شرطة يعذب طالبا من الطلاب الثوريين بأن يضعه فوق أسلاك البيانو ويجلس ويبدأ العزف على أصابع البيانو فتتصل الدائرة الكهربائية المرتبطة بالأسلاك فيتألم الطالب وينتفض جسده بشدة ويصرخ من الألم، وتخرج من بين تلك الأصابع عشرات من حشرات الصراصير بفعل الحرارة الناتجة. فما المقصود من ذلك؟ إنه يرغب في توصيل إحساس ما للمتفرج ولكن بطريقته الخاصة، فلا يأتي أحد ليقول لنا بكل بساطة واستهجان: ما هذا التخريف.. هذا ليس فيلما بديعا كما يدعي النقاد بل عمل مقزز.. وهل من الممكن أن تكون هناك صراصير أصلا تحت أصابع البيانو، وما الرمز الذي ترمز إليه الصراصير هنا، وماذا يريد المخرج  أن يقول لنا من هذا المشهد، وهل يخرج المشهد عن نطاق تصوير عملية تعذيب لطالب فوضوي مشاغب!

كلها أسئلة تعكس فهما ضيقا لجماليات السينما الشعرية التي لا تجيب بالضرورة على الأسئلة ولا تقدم تفسيرات ذهنية واضحة، بل أحاسيس. بالطبع ليس من المطلوب أن نعاقب أصحاب مثل هذا الرأي، فهذا فهمهم، وهذه حدود رؤيتهم.

ما أريد قوله هنا أن السينما الشعرية أي التي تعتمد على قوانين تشبه قوانين الشعر، لا تخضع عادة للمنطق، أو للتفسير المنطقي الدرامي أو النفساني. إنها تمنح المتفرج إحساسا ما قد لا يمكن التعبير عنه بالكلمات أو بالشرح المنطقي، لكنه يدخل، بلاشك، في جو الفيلم، هو جزء من مناخ عام أو نغمة عامة سائدة في الفيلم. ليس بالضرورة أن يكون لكل لقطة او لكل مكون من مكونات اللقطة معنى ما لدى المخرج- المبدع، قد يكون هناك معنى معين وقد لا يكون. لكن ليس من الضروري أن نطالبه بتقديم تفسير لكل ما يضعه على الشاشة في فيلمه. فالفيلم بهذا المعنى، يختلف عن العمل الهندسي المرسوم مسبقا بدقة، بل فيه الكثير من المشاعر، من الأحاسيس، من الرغبة في التعبير قد تأتي مباشرة أثناء تنفيذ المشهد، من وحي المكان الذي يدور فيه التصوير. وقد تأتي لقطات تدخل إلى المشهد تصور بعد انتهاء تصوير المشهد نفسه، عندما يشعر المخرج- المبدع أنه يريدها أن تدعم رؤيته لأنه يراها هكذا.

أعود وأقول إن المسألة برمتها تعتمد على الموهبة، على وجود رؤية للعالم، معاناة، نظرة أعمق للأشياء، رغبة في الوصول إلى الحقيقة (أقدم رغبة لدى الإنسان في بحثه المعذب منذ بدء الخليقة)، التأمل في الحياة، النظر إلى الأشياء بعقلية الفنان وليس المثقف فقط.. بروح الشاعر، وليس بذهنية الصانع أو الحرفي الذي يريد أن يقدم عملا متقنا. المسألة هنا ليست إتقان الصنعة، بل لا علاقة لها بالصنعة. فالتصوير والمونتاج والموسيقى والألوان بل والتمثيل، كلها أدوات لتشكيل الرؤية عند المخرج- المبدع. أما عند المخرج الحرفي فهي أدوات للصنعة. المخرج – المبدع ليس هدفه الأساسي أن يقدم صنعة متقنة، بل ربما لا تكون متقنة تماما في بعض الأحيان. الأمر هنا يتوقف على مفهوم “الصنعة المتقنة”. عندما إستخدم راؤول كوتار الكاميرا الحرة المحمولة على الكتف في فيلم “سيرج الجميل” لكلود شابرول (1958) فبدت المشاهد التي صورها مهتزة، أعتبر هذا عيبا خطيرا في حرفية التصوير. لكنه أصبح فيما بعد، من الجماليات الجديدة للصورة. المهم هنا هو الإحساس لدى المخرج – المبدع، ومصوره أو عينه التي يرى بها وهو يصور لقطة بعد أخرى. والمهم أيضا ما يولده المشهد من إحساس لدى المتفرج. لكن ليس المهم هنا إتقان الصنعة.

* فصل من كتاب “السينما بين الواقع والخيال” لأمير العمري الصادر في نوفمبر 2015 عن دائرة الثقافة بالشارقة.

Visited 84 times, 1 visit(s) today