السوريالية والسينما.. تبادل الأنخاب مع الأشباح (2 من 2)

Print Friendly, PDF & Email

حياة سحرية تتوق إلى الضوء

قيل لنا أن السينما في مرحلتها الطفولية، وأننا نسمع صيحاتها الأولى فحسب. أعترف بأنني لا أفهم السبب. السينما قد بلغت مرحلة متقدمة في الفكر الإنساني، وهي تستفيد من هذا الفكر. لا أشك أنها وسيلة تعبير لم تبلغ بعد درجة الكمال ماديا. هناك طرق عديدة يمكن بها أن تحصل على الرسوخ والنبالة اللتين لا تمتلكهما الآن، يوما ما ربما سيكون لدينا سينما ثلاثية الأبعاد، بل وحتى أفلاما ملونة، لكن هذه مجرد وسائل ثانوية لا تستطيع أن تسهم كثيرا في أساس السينما التي هي لغة، بقدر ما هي موسيقى ورسم وشعر.

في السينما كنت دائما أميّز الطبيعة الخاصة بسر الحركة ومادة الصور. للسينما جانب غامض، غير متوقع، لا نجده في أي شكل فني آخر. حتى الصورة الأكثر جفافا وابتذالا وعادية تتحوّل حين عرضها على الشاشة. أتفه التفاصيل، وأكثر الأشياء ضآلة، تنتحل معنى وحياة تخصها وحدها، مستقلةً عن مدلول الصور نفسها، والفكرة التي تترجمها، والرمز الذي تشكله. ولكونها معزولة، فإن الأشياء تكتسب حياة بذاتها والتي تصبح مستقلة أكثر فأكثر بحيث تحرر الأشياء من معناها المألوف.. إن الورقة والقنينة واليد وغيرها تعيش حياة حيوانية تقريبا وتصرخ من أجل أن تُستغل.

ثم أن هناك تحريفات الكاميرا، واستخدامها المفاجئ للأشياء. ما إن تتلاشى الصورة حتى تعود تلك الأجزاء الخاصة والمستقلة، والتي كانت غائبة عن انتباهنا، إلى الحياة بقوة استثنائية، وتتحرك لتلقى التعبير المطلوب. هناك أيضا ضرب من الإثارة الجسمانية حيث أن تعاقب الصور يتصل مباشرة بالدماغ. إن العقل يتحرك وراء نطاق سلطة التمثيل. هذا النوع من السلطة الفعلية للصور يسبر حتى يومنا احتمالات جديدة في أعماق العقل.

جوهريا، السينما تكشف حياة مستترة وسحرية كاملة، وتجعلنا نتصل بها على نحو مباشر. لكن علينا أن نعرف كيف نتنبأ بهذه الحياة السحرية. ثمة وسائل أفضل من تعاقب الانطباعات المفرطة للتنبؤ بأسرار أعماق الوعي. السينما الفجة، المقبولة كما هي، تفرز القليل من هذا المناخ الشبيه بالغيبوبة، الواعد بمكتشفات معينة. لاستخدامها من أجل سرد قصة ما، يعني تجاهل إحدى أفضل ثرواتها، والإخفاق في تحقيق غايتها الأكثر عمقا.

أعتقد أن السينما تم اختراعها، في المقام الأول، لكي تعبّر عن شؤون العقل والوعي الباطني.

الفكر الواضح ليس كافيا. إنه يحدّد عالما تعرّض للاستهلاك تماما. الواضح هو ما يمكن الوصول إليه مباشرة، لكن ما يمكن الوصول إليه مباشرة هو مجرد بشرة الحياة. نحن سرعان ما ندرك بأن هذه الحياة، المألوفة على نحو مفرط، التي فقدت كل رموزها، ليست الحياة بكاملها. إن يومنا هذا هو زمن السحرة والقديسين، زمن أفضل مما كان. إن مادةً غير مدركة بالحس أو العقل تتشكّل وتتوق إلى الضوء.. والسينما تقرّبنا أكثر من هذه المادة أو هذا الجوهر.

السينما لا توجد إذا لم تهتم بتأويل الأحلام أو ما يتصل بمملكة الأحلام في الحياة الواعية. ليس ثمة اختلاف بين السينما والمسرح. لكن السينما لغة مباشرة وسريعة، لا تحتاج إلى منطق بليد ومضجر لكي تحيا وتزدهر. السينما يجب أن تقترب أكثر فأكثر من الخيال، الخيال الذي يبدو أكثر حقيقية، وإلا فإنها لا توجد، وسوف تبلغ النهاية ذاتها التي وصل إليها الرسم.

سوف لن تكون هناك سينما تصور الحياة وأخرى تصوّر وظيفة العقل. لأن الحياة، أو ما تسمى كذلك، تصبح غير منفصلة عن العقل. ثمة حقل عميق ينزع إلى الظهور على السطح، والسينما أكثر من أي فن آخر، قادرة على تفسير هذا الحقل، ذلك لأن النظام الأخرق والوضوح المعتاد هما من أعداء السينما.

                                                         أنتونان أرتو – 1930

حلبة مظلمة لحب مطلق

مالومبرا، تشنج الجمال، وهن الذاكرة، لون الندم، سحر الحياة، اعتدالية الحركة، ندرة الحب، جنون الحواس، جمال الجنون، حزن البحيرات، سطوة القمر، حياة ما بعد الموت، نبالة الفجور، اشتعال لمحةٍ، ذاكرة الجنون، مستقبل الماضي، سرنمة الفكر، موت المنظر، فعل في البُعد، انزلاق النوم، الحلم الحي، غطرسة التدنيس، فجور الهستيريا، رفض العيش، جمال الهستيريا، جمال الجمال: كل هذا في مالومبرا.

أبداً لم تكن مشقة رفع الثورة إلى مرتبة الشعر مذهلة إلى هذا الحد، مغرية إلى هذا الحد.

أبدا لم يكن جلياً في نظرنا أن في الجمال المشع لامرأة منذورة للحب تتركّز أكثر لحظات العالم الجدلية إقلاقا.

أبداً لم يتراءى لنا أن الشعاع الذي يمرّ عبر الكائنات هو أكثر هشاشة، أسرع زوالا، منه حين ينسلّ عبر تلك الأجزاء الصغيرة من مخرّمات، حركات، نظرات.. والتي فيها تجيء القوة الفعلية التي تنشّط العالم لتعقد سلامها في تهكم العاطفة.

هل تذكر تلك الأمسية، يا ريناتو؟ البحيرة، المنارات، الأصوات البعيدة.. غريب ما يحدث لي. أنا لا أنتمي إلى هذا العالم. وأنت لم تفهمني، أنت لا تفهمني لأنك لا تعرف. اليوم سوف أغادر إلى مصير مجهول. وداعا، أيها القارئ المجهول.

عبور، للحظة خاطفة، أوشك أن يعمي العين.. شيء كعقرب عصبي. الظل عبَر الضوء النهاري الكئيب مثل جرح، مثل خراب، مثل شلال ناعس. الهواء كان متخما بحيوانات رهيبة. والبحار البنفسجية البعيدة، وراء التخوم الآمنة للكرة الأرضية، كانت تؤرجح أطرافها التي تسلب اللبّ.

جنون التواجد في مكانين، وفي وقت واحد، كان قد تحطم فوراً في ذلك العصر المبشّر بانتصارات الخيال. العقل كان مكبلا بالسلاسل.

عشاء على مائدة مستديرة، قتل بلا جرح، شلال فاتن، المضجع والنيلوفر، رحم العاصفة، غيوم في كل مكان، منتزهات لا حد لها، أحاديث مؤجلة.

المشاهد التي تصوّر مالومبرا وهي تمنح نفسها لحبيبها في الليل عند حافة البحيرة، أو تعبر الماء مشحونة ببرود عدائي تجاه الرجل الذي ينتظرها، أو تستسلم إلى هستيريا رائقة تحت الريح الرمادية التي تطفئ المشاعل.. هذه المشاهد انتصار لما نرغب أن نسميه الحب المطلق.

الحرق والبحث عن الاحتراق

شخص ما، يده ملطخة بالدم، قد ألقى بنفسه في ذلك الامتقاع الشديد.

هل تذكرين كل شيء؟ كل شيء. أنا لا أذكر شيئا لكنني أعرف أن تلك اللحظة قد حانت يا سيسيلي. أي عالم هذا الذي تعيشين فيه؟ إني أختنق. البحيرة لا يمكن رؤيتها إلا من الجناح الأيسر للقصر.

مالومبرا: استنطاق عند البحيرة، حركات هشة في العتمة، ألعاب أشبه باستفزازات عرَضية، اشمئزاز من كل ما هو ليس حباً، لقاء مفاجئ في حاضر الماضي.

إنها تتمدّد على محفّة، عاجزة عن الحركة أو الكلام. ثمة جياد ممغنطة تثب فوق الحواجز، بحيرات تمدّ أعناقها الشفافة، وعلى مقربة كانت المرأة تجسّ نيراننا، حمّى أعصابنا، بأطراف أهدابها: النيران كانت تدخل عينيها وتغادر دموعها.

سيسيليا، آه سيسيليا، ها قد جئت مع حبيبي لأراك تموتين، لأراك تموتين، أراك تموتين. ثمة الكثير من العتمة في روحي، الكثير من الكآبة. أنا على شفا التحوّل إلى حجر، أبرد من الحجر.

إلى جانب عشق القلب، عشق الحواس، عشق القريب.. هناك أيضا ذلك النوع من العشق الذي فيه كل شيء ينكفئ ويتقهقر. الحياة موجة العاطفة التي لا تُقهر. بعد ناديا ودورا وماتيلدا، مالومبرا بدورها تلج الأقاليم السرمدية حيث الرغبة والشعر والصدفة تجدّد السفر من الحياة إلى حياة جدلية تماما، محسوسة على نحو حتمي.

رينيه كلير

الكبح المبهم ينبغي أن يعلن عن عودته قبل أن يسدل الستار: لكن الإلحاد الذي لا يتزعزع، الذي يرفعه رعب العيش الهستيري، يرفض الفكرة الغيبية (التي تحاول عبثا التسلل إلى العاطفة) والتي تقلّصت سابقا إلى غبار.

الحب النقي، ذو الجوهر المطلق، هو الشعور الذي يصبح غريبا على نفسه. إنه يمكث ليُظهر إلى أي مدى خاصية الذوبان في الآخر تأخذ شكلا محددا، وعلى المرء أن يتأمله فحسب في اقترانه بذلك الآخر.

نبضها واهن، أظافرها زرقاء، هي عادة تضطجع على ظهرها بعينين مغمضتين. حين تبزغ من سباتها وتفتح ثانية عينيها، فإن حيادها، لا مبالاتها الماكرة، تصعق كل ما حولها.

تحديقة هذه المرأة – التي تقمصاتها الفذّة ما تزال تقودنا نحو الجرف المخملي – تختم الحب بنداء راسخ.

أعصاب قوية، قطط مضيئة، ألم شمسي، صرخات، أذرع ملتوية، خطوة مترنحة على موجات من بلّور، تمتمة متفجّرة، بكاء موجع، تنهيدات عميقة، غضب سحري، رعب العيش، صيحات خشنة، شَعر ملطخ بالدم، ملابس ممزقة بشفرة حادة، معرض الانتحار، سرعة النظرات المجنونة، احتيال متغطرس، فضيحة قاتلة، صرخات ضالة، تشنجات شهوانية.. كل هذا، وشحوب الصمت أيضا، سوف لن يكون كافيا أبدا للتعبير عن التحدي العنيد لكل ما هو ليس منبثقا من سحر الحب الأبدي.

                        آه مالومبرا.

                                      الجماعة السوريالية في رومانيا

                                                               بوخارست 1947

هذا النص مستوحى من الفيلم السوريالي، على نحو غير مقصود، “مالومبرا”.. إخراج الإيطالي ماريو سولداتي، سنة 1942.

كما لو في غابة

آنذاك رأينا في السينما مادة غنائية ببساطة تتوسل لأن تُجذب كلية،بعون من الصدفة. أعتقد أن ما أثار اهتمامنا في السينما، أكثر من أي شيء آخر، هو قدرتها الهائلة على إفقاد المرء حس المكان والزمان.

هذا الإفقاد يحدث على مستويات عديدة. العجيب، الذي إلى جانبه فضائل فيلم معيّن لا تؤخذ في الاعتبار إلا بدرجة قليلة، يكمن في استعداد الوافد الأول إلى الصالة لأن يفصل نفسه عن حياته الخاصة، إذا رغب في ذلك، على الأقل في البلدة الكبيرة، حالما يجتاز أحد الأبواب التي تشرف على الظلمة. من لحظة جلوسه في الصالة وحتى لحظة انزلاقه نحو القصة الخيالية التي تحدث أمام عينيه، يجتاز النقطة الحرجة الآسرة وغير المدركة بالحس كتلك التي توحّد اليقظة والنوم.

كيف يمكن لهذا المتفرج المتوحّد أن يضيع وسط غرباء بلا وجوه، والذي في الحال يستغرق معهم في مغامرة لا تخصه ولا تخصهم؟ أي إشعاع، أية موجات تتيح هذا الانسجام؟

كاترين دينيف في لقطة من فيلم “حسناء النهار” لبونويل

المرء يرتاد السينما بالطريقة نفسها التي يرتاد بها شخص الكنيسة، واعتقد أن، من زاوية معينة، وباستقلالية تامة عما يدور على الشاشة، هناك – في السينما – يتم الاحتفاء بالطقوس العصرية.

في ما يتعلق بهذا الطقس، ليس ثمة شك بأن الحب والرغبة من الإسهامات الرئيسية فيها.. يقول رينيه كلير: “كل أسبوع، ولمائة وخمسين مليونا من البشر، تتكلم السينما عن الحب (..) وقد نتساءل عما إذا كانت صور الحب تلك لا تعتبر إحدى المفاتن الأساسية للسينما، وإحدى أسرار السحر الذي تمارسه على الجماهير”.

الغريب في الأمر أن كلير ليس واثقا تماما من هذه الحقيقة. ما هو أكثر تميّزا وخصوصية من بين فعاليات الكاميرا، قدرتها على جعل قوى الحب تبدو مادية ومدركة بالحواس. هذه القوى، رغم كل شيء، تظل ضعيفة أو عاجزة في الكتب، ذلك لأنها ببساطة لا تستطيع أن تصور إغواء أو حزن لمحةٍ ما أو أحاسيس معينة من الدوار الذي لا يقدّر بثمن.

عجز الفنون التشكيلية في هذا الحقل بديهي (يتراءى لنا أن الرسام لم يخوّل له بأن يعرض علينا صورة مشعة للقبلة). السينما وحيدة في نشر وتعزيز إمبراطوريتها هناك.. هذا وحده سيكون كافياً لتكريسها.

السينما هي أول جسر مفتوح يصل النهار بالليل، والذي يحطم التناقضات.

قلت ذات مرّة: “إننا نعرف الآن بأن الشعر يجب أن يقودنا إلى مكان ما”. السينما لديها كل ما تحتاجه لكي تشترك في تحقيق ذلك الهدف، لكن عندما نتأمل فعاليتها الخاضعة للمراقبة والتوجيه، ندرك بأنها لم تتحرك خطوة واحدة في ذلك الاتجاه.

                                                   أندريه بروتون – 1951

صور تمارس الحب

حين أشاهد فيلماً فإنني أمارس عليه، بشكل محتوم، فعل الإرادة، بالتالي أحوّله، ومن عناصره المكشوفة أجعله “فيلمي الخاص”. إني أستل منه شظايا من المعرفة وأرى، على نحو أفضل، داخل نفسي.

من خلال التأويل يمكن أن تولد أفلام جديدة تجعل غموضها مرئيا للجميع، وهذا قد يهيئ الأفلام لتأويل إضافي. التجربة ستكون مثيرة. لو عهدنا بفيلم ما إلى عدد من الأفراد فإن كلا منهم، فيما يشاهده من زاوية مختلفة، سوف يحوّله بحيث يؤكد “ما يراه”. هذه الرؤية الجديدة سوف تُعهد إلى شخص آخر، وهكذا. هذه الصورة المحرّرة سوف تملأ العالم وفي النهاية تدمّر كل التناقضات.

تحويل فيلم ما يمكن تحقيقه بطرق مختلفة. أخبرني مان راي بأنه إذا شعر بضجر أثناء مشاهدته الفيلم فإنه يقوم بتحويله تلقائيا عن طريق فتح العينين وإغماضهما على نحو سريع، أو بتحريك أصابعه أمام عينيه، أو بشبك الأصابع بطريقة متقاطعة، أو بوضع قماش شفاف إلى حدٍ ما على وجهه. بهذه الوسائل، وبعشرات غيرها،  الشخصيات على الشاشة، التي تفتقر إلى الغموض، تكتسب بعداً إضافيا، والتشوش الآلي لوجودها يصبح منبّها قويا وفعالا للمخيلة.

من جهتي، غالبا ما يحدث لي أثناء مشاهدتي فيلما مثيرا للاستياء أن أستحضر مشاهد من فيلم آخر، أو رواية ما، ثم أقوم متعمدا بمزج الشخصيات والعلاقات معا. النتيجة هي دائما رائعة واستثنائية، ففي تقابل غير متوقع لعنصرين متناقضين تتخلق صور جديدة ورائعة. ينبغي القول أن ظلمة صالة السينما، المناخ الفريد بجلاء لأفراد من ظلال يتحدثون ويعيشون لأجل أناس جامدين من لحم ودم، تخلق محيطا مؤاتيا بشكل خاص لهذا النوع من تخطي المشهد السينمائي، ومن ثم الحياة نفسها.

نقاد الواقع الظاهر والمدرَك هم صحفيون. ليس مجديا التمعن في هذه المهنة (..) نقاد الواقع الكامن والمستتر هم شعراء (بالتالي هم أكثر من مجرد نقاد). بتخطي المرحلة الصحفية، يجب على نقاد السينما أن يصبحوا شعراء. المظهر الجليّ للأفلام نادراً ما يكون فرصة مناسبة لتمجيد الروح. إنه محتواها الكامن الذي لابد من التنقيب عنه. دعونا نمعن النظر بأعين جديدة في أكثر الأفلام شعبية ورواجا لنكتشف فيها ثروة غير متوقعة.

النوع الشعري، شديد الاهتياج، من النقد، والذي يُدخل في اعتباره كل ما هو غير مرئي، كل ما هو خفي وغامض في الفيلم، هو النوع الوحيد الذي فيه الأساسي والضروري لابد أن يطفو على السطح. يجب على الناقد أن يبدأ بانطباعه الذاتي العنيف، الصدمة التي أحدثتها المجابهة بين كينونة الفيلم وكينونة الذات، من أجل الكشف عن جماله المخبوء وجعله محسوسا.

الجانب الأول من هذه العملية، الشكل السوريالي – الذاتي، ذو أهمية بالغة، ليس فقط كفعل نقدي بل أيضا كوسيلة لمعرفة ذاتية. في أحوال كثيرة، حين أغادر الصالة، بعد أن فجّر الفيلم في داخلي شيئا ما، أتجه إلى أقرب مقهى أصادفه وأجلس أمام الطاولة ثم أدوّن، آلياً، انطباعاتي. دونما استقصاء أفكار أو تسلسل منطقي، أملأ الصفحة تلو الصفحة. علاقات غريبة إلى أبعد حد تتأسس بيننا.. أنا والفيلم. تفسيرات فجائية ومبهرة تعرض نفسها، تفاصيل دقيقة تتبدى بشأن معضلات تتخطى الفيلم وحياتي المكشوفة أيضا. منابع مجهولة للإضاءة تلقي ضوءا على أقاليم معتمة ومبهمة. المعرفة، الشكل الأسمى لكل فعالية، تبدو في حوزتنا وفي متناول إدراكنا.

إني أعتبر هذه الممارسة ذات أهمية لا تقل عن أهمية تسجيل الأحلام عند اليقظة. في حالته الفجة، غير المصقولة، يمكن أن يكون لهذا النقد قيمة نسبية فقط لجمهور يحتاج إلى التنوير بشأن الفيلم لا الانطباعات الشخصية للناقد، لكن نصوصا كهذه سوف تكون ذات أهمية بالغة بالنسبة للفهم المتقدم عند أفراد معينين يثيرون اهتمامنا بوجه خاص.

أعتقد أن النقد الحقيقي، الذي يجد المتعة والتشويق في المظهر السرّي للفيلم، ينبغي أن يبدأ بالنقد الذاتي والآلي. ذلك النص سيكون المرشد الضروري لإعطاء الانطباعات صفة الموضوعية، ولتحليل الفيلم من جميع جوانبه.

السوريالية قبضت على المواد والأحداث لتنتزع الخصوبة والضوء منها. الكلمات تحررت من قيودها، إنها “تمارس الحب”. ثمة الكثير من العمل الذي ينبغي القيام به من أجل الحقيقة السينمائية.. فالصور أيضا تستطيع أن تمارس الحب.

                                                                     أدو  كيرو

عبور الجسر

طرح رينيه كلير اعتراضا هاما في مقالة بعنوان “السوريالية والسينما” (1925) واضعا إمكانية التعبير التلقائي (الآلي) على الشاشة في موضع الشك: “ما يهمني في السوريالية ما تكشفه لي من قيم فنية نقية. إن ترجمة المفهوم السوريالي الأنقى إلى صور يعني إخضاعه إلى التقنية السينمائية، هذا قد يؤدي إلى فقدان تلك (الآلية النفسية المحضة) قسطا كبيرا من نقائها (..) وحتى إذا تعذّر على السينما أن تكون وسيلة تعبير كاملة بالنسبة للسوريالية، فهي تبقى، مع ذلك، حقلاً لا يضاهى للفاعلية السوريالية بالنسبة لذهن المتفرج”.

قد يبدو غريبا أن يصدر هذا التحفظ من الرجل الذي حقق فيلم “استراحة”. شخصيا أعتقد أن المرء لا يستطيع أن يؤيد هذا الاعتراف دون الارتياب في الإلهام الجزئي الذي يتحرك في كل الفنون الأخرى، بخاصة الرسم. صحيح أن الشعر وحده، الشفوي أو المكتوب، قد برهن – طوال قرون وعلى نحو واسع – امتيازه في تزاوج كل الانحرافات والحركات اللاواعية للقلب والعقل بشكل مباشر، ذلك لأن الوسيط الذي يستخدمه – الكلمات – هو، من بين كل التقنيات، الوسيط الذي يبدو، على نحو حميمي أكثر، جزءا من ذواتنا. لكن “الآلية النفسية المحضة”، المحددة من قبل السورياليين، لا تعمل في المجرد أو الفراغ، بل يمكن أن تشرع في الحركة عن طريق أية أداة تصلح لتدوين ما تمليه من كلمات أو صور. السوريالية كانت دائما تعترف بهذا التفاعل بين الفكر الواعي واللاواعي والأداة. في البيان السوريالي الأول هناك تعليمات بشأن تقنية الكتابة الآلية، وفي ما بعد، كانت هناك الأدوات المساعدة للإلهام عند ماكس إرنست.

يبقى لنا أن نتأكد من أن الكاميرا كأداة هي مرضية مثلما اللغة أو الفرشاة.

خلال سنواتها الخمس والعشرين الأولى، السينما لم تكن مؤهلة تماما للواقعية (بمعنى وهْم الواقع) إلى حد أن أي تمثيل صادق للحلم هو مستحيل إراديا كما هو النسخ الأمين للعالم الظاهري.

من جانب آخر، الفيلم كثيرا ما يصل إلى المحاكاة الإلزامية للحلم. ظلمة الصالة، معادل لإغماضة الأجفان على شبكية العين، وبالنسبة للفكر، معادل لظلمة اللاوعي. الحشد الذي يحيط بك ويعزلك. الموسيقى المخدّرة على نحو مبهج. تصلّب العنق الضروري لتوجيه تحديقة المرء.. كل هذا يثير حالة شبيهة بالنوم الجزئي.

على الشاشة حروف بيضاء على خلفية سوداء، خاصيتها النعاسية واضحة. في الأخير، حين تُضاء الشاشة المبهرة، الشبيهة بالنافذة، التقنية الفعلية للفيلم تستحضر الحلم أكثر من اليقظة. الصور تظهر وتختفي، تتداخل، الرؤية تبدأ وتنتهي في الحدقة، الأسرار تُفشى من خلال ثقب المفتاح، الصورة الذهنية لثقب المفتاح. ترتيب صور الشاشة في الوقت المناسب هو مشابه تماما للترتيب الذي يمكن أن يبتكره الفكر أو الحلم. لا النظام الكرونولوجي ولا القيم النسبية للزمن هي حقيقية على نحو مخالف للمسرح. الفيلم مثل الفكر، مثل الحلم، يختار بعض الحركات، يؤجلها أو يوسعها، يقصي حركات أخرى، يجتاز ساعات وعصورا وكيلومترات عديدة في ثوان قليلة، يسرع، يبطئ، يتوقف، يعود إلى الوراء. من المستحيل تخيّل مرآة أصدق للفاعلية الذهنية.

على الرغم من رغبات غالبية صانعي الأفلام، فإن السينما هي الشكل الأقل واقعية من بين كل الفنون، حتى عندما ينجح النسخ الفوتوغرافي في خلق الوهم بالواقع المادي لكل عنصر منفصل.

السينما أصبحت الأداة الأفضل لترجمة الحلم. في كل مرحلة، من معالجة الأساطير الغابرة بموضوعية إلى خلق أساطير جديدة، من حلم اليقظة أو النوم الجزئي إلى الحلم الليلي، من هلوسات أحدثها الجوع أو الإرهاق أو المخدرات أو الاختلال العقلي إلى الأشكال الأكثر تعقيدا أو درامية للمدهش والخيالي.. هذه الترجمة هي الحقل الحقيقي للسينما.

                                                        جاك برونيو – 1954

 ……………

* هذه المختارات من كتابات عدد من السورياليين في السينما مترجمة عن كتاب “الظل وظله” The Shadow and its Shadow، تحرير: بول هامون، منشورات معهد الفيلم البريطاني، 1978.

* العناوين من وضع المترجم (أمين صالح)

Visited 29 times, 1 visit(s) today