عناصر المونتاج السينمائى: الزماني والمكاني والإيقاعي

لقطة من فيلم "الرابطة الفرنسية" لقطة من فيلم "الرابطة الفرنسية"
Print Friendly, PDF & Email

محاضرة: تونى ماك كيبين

ترجمة: ممدوح شلبى 

منظرو الدراسات السينمائية مثل ديفيد بوردويل وكرستين تومسون فى كتاب (فن السينما) فرقوا بين اربعة عناصر فى المونتاج السينمائى، هم العنصرالمكانى والعنصر الزمانى والعنصر الايقاعى والعنصرالبصرى.وسوف نناقش فى هذه المحاضرة هذه العناصر الاربعة وسأتحدث ايضا عن علاقتها بالتقنيات المونتاجية التى تُستخدم فى السينما، مثل المونتاج المتوازى ومونتاج التتابع ولقطة رد الفعل والقطع المونتاجى القافز واللقطة واللقطة العكسية ( الكونتر)، وكذلك ما عُرف فى المونتاج باسم تأثير كوليشوف.

لكن دعونا اولا نشرح قليلا كل عنصر من هذه العناصر الأربعة على حدة، فالعنصران الأولان واضحان من إسميهما، فعنصر المونتاج المكانى يتعلق بالكيفية التى تمنتج فيها الأفلام على اساس المساحة، بينما المونتاج الزمانى يتعلق بالكيفية التى تمنتج فيها الافلام على أساس الزمن، اما العنصر الايقاعى فهو الطريقة التى تمنتج بها اللقطات معا لخلق ايقاع سلس او خشن ، وأخيرا فإن عنصر المونتاج البصرى هو كيف تتوافق الصور أو لا تتوافق من الناحية المرئية عندما نقطع من لقطة الى أخرى.

واذا استدعينا العنصر المكانى في أى فيلم سترد الى اذهاننا أمثلة عظيمة للمونتاج المكانى؟ وهنا سنجد ثلاثة افلام هي “بوليت” و”المغنية” و”الرابطة الفرنسية”، وهذه الأفلام الثلاثة تشترك معا فى لقطات المطاردة، وعندما نقول أنها افلام تحتوى على لقطات مطاردة، فاننا نتحدث اذن عن المونتاج المكانى الذى مُنتجت به هذه الأفلام.

فى فيلم “الرابطة الفرنسية”- والكثيرون يعتبرونه أعظم أفلام المطاردة فى السينما بسبب تجميع المشهد بطريقة منطقية وكذلك بسبب الوضوح فى تنفيذه- سنجد أنه يستخدم بعبقرية ما يُسمى بالمونتاج المتوازى ( والمعروف ايضا باسم المونتاج المتقاطع) لكى يجعل المُشاهد واعيا بالتطورات فى المشهد، وسواء كانت اللقطة للشرطى بوب دويل الذى يقود باندفاع ويتطلع أعلى القطار ليرى القناص الذى يحاول القبض عليه، أو سواء كانت اللقطة من وجهة نظر القطار اثناء اندفاعه واصطدامه به، فالفيلم يضعنا دائما فى أفضل حالة مشاهدة لنفهم بالضبط ما يدور فى المشهد.

ويعتبر المونتاج المكانى هو الأكثر خلوا من التعقيدات السينمائية، فالقواعد السينمائية الرئيسية تتكون من لقطة تأسيسية ولقطة متوسطة ولقطة قريبة، وهذه القواعد هى محور الكلاسيكيات الهوليوودية – حتى عندما يحاول المخرج ان يتلاعب بهذه القواعد-  ففى فيلم “كازابلانكا” على سبيل المثال، نحن نعرف فى أى مكان من باريس يتواجد (ريك والسا) لأن المخرج يُؤسس المكان من خلال ظل النافذة المنعكس على الأرضية، وعندئذ وفى نفس اللقطة نرى ريك مستندا على البار، وكانت العادة أن نبدأ بلقطة من خارج البار ثم تتبعها لقطة داخلية للبار وبعد ذلك اللقطة المقربة.  

أهمية كل من المثالين – فيلم الرابطة الفرنسية وكازابلانكا – أنهما يوضحان بجلاء النظام المكانى للمشهد، وغالبا فالاختلاف بين مخرج جيد ومخرج عظيم فى السينما التقليدية يتحدد من خلال تأسيسه للمكان دون ان يتوه منه المتفرج.

من فيلم “كازابلانكا”

الزمن والمونتاج

ولكن ماذا عن الزمن وعلاقته بالمونتاج؟ غالبا هذا يقع تحت عنوان التتابع السردى حيث يرتب المخرج القصة زمنيا لتقديمها دون لبس، وأحيانا نسمى هذا (سرد القصة بتتابع منطقى)، لكن الكثير من الأفلام تمزج الأزمنة من خلال التجميع المونتاجى.

فأفلام مثل “المواطن كين” و” الثور الهائج” و “توقيت سيئ” و “الشقة” و “المشبوهون المعتادون” وكثير من افلام الابيض والاسود، تقدم الشخصية او الموقف باللعب على عنصر الزمن، ففيلم “الثور الهائج” على سبيل المثال، يبدأ بشخصية جاك لاموتا فى سن الشيخوخة وهو يُلقى النكات ويقدم فقرات الإضحاك فى الكازينو الذى يملكه، وهذا يحدث فى عام 1964، ثم ينتقل الفيلم بعد ذلك الى لاموتا في الحلبة عام 1941، والمتفرج الذى تقولب على السرد بتتابع منطقى يمكن أن يتفاجأ،  فمن المفترض أن يجد تقدما فى الزمن فى المشهد التالى، لكنه بدلا من ذلك يرى ما حدث منذ عدة سنوات.

وهنالك العديد من الأساليب التى يستطيع من خلالها المخرجون ان يأخذونا الى أزمنة اخرى دون ان يتفكك منهم السرد، وفيلم “الثور الهائج” ينفذ ذلك بطريقة مباشرة، فثمة عنوان يقول لنا اننا فى عام 1964، وعنوان آخر يقول اننا الآن فى عام 1941.

ومع المخرجين الأكثر تطرفا فثمة العديد من الأساليب لتوضيح هذا التغيير الزمنى، ففى فيلم “الممتثل” لبرناردو برتولوتشى على سبيل المثال، يحدث الوعى بالزمن لنا فقط عندما يتغير المشهد فنستطيع ان نقول متى دار الحدث بدقة سواء كان فلاش باك او تقدما فى الزمن.

وفى واحد من أكثر الافلام تطرفا وهو “العام الماضى فى مارينباد” لا نستطيع ان نحدد بدقة فى اى زمن نحن، هلى نحن فى السنة الماضية فى مارينباد أم نحن فى هذه السنة؟ وهذا النوع من تقديم المعلومة الزمنية – والتى توفرها أفلام امريكية عظيمة مثل الثور الهائج والمواطن كين – كانت تحل المشكلة للجمهور، اما فى فيلم “العام الماضى فى مارينباد” فيجب على المتفرج أن يُركز فكره حتى لا ينفصل عن تتابع القصة.

المناطق الزمنية

ويقول مارتن اوتى فى مقالة بعنوان “المناطق الزمنية” منشورة فى “أفلام الستينيات” ان (هذا التلاعب المركب بالأزمنة المختلفة- والذى لم يقتصر على التراجع بالزمن او التقدم فبه، بل شملت التحرك فى كل الازمنة – هو ما جعل فيلم “العام الماضي فى مارينباد” يحظى بمثل هذه الشهرة والتأثير.

ان العنصر المكانى والعنصر الزمانى هما الأكثر أهمية من العناصر الاربعة التى اشرت اليها، لكن العنصر الإيقاعى فى بعض مشاهد افلام المخرج والمونتير السوفيتى سيرجى أيزنشتين يبدو أكثر اهمية من الزمان والمكان.

ففى المشهد الشهير لسلالم الاوديسا من فيلم “المدرعة بوتمكين” لاحظ النقاد كيف اطال الفيلم زمن الحدث مما خلق الايقاع: ومما لا شك فيه ان ثمة قصة تُحكى فى هذا المشهد حيث يقوم جنود القوزاق بطرح الرجال والنساء والاطفال أرضا، لكن الاولوية لا تنبع من منطقية التتابع كما فى فيلم “الرابطة الفرنسية” ولكن الايقاع يلعب دورا فى اقناعنا بوحشية الحكومة الروسية، وهذا اكثر اهمية من الدرامية المكانية، ومن المعروف ان الانسان يستطيع نزول سلالم الاويسا فى دقيقتين، اما فى فيلم سيرجى أيزنشتين فنزول هذه السلالم يستغرق وقتا طويلا جدا.

لم يتبق لنا سوى الحديث عن عنصر المونتاج البصرى وهو الأقل أهمية من العناصر الثلاثة الاولى، لكننا نحتاج فقط إلى أن نرى فيلما يقطع بين لقطتين متنافرتين مثل – القطع من لقطة مظلمة الى لقطة مضيئة – لنعرف ما نعنيه بعدم التوافق، فهذا القطع سيجعلنا نُغمض عيوننا، وهذا يوضح أهمية التوافق البصرى بين لقطتين، ومن ثم فالمخرجون من الناحية العملية يولون اهمية لهذا العنصر، ويضعون لقطات تترابط بصريا، لكنها تأتى فى المرتبة الثانية اذا كانت الضرورة تحتم استخدام لقطات تتوافق مكانيا وزمانيا.

لقطة من فيلم “الثور الهائج” لسكورسيزي

ويقول بوردويل انه فى بعض افلام المخرج اليابانى ياسوجيرو أوز لا يتحقق التوافق البصرى دائما بين لقطة واللقطة التى تليها، لكن هذا قليل الحدوث فى مجمل أفلامه.

قلت فى مقدمة هذه المحاضرة اننى سأذكر عدة تقنيات مونتاجية ذات صلة ولم اتحدث عنها حتى الآن، ان اثنتين من هذه التقنيات شديدة التعقيد لكن التقنيات الأخرى اكثر بساطة، وبالطبع فلقطة رد الفعل واللقطة العكسي من اكثر التقنيات التى يحاول بعض المخرجين ان يتجنبوا استخدامهما.

فجان لوك جودار على سبيل المثال يطبق لقطة رد الفعل بصورة مباشرة فى فيلم “مجموعة منفصلة” ويتجنب استخدام اللقطة الكونتر فى فيلم “الاحتقار”، ولذلك فمن الشائع فى الافلام اننا نرى لقطة رد الفعل وهى تُوظف لجعل المشاهد يستجيب الى الحدث: مثل لقطة لنيزك يقترب من الأرض، او فتاه تنظر الى رجلين يتحاربان للفوز بها.

ويسخر جودار من لقطة رد الفعل فى احد مشاهد فيلم “مجموعة منفصلة” حيث نرى الممثلة أنا كارينا تبالغ فى عواطفها فى اشارة الى عدم أهمية اللقطة، وفى فيلم “الاحتقار” واثناء نقاش بين الممثل ميشيل بيكولى والممثلة بريجيت باردو، وبدلا من القطع من الشخصية التى تتكلم ثم العودة مرة أخرى الى الشخصية الثانية، يحرك جودار الكاميرا جانبيا ببطء من شخصية الى أخرى، فهو لا يُشكك فقط فى أسلوب لقطة رد الفعل ولكنه يعبر أيضا عن الاحباط الذى طال فى العلاقة بين الشخصيتين: ان تحريك الكاميرا جانبيا ببطء من شخص لآخر يؤكد على احتقار الفيلم للشخصيتين، لكن أكبر تمرد على النظرية المونتاجية نفذه جودار فى فيلمه المثير للجدل “على آخر نفس” A bout de Souffle– وبشكل عام فجودار وقبل ان يقطع من لقطة الى أخرى فانه يراعى التوفق بين اللقطتين.

اذا عرضت شخصية تصعد السلالم، فأنت تحتاج لأن تعرض لقطات انتقالية لتخلق احساسا سلسا بالزمن والمكان، واذا كان حبيب يتحدث الى حبيبته فى سيارة، فيجب عليك ان تعود باللقطة الى الحبيب، فأنت لا تستطيع أن تعرض الحبيبة وهى تتحدث فى نفس اللحظة وعندئذ فى اللقطة التالية تبدو منشغلة بالاستماع، لانك اذا حذفت لقطة للحبيب – والذى نسميه استبعاد – فالأمر سيبدو كما لو أنه قفزة فى الفراغ-  تلك هى اللقطة القافزة jump cut.

التأثير السوفيتي

تأثر جودار بالمونتاج السوفيتى، وكتب فى مجلة “كراسات السينما” عن هذا الأمر معارضا أندريه بازان الذى كان يتبنى اللقطة- المشهد التى لا يتم فيها أى نوع من القطع، فجودار أولى اهمية الى المونتاج، وهو يؤمن بحرية الصياغة الفنية، وكان ليف كوليشوف هو اكثر من تحدثوا عن حرية الصياغة الممنوحة للمخرج خلال عملية المونتاج وتجميع اللقطات.

فى العشرينيات أعلا المخرجون السوفييت مثل سيرجى ايزنشتين وبودفكين وآخرون من أهمية المونتاج، واظهر كوليشوف فى سلسلة من المقالات ان القطع من لقطة محايدة لوجه ممثل الى صور مختلفة حيث يبدو ان الممثل ينظر اليها بنوع من رد الفعل يجعل المشاهد يتخيل أن وجه الممثل يتغير كاستجابة منه للصورة، وهذه الصور المختلفة كانت لاناء حساء ولامرأة ميتة ولطفل .. الى آخره، وكانت هذه الصور فى نفس المسافة من الممثل، فلا أهمية اذا كانت اللقطة الكونتر للبيت الأبيض أو لبرج ايفل.

هذه هى حرية الصياغة بالنسبة لبعض المخرجين، وبالنسبة لمخرجين آخرين فإنهم يرون ذلك نوعا من النضوب الابداعى، وفى اطار نفس الموضوح يقترح اندريه تاركوفسكى – فى كتاب “النحت فى الزمن” ان (بناء الصورة يصبح عملية نهائية فى حد ذاتها، وان المؤلف يشرع فى الاعتداء على المشاهدين عندما يقدم لهم تفسيره لما يحدث) ومن هنا فهو أكثر ميلا الى اللقطة -المشهد من مونتاج اللقطات، وعلى أي حال، فأهم سؤال نريد أن نسأله اليوم برغم ذلك، هو ماذا يخدم المونتاج، وهل من الصواب أم من الخطأ ان نستخدمه بديلا عن اللقطة المشهد. 

Visited 146 times, 1 visit(s) today