“أسرار رسمية” يعيد الى الشاشة فترة عصيبة من تاريخ العراق

Print Friendly, PDF & Email

لا يتيح فيلم المخرج الجنوب أفريقي كيفن هود المهم “أسرار رسمية” Official Secrets (112 دقيقة)، (العنوان مقتبس من قانون السرية الرسمية)، لمشاهده سوى قراءته بلغة الدراما السياسية. لغة تستحضر جملة مفردات وإدعاءات مضللة ولفترة عصيبة من تاريخ بلد اسمه العراق مهدت لغزوه.

ولعل صاحب“عين في السماء” Eye in the Sky (2015) عن أخلاقيات استعمال أدوات الحروب الحديثة والمتمثلة بالطائرات المسيرة، و”الترحيل” (Rendition) (2007)، وهو مصطلح استخدمته وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) لوصف عملية نقل المتهمين + بالارهاب الى سجون ومعتقلات سرية خارج الولايات المتحدة، يمتلك قدراً كافياً من الموقف السياسي والأخلاقي والفني يؤهله للإنكباب على موضوع بطلته “جاسوسة” كشفت المخفي وتحملت نتائجه بشجاعةكبيرة.

اعتمد هود في جديده على قصة حقيقية عاشت تفاصيلها ووثقتها الموظفة والمترجمة في مركز الاستخبارات والأمن البريطاني “كاثرين غن” وضمها كتاب“الجاسوسة التي حاولت إيقاف الحرب”(The Spy Who Tried to Stop the War) لمارسيا وتوماس ميتشل. وفيه يعيد هود الى الشاشة تسلسل الأحداث الدرامية والحرجة التي سبقت غزو العراق في عام 2003 على يد إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن وصقورها والذيل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير.

يتمحور شريط “أسرار رسمية”، الذي عرض ضمن مهرجان لندن السينمائي الأخير قبل اطلاق عروضه الشعبية في العاشر من الشهر ذاته، حول سؤالين مهمين؛ هل من حق الموظف الحكومي إفشاء اسرار الدولة الحساسة؟ وكم يخدم ذلك مفهوماً واسعاً ومطاطيا ومختلف عليه مثل “المصلحة الوطنية”؟

جدلية الأسئلة أعلاه تستحضر السجال حول مفهومي “الخيانة” و”الفعل البرئ” أيضاً. أما الخلاصة فهي فاضحة حقاً. في التسلسل الدرامي للشريط، وزعت فقرات سردية على أماكن رئيسية مثل العمل، البيت، مكتب محامي، مركز شرطة وقاعة محكمة، ويكاد الشارع هو الغائب الأكبر منه.

وفيه نتابع وقوع رسالة اليكترونية بيد الموظفة/ المتعاقدة “غن” مرسلة من أحد مدراء “السي آي أيه” الأمريكية، يطلب منها ومن نظرائها في بريطانيا التجسس على أعضاء مجلس الأمن الدولي، خصوصاً البلدان النامية التي لا يحمل صفة العضوية الدائمة فيه، بغرض التأثير عليهم لصالح استصدار قرار دولي يبيح ويشرعن الغزو على العراق قانونياً.

تضع هذه الرسالة “غن” (أدت الدور الممثلة البريطانية كيرا نايتليبجدارة عالية إذ تقمصت لحظات ضعف وخوف الشخصية الحقيقية) في موقف حرج وقلق؛ ورطة أخلاقية تطال شروط عملها ومتطلبات سريته من جهة، وأخرى حساسية وضعها الشخصي، متزوجة من كردي/ تركي مازالت أوراق طلب لجوئه السياسي لم تحسم بعد.

يستعين المخرج بكم هائل من المواد الأرشيفية المنتقاة لرسم أجواء تلك الفترة المحتدمة. نتابع مقابلات تلفزيونية لعرابي الغزو ومسوغاتهم، منهم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وكلماته الحماسية في مجلس العموم والواثقة بامتلاك دلائل على حيازة العراق أسلحة الدمار الشامل وعلاقة نظامه بتنظيمات القاعدة الارهابية ووعوده الوردية للعراقيين برؤية النور في آخر النفق.

بعد تمكنها من تهريب نسخة من تلك الرسالة على قرص ممغنط، تقرر “غن” وخلافاً لقناعة زوجها ياسر (أدى الدور البريطاني آدم بكري) إيصال لقيتها الى وسيلة إعلامية وغايتها كما يقول الشريط هو “المصلحة العامة” كونها تعرف ان ما قامت به سوف لا يعود عليها بفائدة شحصية بل العكس فهي الطرف الأضعف في معادلات لا ترحم النيات الطيبة.

وهنا يبدأ فصل جديد حال وصول الرسالة الى صحيفة “الأوبزيرفر” الأسبوعية، المقربة من مكتب رئيس الوزراء توني بلير والحاملة لراية سياساته آنذاك.

بعد سجالات بين فريق التحرير، تقفز إشارة تنم عن جهل أو عدم وضوح الى مسامع أحد الصحفيين حين ينطق بـ “سوني وشير”، ثنائي غنائي أمريكي، للتعبير عن مكونات أصيلة مثل “السنة والشعية” في العراق.

يقر القرار بنشر الرسالة، وينكب الى هذه المهمة وعلى شكل رهان الصحفي مارتن برايت (مات سميث). وليحتل الخبر في اليوم التالي صدر الصفحة الأولى تحت عنوان لافت “الكشف: ألاعيب أمريكا القذرة للفوز بقرار الحرب على العراق” Revealed: Us Dirty Tricks to Win Vote on Iraq.

يُطعم هود فيلمه بصور المظاهرات المليونية في العاصمة البريطانية وعواصم العالم المناهضة للحرب، تغير الحجة القانونية للمدعي العام البريطاني، حينها اللورد بيتر غولدسميث، بعدم شرعية الحرب الى شرعية قبل أربعة أيام فقط من شنها وبعد زيارة الى العاصمة السياسية الأمريكية. نشر الرسالة يضع “غن” في موقف حرج وهي تواجه ضغوط عدة، تركها العمل بعد اعترافها بتسريب الرسالة، تعرضها الى تعقب الشرطة السرية عبر تتبع حركاتها اليومية، فضلاً الى تحريك ملف تسفير زوجها.

في الفصول اللاحقة نتابع محاولات المؤسسة القانونية، وبدفع سياسي، من التأثير على محامي المتهمة بن أميرسون (الكريزماتي رالف فينيس) عبر اغراءات وظيفية للتخلي عن القضية. لكن ما تفضحه وقائع الشريط تقول شيئاً أخر غرضه لملمة هذه الفضيحة بأي شكل من الأشكال وإغلاق ملفها قبل وصوله الى المحاكم العليا. لربما اللقطات الأخير لشريط “أسرار رسمية”، تشي وعبر حوار جانبي يدور بين أميرسون والمدعي العام على الشاطئ يقول الكثير ويفضح المؤسسة السياسية:

 المدعي العام: نعم كنا نعرف ان المتهمة قامت بتسريب الرسالة بنية حسنة. أميرسون؛ ولكن لماذا لم تغلق هذه القضية قبل ستة أشهر وتجنبوا موكلتي عذابات ممضة؟

المدعي العام؛ في الحقيقة كنا نتنمر من البداية.

أميرسون: لا تقترب من هذا المكان أبداً طالما انا موجود هنا.

عروض شريط “أسرار رسمية” الشعبية ربما تأتي في وقتها. إذ ان ما يشهده العراق من تصاعد الإحتجاجات الشبابية، في أغلب مدنه الوسطى والجنوبية ومنذ الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، كفيل بقلب الطاولة على الغزاة ومن جئ بهم. ذلك ان البداية المضللة واعتماد الكذب والنفاق والتنمر، من قبل أمريكا وبريطانيا، لغزو بلد جاءت بوليده المشوه؛ سرق حلم الخلاص من ارث الديكتاتورية الطويل وأشاع الفساد الاداري والمالي وقمع بشكل وحشي كل من يقول “كفى”، كما تقول وقائع ويوميات الإنتفاضة الشبابية.


Visited 35 times, 1 visit(s) today