نظرية سينما المؤلف ودور مجلة “كراسات السينما”

Print Friendly, PDF & Email

محاضرة: تونى ماك كيبين 

ترجمة: ممدوح شلبى 

هدف هذه المحاضرة ان نلقى الضوء على المراحل الثلاث التى مرت بها نظرية المؤلف، ونستشهد بشكل اساسى بالمجلة الفرنسية العظيمة “كراسات السينما”والتى يعود لها الفضل كأول مجلة ناقشت افكار المخرج المؤلف.  

ظهرت المرحلة الأولى لنظرية المؤلف فى الخمسينيات من خلال “كراسات السينما “فيما أصطلح على تسميته آنذاك بسياسة سينما المؤلف  politique des auteurs ، حيث يترقى المخرجون ليصيروا فى مكانة المؤلفين والفنانين الذين يتمتعون بالرؤية الفنية، وطبقا لرأى المتحمسين لسياسة المؤلف أمثال فرنسوا تريفو وجاك ريفيت، فهولاء المخرجون المؤلفين عكس المخرجين الآخرين الذين قد يكونوا حرفيين ولكنهم ليسوا مُلهمين. 

ان جزءا من نقاشاتهم يحتوى على نوع من البلبلة بخصوص الموقف من مخرجين أمريكيين معينين لأنهم يعملون فى اطار “النوع ” genre، بينما وفى نفس الوقت فإن أفضل المخرجين الأوربيين يعملون خارج اطار النوع ) ولذلك كان يتعينعليهم أن يكونوا مخرجين مستقلين.  

هذا التناقض الظاهرى تم حله جزئيا من خلال الرأى الذى يقول ان ما جعل السينما الامريكية عظيمة هو تميزها باسلوب “النوع”،بينما سبب ضعف السينما الأوروبيةهو أنها تحاول أيضا أن تعمل ضمن نظام النوع أو أن تعالج موضوعات كبرى بأسلوب هزيل. 

إن نظام أفلام النوع الأوروبية “ليس له جذور حقيقية”هذا ما يعتقده ريفيت، اما فى السينما الامريكية – يُضيف ريفيت –  “فهناك نظام النوع وهو  مُتأصل وله خصوصية  مثل افلام الغرب الامريكى وافلام الاثارة”. 

وبالنسبة لتريفو فالمشكلة الدائمة مع المخرجين الأوربيين، أنهم يقدمون اعدادات سينمائية لمواد ذات قيمة أدبية فيكتسبون سمعة كبيرة ليس بسبب عملهم ولكن بسبب النص الكلاسيكى الذى أعدوه، وهذا لا يعنى أن كبار المخرجين الأوربيينلم يعدوا كتبا عظيمة، فرينوار أخرج فيلما معدا عن رواية “مدام بوفارى”واخرج بريسون فيلما مُعدا عن “يوميات قسيس ريفى”، وكلا المخرجين كانا يحظيان بمكانة كبيرة فى نظر مجلة “كراسات السينما”، لكن مع هذين المثالين بالذات، كانتعظمتهم كمخرجين وراء روعة تحويل النصوص الأدبية بالرغم من انهم كانوا أمناء على هذه النصوص وقدموها باحترام. 

الإخلاص للنص

لقد أشاد أندريه بازن بأسلوب فيلم بريسون لكنه اشار ايضا الى “البلبلة  الناتجة عن الإخلاص للنص”، هذا صحيح بشكل عام بخصوص كثير من المخرجين الامريكيين العظام – أو المخرجين الذين يعملون طبقا للنموذج الأمريكى – فهم يعملون بنظام أفلام النوع، فهيتشكوك كان متخصصا فى أفلام الإثارة، وفورد فى أفلام الغرب الأمريكى، وهوكس كان ينتقل بين أفلام الكوميديا وأفلام الحرب وأفلام الغرب الأمريكى وأفلام الإثارة، وبرغم ذلك ظلوا قادرين على فرض أسلوبهم “كمخرجين مؤلفين”على الموضوع. 

ان أكبر مشكلة فى السينما الأوربية وخاصة السينما البريطانية، أنها تبدو مفتقرة  الى المخرجين المؤلفين العظام فعددهم قليل جدا، كما انها لم ترتق لنظام افلام النوع بصورة كاملة، ولهذا فهى سينما فاشلة. ويقول ريفيت “السينما الاوربية تسير بقدمين أعرجين”، ويفسر هذا لماذا كانت السينما الامريكية اأضا خصبة للبحث عن المخرجين المؤلفين، ومع األام النوع القوية والمخرجين العظام، تعينعلى النقاد ان يروا الرؤية الذاتية للفنان رغم صعوبة ذلك.  

والآن بالطبع وقبل أن – تصل نظرية المؤلف المعاصرة الى ما هى عليه– استبعد الكثيرون نفس المخرجين واعتبروا مخرجين حرفيين لم يقدموا شيئا الا لتشكيل المادة لكي تتسقمع نظام افلام النوع. لقدكان نقاد “كراسات السينما” يبحثون عن التفرد، وأدى هذا الخلط الى استبعاد الكثير من المخرجين المحسوبين على نظرية المؤلف، فهوارد هوكس أصبح – على هذا النحو – ليس رحالا ينتقل من مشروع لمشروع ومن نوع لنوع، ولكن انسانا صاحب رؤية، ويقول بازن “كل تكنيك عنده له علاقة بالميتافيزيقا”، أما رومير فيرىأنالمسألة ليست ما يعرضه هوكس ولكن كيف يعرضه. 

نحن نستطيع ان نقارن شكليا بين مشهدين متشابهين من فيلمين لهوكس هما “النوم الكبير”و”التعويض المُضاعف”– المأخوذ عن رواية لبيلى وايلدر، لكى نتعرف قليلا على رؤية هوكس، واحد النقاط التى غالبا ما علق عليها النقاد بخصوص اعمال هوكس، هى انها تحمل طبيعة ذكورية، اننا نلاحظ هذا فى فيلم “النوم الكبير”عندما يقابل فيليب مارلو (همفرى بوجارت  شخصية لورين باكال لأول مرة، حين يدخل همفرى بوجارت الى الغرفة وتتبعه الكاميرا جانبيا، هذا نوع من الحركة النشيطة للشخصية والكاميرا وهذا يستدعى فى اذهاننا أسلوبه فى افلامه الاخرى مثل “فتاته فريداى”و “أن تملك او لا تملك”و “الملائكة فقط من لهم اجنحة”. 

ان هذا جزء من العالم الذكورى الذى يجب على الشخصيات أن يتكيفوا معه، كما أن تبادل المواقف بين بوجارت وباكال يؤدى الى تأكيد ذلك، فبينما تقول له باكال انه يبدو كمن يعيش فى فوضى فيرد عليها بوجارت انه ليس طويلا ايضا، ويتبادلان النظرات العدائية فيبدو الامر لنا كما لو انه عالم يتوجب على الناس فيه ان يُثبتوا انفسهم.   

روبير بريسون

وفى مشهد من فيلم “تعويض مُضاعف “نرى شخصية ماك مورى تفعل الصغائر بالرغم من انه كبير، فهو يظهر فى اسفل السلم مع المرأة القاتلة بربارا ستانويك التى تحوم حوله ولا ترتدى سوى منشفة حمام، ان هذا يبرز العالم النسوى والدليل على ذلك اللقطات المكبرة التى تلعب دور الشحن الجنسى، فعندما تنزل ستانويك السلم – على سبيل المثال – فالكاميرا تكشف عن السوار الذى ترتديه فى قدمها، وعندما تجلس على المقعد الواسع فانها تتعمد ان تجلس فى ركنه، ولم يكن غرضها أن تتساوى مع ماك مورى ولكن ان تُوقع به.  

وغالبا فان شخصيات ويلدر الرجالية تبدو ضعيفة وواهنة – مثل افلام “عطلة الاسبوع المفقودة”و “غروب بوليفار”و “هرشة العام السابع”و”الشقة “– فنادرا ما يشير ويلدر الى أهمية البيئة الذكورية. 

والآن نستطيع أن نستكشف هذا الاختلاف –  فكل من هوكس وويلدر صنعاأفلاما برجال يرتدون ملابس نسوية،مثل فيلم هوكس “كنت عريس حرب”وفيلم وايلدر “البعض يفضلونهاساخنة”. وعلى أيحال فغرض كل منهما كان مختلفا تماما، وبالنسبة لهوكس، فمجلة كراسات السينما قد تقول انه يقدم رؤية اكثر ثباتا، ويصر روميرعلى أن رؤيته (جافة جدا لدرجة الوحشية المطلقة). 

لم يكن موقف نقاد مجلة كراسات السينما واحدا بخصوص “نظرية المؤلف” فبعضهم كان أكثر حماسا من الآخرين مثل – تريفو وريفيت – والبعض كان متشككا ومتسائلا مثل أندريه بازن الذى كان واقعيا اكثر من كونه يتبنى “نظرية المؤلف”.  

وبرغم ذلك فثمة اعتقاد بأن نقاد مجلة كراسات السينما كانوا يؤمنون على الأقل بما تمثله الرؤية فى نظرية المؤلف من إمكانيات وبقدراتها الذاتية فى التصرف فى النصوص الأدبية. ولكن هل ظلت نظرية المؤلف كما هى بالرغم من الاختلافات  التى طرحتها النظريات الفنية المعاصرة فى الستينات والسبعينات – ويشمل ذلك بعضا مما ناقشته فى هذه المحاضرات – مثل البنيوية والسيميائية؟  

نقاد البنيوية

اذا كانت الوجودية بقناعتها بالحق الأصيل للذات تتطابق مع نظرية المؤلف، فالبنيوية والسيميائية وكذلك التفكيكية والنقد السينمائى لأفلام النوع يُنكرون ذلك؟ ويجب أن نتذكر مقالة “موت المؤلف”لرولان بارتالتى نشرها فى عام 1968، وكذلك مقالة “ما هوالمؤلف ؟”لميشيلفوكو التى نشرها في العام التالى، وقد كُتبت المقالتان فى اطار الافكار البنيوية، حيث الانسان موضوع اجتماعي اكثر من كونه ذاتا مستقلة. 

وكما اقترح بام كوك فى مجلة “كراسات السينما” تصدت البنيوية منذ بدأت الى النماذج النقدية التى تعتبر العمل الفنى نظاما مغلقا ومكتملا بذاتية الفنان حيث يجب العثور على نواياه)وهذا لا يعنى على ايه حال ان جون فورد وهوارد هوكس … الخ، لم يعودا مخرجين مؤلفين منذئذ، ولكنهما بدلا من ذلك اصبحا – طبقا لأحد الاستشهادات المفزعة – أقل الشخصيات المشار اليهما بصفتهما يتمتعان برؤية. 

ويقدم بيتر وولن فى كتابه “إشارات ومعانى فى السينما”تحليلا يتشابه مع ما قدمته مجلة كراسات السينما، فيقول إن هوكس كان مهتما بعالم الرجل حيث المرأة ينبغى عليها ان تكيف نفسها معه، وحيث الزواج تقليد لا اهمية له وان المغامرة هى الاصل، لكنه يطبق مصطلحات البنيوية والسيميائية، ويتحدث عن الكيفية التى يجببمقتضاها ان تتوافق الافلام مع البناء العام،  فعلى سبيل المثال يستخدم وولن اصطلاحات مثل “الأسلوبية”و”الدلالية”لكى يشرح كيف تشبهالصور الكلمات والجمل وأنها تحوى المعنى كامنا فيها.  

وهذا النوع من الملاحظات كان موجودا فى مجلة كراسات السينما وكان وولن هو الذى كتبها فى اطار تعريفاته النظرية، وبدا وولن – على هذا النحو – اكثر ميلا للتنظير على اسس البنيوية والسيميائية، لكن بعض كُتاب مجلة كراسات السينما مثل بازن – على وجه الخصوص –  كانوا يكتبون وقناعاتهم تتأسس على افكار الفلسفة الوجودية وعلم الظواهر ولكن لا يطبقوها بطريقة صارمة.

كلود شابرول

ومن المفارقات ان مجلة كراسات السينما فى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات أصبحت تميل الى البنيوية واصبحت موجهة سياسيا، فتلك المجلة المتفردة والتى كانت تتباهى باستقلالية كتابها وتكتب عن المخرجين المستقلين الذين يروقون لها، اصبحت تتبنى البنيوية بصرامة وتتبنى الاشتراكية الماوية، وظلت المجلة تتحدث عن نظرية المؤلف لكن ضمن رؤية متشددة وغالبا فى اطار نظرى ومرجعى، وظهرت كتابات مطولة عن السيميائية والبنيوية واشكال السينما الايديولوجية، وشمل ذلك افلاما مثل “مستر لنكولن الصغير”و “المغرب”. 

وفى بداية الثمانينيات وحتى منتصف الثمانينيات، نشر الفيلسوف جيل دولوز مجلدين سينمائيين احدهما “سينما 1 – السينما”والثانى “سينما 2 –عصر السينما” ضمنهما كثيرا من تاريخ نظرية السينما، واستشهد بمعظم مخرجى السينما.لقد اكد دولوز فى كُتبه أن المخرجين يتعاطون بشكل اساسى مع نمطين للسينما: الأول ذكره فى مجلد – السينما – وهذا النمط يتوافق مع نشاطاتنا الحسية والحركية، ويتوافق ايضا مع النموذج الهوليودى وغالبية وسائل الاعلام السائدة، اما مجلد “عصر السينما”فهو يعلن عن انهيار هذا النمط، حيث يعمل المخرجون فى اطار اشارات”الليكتو”واشارات “الكرونو”والإشارات “الاوب” بجانب أشياء أخرى.  

إن اشارات “الليكتو”هى الإشارة التى تحتاج ان تٌقرأ – او بالأحرى تُفسر – وليس مجرد ان تُرى ، واشارة “الكرونو”تكشف عن الزمن الموجود فى اللقطة ، واشارة ( الاوب ) هى الصورة البصرية حيث لا تقوم الشخصية برد الفعل لما تراه ، وهذه الموضوعات لم تظهر فى كتاب دولوز الاول، وساعد هذا فى القاء الضوء على عمل المخرجين الذين تبدون اعمالهم صعبة على الفهم وتُثير البلبلة

كان دولوز كاتبا يتمتع بالبصيرة أكثر من أى كاتب آخر، وساعد فى ايجاد مصطلحات تشرح هذاالتطور، فسينما انطونيونى على سبيل المثال تمتلأ بإشارات الكرونو : فالماضى يبدو حاضرا مع الشخصيات، وهذا يمنعهم من التفاعل مع ما يدور حولهم، وتقودنا  الى اشارات “الاوب” : فالشخصيات تلاحظ الصورة البصرية لكنهم لا يتفاعلون معها، وقد يُفسر الُمُشاهد كثيرا من افلام انتونيونى بوصفها اشارات ( ليكتو)، لاننا لا نستطيع ان نعتبر ان ما يطرحه فى افلامه من المسلمات، ولا نستطيع ان نرى على الفور ما الذى يهدف اليه انتونيونى، ومن امثلة ذلك المروحة فى فيلم”تكبير” أو”انفجار”  وانفجار المنزل فى نهاية فيلم “نقطة زابريسكى”والفاكهة الرمادية فى فيلم “الصحراء الحمراء” والشاهد فى فيلم “الليلة”. 

الإشارات

صاغ دولوز نظام الاشارات بحيث يفسر أعمال كل مخرج على حدة وساعد هذا فى جعلنا نفهم مخرجين حداثيين مثل تاركوفسكى وبازولينى وجودار وآلان رينيه، كما جعلنا نفهم العناصر الشائعة لعديد من المخرجين المؤلفين الكلاسيكيين مثل شارلى شابلن وهيتشكوك.

ان أطروحة دولوز الاساسية تتمحور حول ان السينما ليست وسيطا لقص حكايات ولكنها وسيط لتوليد الافكار، وعندما يتعجب الناس لماذا تظهر كتابات كثيرة حول الافلام، فيرد دولوز ( يترآى الأمر لى على هذا النحو لان السينما تحتوى على الكثير من الافكار).إن اكثر الاشكال اهمية ليس ان تقص حكاية – على الرغم من ان معظم الافلام تعمل ذلك وتولد افكارا عظيمة نستخرجها من هذه الحكاية – ولكن ان نمارس التفكير. وبناء عليه ادعى دولوز ان المخرجين مثلهم مثل المفكرين العظام (…. ليس من الانصاف ان نقارن مخرجى السينما العظام بالرسامين او المعماريين او حتى الموسيقيين، ولكن يجب ان نقارنهم بالمفكرين).

وأهم ما قاله دولوز أن أسلوب المخرجين ليس استحضارا لخبرات وجودية لكى يتشكل منها اللاوعى الجمعى كما فى البنيوية، لكن المخرجين المؤلفين يبتدعون لغة اشارة طازجة خاصة بهم لانهم يحتاجون اليها للتعبير عن رؤية خاصة، وكذلك قال ( ان الفيلم هو بناء جملة جديدة ) و (الاشارات تتجاوز اللغة ووتفوق عليها) وسواء كان المخرج تجاريا او مستقلا، طليعيا او يتبع نظام افلام النوع التقليدية، فان المهم هو كيف يعبر عن خصوصيته.   

 لا يريد دولوز أن يروج لرؤيته الخاصة عن سينما المؤلف بطريقة نظرية صارمة، ولكنه ركز على ان كل مخرج سينمائى لديه اشكالياته التى قد يجد حلا لها بالاستعانة بالتحليل النفسى، ومخرجون آخرون بمساعدة الفلسفة، وآخرون بمساعدة الرسم، وآخرون بمساعدة الأدب. 

إن الهدف الاساسى ان نجد نقطة محددة لنفهم إشكالية المخرج التى يتعامل معها فى فيلمه.  

انه منهج لا يركز كثيرا على الفنان نفسه – فهو يأتى فى المرتبة الثانية – لكن الاهتمام ينصب على الرؤية التى يقدمها المخرج فى فيلمه. 

بعض النقاد لديهم مشكلة مع النظرية النقدية لدولوز – مثل برجسون وس.اس. بيرس، لكن لم يوجد ناقد سينمائي ميز وفهم ما يرمى اليه المخرجين. 

يقينى ان مجلة كراسات السينما وعلى مدى الخمس وعشرين سنة الماضية كانت متأثرة بمنهج دولوز. 

Visited 80 times, 1 visit(s) today