فيلم “القارب”.. صناعة المأزق في حكاية

على مدى تاريخ السينما، عرض عدد من الافلام التي تحمل اسم (القارب) على سنوات متباعدة، ونفذها مخرجون مختلفون، وكل فيلم منها يحمل قصة وموضوعا يختلف عن الفيلم الآخر.

في ١٩٢١ نفذ باستر كيتون وفرنسيس كلاين فيلما كوميديا قصيرا يحمل اسم (القارب)، وكذلك اخرج هيتشكوك عام ١٩٤٤ فيلم “قارب النجاة” الذي سمي ب (قارب الساحرة) ، وفي ١٩٨١اخرج وولففانغ بيترسن الألماني فيلما حربيا حمل اسم (Das Boat)وبعض  من الافلام الروائية والوثائقية.

 اما فيلمنا هذا الذي يحمل اسم (القارب the Boat)- 2018، وهو من إنتاج بريطانيا ومالطا، فهو يتميز كثيرا عن افلام القارب السابقة، ويعتمد على” ممثل واحد” فقط بدور البطولة، وكذلك اختار بيئة واحدة هي البحر” مكانا” لحدث الفيلم، ولم يكن في سرده حاجة قصوى” للحوار”، هذا الفيلم الذي كتبه (جو ازوبادي) وقام ايضا بتمثيله بدور البطولة لوحده، أي ليس هناك ما يقابله احد في التمثيل، اما أخوه ونستون ازوبادي  فقد تولى اخراج الفيلم.

وقصة الفيلم، لا تعدو ملحمية، وإنما حكاية نسجت بقدر سردي اعتمد المأزق شكلا من اشكال الصراع، وهي حكاية تسبح في مخيلة الكاتب، بعد أن منحها الخيوط السردية الداخلية ضمن  بيئة ومساحة الحدث الرئيسي للفيلم ففي المشهد الأول، وبتعدد منوع في الحجوم والزوايا في اللقطات يظهر بطل الفيلم الصياد الشاب وهو يخرج من منزله المطل على البحر، ليركب زورقه الصغير، وهو يشق المياه وسط أجواء هادئة وصافية، وما أن يتوغل في عمق البحر، حتى يسود الضباب الكثيف الذي تصعب عليه الرؤية.

ومنذ المشاهد الأولى، يتولد لدينا احساس بأن البطل الصياد، يعيش حالة من الضياع وهو تائه في وسط البحر، وأول فعل عنيف يواجهه هو اصطدام زورقه بمركب يخت حديث، اعتقده منقذا له، الأمر الذي الهم فضوله في الصعود اليه ومناداة من فيه، وبتكرار من الصيحات، فلن يرد عليه أحد، بعد أن اتضح أن اليخت خال من البشر.

ومما زاد من مخاوفه ومن رغبته في التعرف علي حقيقة هذا اليخت، فبحث في اروقته ومداخله  واجهزته، وشغل منظومة النداءات، وصاح بأعلى صوته،” النجدة، النجدة، انا هنا في مركب يخت ايولوس، فاليتا، ساعدوني، انقذوني”، فلن يسمع ردا له، وبما ولد له الاستياء، وأنه يعيش في حالة (محنة)، وحيدا في البحر، وبعد أن تعرف على ما في داخل اليخت، يصعد إلى سطحه ويتفاجأ ويصعق بعدم وجود زورقه الذي ربطه باعمدة اليخت، فينظر لكل الجهات ولا يجد له أثرا.

يرجع إلى داخل اليخت، وبدافع منه وهو يتجول، يدخل و”يغلق” وراءه الباب، ليصاب بالدهشة والريبة، ويحاول فتح الباب، فلم يقدر، رغم العديد من المحاولات، وبما يجعله محبوسا في الحمام، وهذا ما زاد من قوة التحدي التي يواجهها بمفرده، وهي تتصاعد تدريجيا كخصم مجهول لديه.

وقد تولد لدى البطل اعتقاد كما لو كان في اليخت اشباح او ان هناك ثمة أسرار غامضة، تصدر بين فترة و أخرى أصواتا وحركات، او تتفتح الأبواب والنوافذ والانارة فجأة، مما يزيد من مخاوفه وتوتره  وحيدا، وتتوالى المتغيرات السردية في الفيلم نتيجة فقدانه الأمل والامان في داخل اليخت، فيحاول البطل بمشهد أن يلقي بنفسه في البحر، وهو يسبح اذ يرى اليخت وهو يطارده، سريعا، وتفشل محاولة هروبه، فيرجع إلى اليخت.

وقد حاول كثيرا تفحص أجهزة اليخت وحبال اشرعته ومقود حركته، لغرض إعادة تشغيله فلن يفلح بذلك، وفي مشهد اخر لربط أعمدة الشراع، ينتبه فيرى باخرة كبيرة عن بعد، فينزل ويركب زورق صغير عمله من حاويات وجدها في اليخت وربطها بحبال محكمة وغلفها بالباب الذي كسره، وقاده بمجذاف باتجاه الباخرة، وما أن يلتفت إلى الوراء حتى يجد اليخت وقد تحرك نحوه بسرعة، فقفز في البحر خشية الاصطدام، بعد أن عانى من صعوبة السباحة ليلا وخطورة الأسماك الكبيرة المفترسة، مما يضطر الصعود إلى اليخت والبحث عن مكان أمن ودافئ لينام.

وفي مشهد لاحق نرى اليخت وقد اتجه نحو المدينة المطلة على البحر، ليرسوا على الرصيف، فينزل الصياد ويدخل احد الأبواب ماسكا بيده عمودا حديديا، فلن يجد أي أثر من البشر أو أية حركة للحياة، ثم يتجه إلى أحد الفنارات ويصعد إلى مكان مرتفع ليطل على البحر، فيرى اليخت وهو يرجع مسرعا، وبلقطة قريبة لوجه البطل لكشف حجم الدهشة والاستغراب الذي يشعر به، فيرجع للبيوت المهجورة خائبا، بعد أن رجع اليه زورقه الصغير دون أن نعرف سببا لذلك، مع حركة الكاميرا ذاتها التي انطلقت بذات وجهة النظر التي انطلق منها البطل في المشهد الأول عبر النفق الصخري في البحر، للدلالة على أن مثل هذه الحالات تتكرر، ولن تنقطع ولا زلنا نعاني منها، وبالامكان تثبيت بعض الملاحظات عن الفيلم :

الفيلم، يكاد يكون بسيطا من حيث البناء والشكل، وخال من الامكانيات الإنتاجية الضخمة، ولكنه ربما يعد فيلما منتجا للدلالات والرموز التي قد تتطابق مع ما يعانيه البعض من ذات المصير التي يواجهه البشر.

استخدم الفيلم بشكل بسيط ومألوف بعضا من التقنيات الرقمية والحيل والخدع السينمائية، والبهرجة الإليكترونية. واعتمد على ممثل واحد فقط، وهذا ما يميزه.

  • اعتمد على بيئة واحدة لمكان واحد هو البحر.

–  السرد خال من أية خيوط قصصية ثانوية خارج حدود البحر والصياد والزورق واليخت.

– أخفى علينا الكاتب، اية علاقة اجتماعية أو مهنية للبطل، دون ذكرلأهل أو صديق، او زميل مهنة له.

– يكاد يكون الحوار قد اختفى باستثناء بعض الكلمات التي يرددها البطل، كحاجة إلى المساعدة ودعوات الإنقاذ والنجدة.

– اخفي علينا الفيلم هوية الخصم، وجعل البطل يعاني من خطر المجهول، الذي تعددت تمثلاته.

– حمل الفيلم الكثير من الاشارات الناطقة بالدلالة، منها، وحدة البطل، ومجهولية الخصم، والضباب والغموض، وقسوة المواقف، وفقدان الزورق وغلق الباب، وحركة اليخت المهجور ذهابا وإيابا وكأن أحدا يقوده، في اطار تعظيم مستوى الخطورة التي يواجهها البطل.

– هنالك قصدية صريحة قد توحي لنا بالعدم أو العبثية، منها أن البطل الصياد كان  في رحلة غير موفقة، اذ لم نرى أي مشهد لمحاولة صيد في البحر، كذلك مع فعل الاصطدام  باليخت الذي بنيت عليه مشاهد المعاناة والمخاطر، فضلا عن قصدية عدم وجود أي زورق اخر اوحركة سفن أو مروحيات مراقبة في البحر، أوأية معالم الحياة في البحر، كذلك ان البيت الذي خرج منه الصياد، كان خاليا من اي إثر لبشر اواية حركة أو فعل  لادامة الحياة.

– عمل المخرج والمصور على صناعة عددا من الأشكال والتكوينات والتصاميم من اللقطات الفاعلة بتنوعها وحركاتها  وزواياها، رغم التقيد بمكان واحد فقط هو البحر واليخت، وبما أجاد في كشف التعبير الذي ساد المشاهد مع تشكيل تكوينات بصرية ساحرة في البحر، أثرت الذائقة الجمالية نوعا من الاستجابة والتشويق وكذلك الاجادة في تجسيد وإظهار ما يعانيه البطل من مأزق لا يحسد عليه من حركات وتعبيرات ومشاعر وأحاسيس ومخاوف وقلق ومهارات المقاومة والصبر وغيرها رغم أنه قد لا يعد بمستوى الممثل الاحترافي المتقدم.

مع الإشادة بمهارة المخرج باستخدام الذكاء الحرفي بصناعة اجواء من مشاهد الضباب التي رافقت السرد الفيلمي، مع الاشتغال المثير لمشهد الرياح والأمطار والعواصف التي تعرض لها البطل وهو في محنته القاسية في اليخت الغريب، مع الأفاقة الشعورية ونبض الاحساس المتدفق من الموسيقى التصويرية المرافقة في بعض الأحيان.

يبدو أن زمن أحداث الفيلم، هو سابق لزمن اختراع الموبايل والهاتف النقال، لان البطل في موقفه هذا، كان بأمس الحاجة للاتصالات، لإنقاذه من الخطر

نسجل استفهاما على نهاية الفيلم بعودة زورق الصياد، وكيف تم رجوعه، الذي لا يخلو من دلالة.

استغنى الفيلم عن مشاهد الاسترجاع والاستباق والتخيلات والأحلام، والكوابيس.

لم تظهر مشاهد طعام أو شراب في الفيلم على مدى النهار والليل والصباح، باستثناء لقطة واحدة للبطل وهو يشرب ماء من قنينة فقط.

يمكن الاعتقاد بأن أهمية اليخت، تأتي من حاجة البطل اليه بوصفه (منقذا) له، في حين يعد خلوه من البشر، وعدم إمكانيته الفنية في التشغيل والأبحار، حان دون ذلك، الأمر الذي سبب الخيبة القاسية للبطل

يمكن الإشادة بلقطة اوفر Over تجمع البطل واليخت وهو يراه عائدا، بعد أن جاء به إلى مشارف المدينة.

يمكن الإشادة بمشهد مثير حقا، فيه نرى البطل  محصورا في الحمام والباب مغلق عليه، ولكنه يستخدم النافذة ليرى الاجواء العامة في البحر، ويرى قدوم باخرة كبيرة، ويسمع نداءا منها بالتحذير من خطر الاصطدام، فيحاول مد الحبل إلى أسفل اليخت بغرض إيقاف عتلة الحركة وإيقاف اليخت، ولكن في حركة مفاجئة يلتف الحبل على رقبته، بقوة، كاد أن يشنقه، وهو في حال من الصراخ و الألم والمعاناة والأوجاع الشديدة.

وهنا أجاد المخرج اسلوب المونتاج المتوازي في القطع والانتقال بين حركة قدوم الباخرة وحركة محاولة البطل لإيقاف اليخت وهو في وضع لا يقدر عليه، وبتكرار من القطع والتبدلات المونتاجية بما اعطي المشهد سخونة درامية مثيرة ومشوقة، لينتهي المشهد بلقطة عامة لليخت وهو يسير عكس اتجاه الباخرة،

من المشاهد الصعبة، مشهد كسر الباب، وفيه تمتلئ الغرفة التي انحصر فيها البطل بالمياه لغاية الرقبة، مما يصعب عليه الحركة التي تساعده على كسر الباب الذي غلق عليه رغما عنه، وبحركات متتالية وهويضرب الباب المبتل بالمياه بكتفه عشرات المرات، الذي سبب له اوجاعا شديدة، بعد قلعه، ومن صعوبة الموقف انه كان المشهد بمكان ضيق، يصعب فيه أن تجد موضعا مناسبا للكاميرا بالتقاط لقطات فاعلة، تحقق الحركة التعبيرية المطلوبة بالمشهد.

رغم الممثل الواحد والمكان الواحد، الا ان المخرج حاول أن يجعل فيلمه متعدد المتغيرات والمفاجئات التي واجهت البطل بما تطلب ايقاعا حركيا متدفقا يتلاءم مع القلق والخوف والغموض والأسرار وعدم الاستقرار.

في اغلب المشاهد، طغت مشاهد تواجد البطل في اليخت وقليل من مشاهد الزورق، الا ان اسم الفيلم اقترن بالزورق أو القارب الذي ظهر في المشهد الأول واختفى في الوسط وعاد في المشهد الأخير.

كان بناء السرد الفيلمي مشبعا بالأفعال التي خلقت مأزقا نافذا والذي يعد بمثابة قوى متحدية للبطل، اذ مهد لها مشهد انتشار الضباب وعدم الرؤية، ومشهد اصطدام الزورق باليخت، ومشهد غلق الباب ومشهد طغيان المياه في الغرفة، ومشهد الرياح والأمطار، ومشهد فقدان الزورق، ومشاهد طلب النجدة والإغاثة، وغيرها من الأفعال التي أنتجت المأزق، الواحد تلو الآخر لتعظيم مستوى الخطر الذي يواجهه البطل.

Visited 116 times, 1 visit(s) today