فيلم “العهد الجديد جدا” والدين من منظور نسوي

لعل مقولة المخرج البلجيكي جاكو فان دورميل (في أفلامي يحاول الأبطال رواية حياتهم على طريقتهم، لا تتذكر الشخصيات بدايتها أو مولدها لذا كل منها يتخيل ما يشاء) هي خير معبر عن جوهر أفلامه وخاصه فيلمه “العهد الجديد جدا”  The Brand New estamenTعندما جعل أبطاله تكتب ميثاق جديد للحياة المشتركة، بشكل يجعل الحياة أكثر تسامحا وأقل وحشية.

يحكي الفيلم في البداية عن خالق الكون الذي يعيش في بروكسل، ويشعر بالملل، ولا يعطف على البشر بل  يزيد من تعاستهم ويخلق من خلال جهاز الكمبيوتر الخاص به، قوانين مجحفة للحياة حتى يتسلى ويتغلب على سأمه.

ويظهر الخالق في هذا الفيلم متزوجا من سيدة مقهورة تحب مشاهدة البيسبول ولديه ولد هو المسيح وبنت عمرها عشرة أعوام. ويخاف الخالق على ابنته ان تحذو حذو اخيها المسيح وتنزل إلي الأرض، فيزيد من قمعه لها. لكن تتمرد الفتاة الصغيرة على أبيها، وتتفق مع اخيها المسيح على فكرة تكفل لهما الانتقام من الأب وخلاص البشرية في ذات الوقت.

تدخل الفتاة على جهاز الكمبيوتر الخاص بابيها وترسل من خلاله ايميلات إلي جميع البشر تبلغهم فيه بميعاد موتهم، ثم تدمر جهاز الكمبيوتر، وتنزل إلي الأرض لكي تختار ستة أشخاص بشكل عشوائي لكي يكتبوا كتابا يكون بمثابة العهد الجديد، وتتفق مع أخيها المسيح ان يكون العدد 6 لكي ينضموا إلي حواري المسيح الاثني عشر ويكون عددهم 18 كفريق البيسبول الذي تحبه الأم. وينزل الإله بدوره إلي الأرض لكي يمنع ابنته من تنفيذ مهمتها، ولكي يجبرها على تصليح جهاز الكمبيوتر حتى يتحكم في البشر مجددا.

لا يستخدم مخرج الفيلم الرمزية فيما يريد أن يقوله فلا يعمد مثلا إلي الرمز عندما يشير إلي خالق الكون كفيلم “أم” mother  على سبيل المثال. لكن في ذات الوقت، ما نشاهده في هذا الفيلم ليس نقدا لرؤية الله كخالق للكون بالمفهوم المطلق، بل هو نقد لرؤية الخالق كمفهوم ذكوري أبوي.

وزوجة الخالق أو الأم هنا هي الإله الانثى وهو مفهوم تحاول الرؤية النسوية للدين استعادته بعد ان تم محوه وتجاهله عبر السنين، فقد ارتبط التصور الديني عند الإنسان البدائي، في بلاد ما بين النهرين، بالإله الأنثى، باعتبارها الأم الكبرى ومن رحمها تنشأ الحياة. لكن مع ظهور الزراعة، وتزايد النزعة العسكرية، حل الإله الذكر محل الأنثى، والفيلم يحاول أن يعيد الأمور إلي أصلها واستبدال الإله الذكر بالإله الأنثى وهذا ما تحاوله البنت. والفيلم لا يضع نفسه في صراع مع الدين كمفهوم، فينظر إلي المسيحية، على سبيل المثل كشريك، في عملية الخلاص، فالمسيحيظهر هنا وهو يساعد أخته على الانتقام من الأب، ويعرفها طريقة النزول إلي الأرض.

والفتاة الصغيرة عندما تنزل للأرض لا تعرف القراءة والكتابة، فهي لا تنزل بأحكام مسبقة وتطلب من الجميع طاعتها، وكأن الرؤية النسوية للدين هي رؤية ديناميكية تتفاعل مع تغيرات المجتمع وتطوره، ولا تقف عند نقطة معينة وتطلب من الجميع طاعتها بدون نقاش.

ويساعد الفتاة في مهمتها رجل بسيط، تطلب منه أن  يدون العهد الجديد، ولا تمليه الفتاة ما يكتبه، بل تطلب منه أن يدون حكاية الحواري الستة بدون تعديل. فهذه المرة سيكون البشر مشاركين في كتابة إنجيلهم الخاص وليسوا مجرد متلقيين سلبيين. ويعرض الفيلم من خلال حكاوي الستة أشخاص المختارين، الطبيعة البشرية بتناقضتها وتركيبتها المختلفة، فنجد الشخص المهووس بالجنس خصوصا بعد معرفته قرب ميعاد وفاته، ونجد السيدة التي تختار أن تعيش حياة لا تكلف فيها مع غوريلا، ولا تحاول ابنة الإله  تغيير سلوك البشر، فليس هذا هو الهدف، فالهدف هو التعبير عن هذه التناقضات بكل صدق وأمانة. وكأن الرؤية النسوية للخلاص هي  رؤية لا تتعالى على خطايا البشرية بل تحاول أن تتفهمها بدون الحكم عليها.

جماليات الفيلم

الفيلم ليس مجموعة من الأفكار المجردة التي تسبب الملل، بل على العكس يمتلئ الفيلم بالعديد من المشاعر الإنسانية الجميلة، فالمخرج جاكو فان دورميل، استطاع ببراعة أن يعبر عن مشاعر البشر المختلفة عندما يعرفون ميعاد موتهم، في مشاهد مكثفة وسريعة بعضها كوميدي ساخر وبعضها حزين. لعل أجمل هذه المشاهد، مشهد الأم وهي تحاول خنق ابنها المعاق، بعد معرفتها بقرب ميعاد الموت، خوفا من الا يجد من يرعاه بعدها، فلقد استطاع  المخرج في ثلاثة مشاهد سريعة ان يقول الكثير بدون حوار تقريبا. وحوار الفيلم بشكل عام شديد الجمال، خصوصا بين الفتاة والبشر، فهذه الحوارات تذكرنا بمرحلة الطفولة التي تجمع بين الدهشة والعفوية، فالفتاة تسأل عن كل شئ، وتحاول أن تستكشف كل شئ، وهي متجردة من القيم والأحكام المسبقة التي يفرضها المجتمع بعاداته وتقاليده المختلفة، ولا تحاول أن تقول لاي انسان ما يجب عليك عمله بل تستكشف وتبحث معه عن سبل الخلاص.

والمشاهد لا يجلس لهذا الفيلم رغبة في معرفة ما يحدث في النهاية، رغم روعة النهاية وجمالها، بل كل مشهد في عبارة عن قصة قصيرة مكتملة بذاتها، فمتعة الفيلم  تكمن في سخريته اللاذعة، والموسيقى الجميلة التي نسمعها كل مرة، عندما تقرب الفتاة أذنها من قلب احد الحواريين وتخبره بالموسيقى التي تعبر عن شخصيته سواء كانت موسيقى كلاسيك  او موسيقى السيرك  الصاخبة.

باختصار، من الممكن الا يتفق المشاهد مع رؤية الفيلم لكن من الصعب الا يعجب بالمعالجة الفنية للفكرة وبتفاصيل الفيلم المدهشة.

فالمخرج جاكو فان دورميل هو مخرج متمكن من أدواته لا يحظى بالشهرة التي يستحقها.

Visited 103 times, 1 visit(s) today