حمزة عوني.. وجوه متعددة للحقيقة

Print Friendly, PDF & Email

“حمزة عوني” مخرج تونسي يصعب أن يُنسى اسمه بعد مشاهدة أفلامه، لأنها تترك أثراً عميقاً في العقل والروح، لأنها تُشغل التفكير وتؤرقه طويلاً، وقد لا تترجل بعيداً عنه إلا بعد مرور زمن. الفيلم الأول لـ عوني هو “الحقيقة بالأبيض أو الأسود” 2006 ، روائي قصير، 19 دقيقة و21 ثانية.
الشريط السينمائي مقتبس عن أغنية للأخوين رحباني. إنه ينطوي على فكرة ذكية، تم تنفيذها بأسلوب بسيط يكشف عن وعي وإدراك، وإحساس مرهف يتكشف في أسلوبه الفني وتفاصيل السيناريو الذي رسمه وكتب حواره بنفسه، بمساعدة كريم رمادي الذي ذكرت عناوين الفيلم (التترات) أنه قام بمعالجة الحوار.
بطل الفيلم رجل أُمي اسمه الهادي، لا يعرف القراءة أو الكتابة، يصله خطاب موجه إلى ابنته أمينة الطالبة بالمعهد من صديق لها اسمه يوسف. تبدأ الشكوك تساور الأب ويطلب من ساعي البريد أن يقرأ الخطاب فيتلو عليه كلمات عن الحب والغرام ولقاءات العشق، عن ليل الحزن الطويل، والعشق المهزوم، عن الشوق والألم المتلازمان.
يكاد الأب يُصاب بالجنون من صدمة المفاجأة. يسير في الطريق كالتائه، وعندما يلتقي بمعلمة ابنته أمام المعهد يطلب منها أن تقرأ له نفس الخطاب فتحكى عن شيء آخر بلغة أخرى، تحكي عن اختلاف القراءة وتبدلها، عن التربية، عن الأشكال والألوان في الكتب والتعريب، عن النظام الفاسد والمؤسسة التعليمية التي تبني شباباً عقولهم فارغة وقلوبهم ميتة. يدب شك آخر جديد في قلب الهادي، أيهما يصدق؟
إنه يريد أن يعرف حقيقة ما في الخطاب، فيذهب إلى مُنجي ذلك الرجل الذي يحيا وسط الأغنام ويهبط إلى البئر دون أن ينسى وضع شمعتين في ثنايا الحجر. يدور العتاب بين الرجلين قبل أن يقرأ منجي الخطاب فنسمع كلمات عن عدم إيمان يوسف، وشكه في وجود الخالق؟ تتحول الشكوك التي تنهش الأب من خوفه من وجود علاقة بين الشابين إلى مأزق آخر، إذ يصاب بالفزع والأرق وينفجر جنونه عندما يعلم أن ابنته التي ترتدي الحجاب لا تصلي.
عندما تعرف أمينة أن أباها تسلم خطابها تخرج للبحث عنه، فيلتقيان في النفق. يسألها: “أنت محجبة لكن لا تصلين..؟ لماذا الحجاب وما قيمته؟!” تسأله عن سر ثورته وشكه فيها؟ فيجيبها: “أنت غرست الشك في، وجعلتني أتجرعه كالسم قطرة قطرة”. ترد أمينة: “إذا كنت تفكر فلتصدق أنني أقول الحقيقة”. يرد: عندما يصبح للحقيقة أكثر من وجه لا تصبح حقيقة.” يقول الهادي ذلك متناسياً، أو جاهلاً بأن كل إنسان يقرأ الحقيقة من وجهة نظره ومن زاويته متأثراً بشخصيته وأفكاره ومعتقداته.
في المشهد السابق تلتقطهما الكاميرا العلوية تعبيرا عن انسحاقهما تحت القلق والتوتر والغضب، وعندما تفتح الفتاة الخطاب وتعلن أنه تم قبولها تنتقل الكاميرا لتصبح في مستوى النظر تعبيرا عن ندية الاثنين. تبقى الكاميرا في مستوى النظر بين أمينة وأبيها طوال عراكهما، لكنها أيضا تبقى مهتزة دليلا على حقيقة عالمهما وعلاقتهما غير المستقرة المفتقدة للثقة. وهو الأمر الذي يتكرر بدلالاته في مشاهد الأب مع رجل البريد ومع المعلمة، بينما يختلف الوضع مع منجي إذ تصبح الكاميرا أكثر ثباتاً واستقراراً وثقة، فرغم العتاب بين الرجلين لكن علاقتهما تشي بثقة ما، وبقدر من الود لايزال باقياً بينهما.

أسلوب الإخراج
يعتمد المخرج حمزة عوني على اللقطات الطويلة نسبياً في ثلاثة مشاهد مع الشخصيات التي تبدو علاقة الهادي بها متوترة، فمثلاً في مشهده مع رجل البريد توجد لقطة طويلة، تستغرق نحو ثلاث دقائق، وهو زمن سينمائي طويل جداً وإن لم يكن المخرج ماهرا في شحن اللقطة بالمشاعر والأحاسيس، في ضبط الإيقاع والزمن النفسي لأبطاله لترهل إيقاع العمل. تبدأ اللقطة من يدي ساعي البريد وهو يفتح الخطاب ليقرأه: “حبي الكبير أمينة….” وتستمر الكاميرا طوال القراءة في لقطة مشهديه واحدة، تروح وتجيء بينهما، تلف من حولهما، أو تقترب من أحدهما لتبتعد عن الأخر، ثم لتقترب من الإثنين مجدداً في لقطة مقربة أو متوسطة، وخلال حركة الكاميرا المتوترة نكتشف العالم المرتبك لكلا الرجلين.
تسجل الكاميرا أيضاً لقطة طويلة أخرى تجمع الهادي بالمعلمة التي تدعي أنها استقالت، يبلغ طولها ثلاث دقائق و43 ثانية، ومع ذلك جاء الإيقاع لاهث معبراً عن التوتر النفسي للشخصيتين. ثم تأتي إحدى لقطات مشهد عراك الهادي مع ابنته ليقترب زمنها من الدقيقة، بينما لقطاته مع منجي اتسمت بالقصر في طولها الزمني. وتميز الانتقال بين اللقطات والمشاهد بالجمع بين القطع الحاد والصريح أحياناً، أو المزج في ثلاثة مواضع ربما لأسباب مونتاجيه.

الشكوك
الشيطان يختبئ في التفاصيل. وكاتب السيناريو هنا يغرس طوال الفيلم تفاصيل تثير فينا الشكوك، ليس فقط حول القراءات الثلاث للخطاب، لكنه أيضاً يطرح شكوكاً حول الشخصيات نفسها فرجل البريد يبدو وكأنه كذاب، وسلوكه غير مستقيم خصوصاً بعد مضايقته لأمينة في الطريق واقترابه منها بالدراجة ليثير خوفها مما يجعلها تنهره وتنعته بوصف سيء، وربما لذلك فكر في الانتقام منها بادعاء ما جاء في الخطاب، فشخصيته بها لمحة شيطانية وإن كانت تنطوي على مسحة تمنح بعض البهجة والكوميدية في أجزاء من العمل. كذلك المعلمة التي تدعي أنها قدمت استقالتها، فسلوكها يجعلنا نتساءل هل استقالت حقا، أم أقيلت أو ربما طردت؟ الأمر ذاته يدعمه سلوكها بالجري وراء رجل البريد واستحواذها على الدراجة لقيادتها وهي في حالة هستيرية. ومنجي هو الأخر، رغم حالته الهادئة وسكونه الظاهري، ورغم أنه طلب من الهادي أن يتركه في سلام ويذهب لحل مشكلاته بعيداً عنه، لكنه ما أن يبدأ في قراءة الخطاب حتى نتساءل؛ هل حقاً يستقر بداخله سلام واطمئنان؟ فكل شخص منهم لا يقول الحقيقة، وكل منهم يُريد أن يفكر للآخر، بدءاً من الأب الذي يمثل الرقيب على ابنته، مرورا برجل البريد، والمعلمة، والراعي. حتى أمينة نفسها هل حقاً تقول الصدق؟ هل هي أمينة؟ لماذا لم تخبر أباها بحقيقة أفكارها بدلاً من التظاهر بأشياء لإرضائه أو عدم إثارة حنقه.
الأسماء هي الأخرى تثير الشكوك. فلنتأمل دلالاتها. الهادي ليس بهادي، والمُنجي ليس كذلك بدليل الحالة النفسية السيئة للهادي، والحجر الضخم الذي دوي كالانفجار في قاع البئر في ختام حديثهما. وربما لذلك يختتم عوني شريطه بفقرة تقول: “لن نستطيع أن ندرك خطأنا حفاظاً على شيء من كبرياء الفضيلة فينا.. ربما لاعتقادنا الجازم بأن الحقيقة رهيبة، ونحن في غنى عنها..”

رمزية العنوان
تتجلى رمزية العنوان على مستوى آخر من خلال الكادرات أو تصميم اللقطات التي اختارها المخرج، فمنذ المقدمة يأتي عنوان الفيلم على غلاف مظروف أبيض موضوع على خلفية سوداء، وتظل الكاميرا تقترب منهما حتى يستحوذا على الكادر بأكمله. كذلك تأطير الكادر وتكوينه في مشهد المشاجرة بين أمينة ووالدها ينطوي على معادل رمزي، فالابنة تقف في النفق متشحة بسواد العباءة والحجاب، ومن خلفها ينهمر ضوء قوي يحمل استعارة على مستويين؛ المستوى الأول معادلاً للعنوان فهي في اتشاحها بالسواد تصبح على علاقة تناقض مع الضوء الباهر في الخلفية فتبدو وكأنها “الحقيقة أبيض أو أسود”… أما المستوى الثاني فيكشف عن رغبتها في الإفلات من الظلمة، والهروب إلى النور وهو ما يحدث عندما تترك والدها وهى في حالة ثورة عليه، بعد غضبها من آرائه، فتخلع الحجاب والعباءة وتلقي بهما في تحد، وكأنها تعلن تمردها وتتركه مهرولة في اتجاه ضوء النهار.
بقي أن نشير إلى أن المؤثرات الصوتية تسهم في خلق الجو العام للمكان والحالة النفسية للشخصيات بدءاً من صوت دوران عجلة الدراجة، وأنين الحديد الصديء بعجلاتها، مروراً بأصوات نباح كلب عابر من بعيد، وأصوات الأغنام وخرير الماء في البئر، وحركة جمع أوراق الشجر الميتة، ثم صوت محرك السيارة يرتفع وهى تنهب الأرض نهباً. أما الموسيقى فتختفي أثناء المشاهد واللقطات الحوارية، مع ذلك تبدو وكأنها نغمة شعرية محسوسة إذ تلعب دوراً مهما في تقوية الإيقاع، والتعبير العاطفي عن مزاج الشخصيات وشعورها الدفين.
وباستثناء مقطوعة في مشهد لرجل البريد، في مستهل الفيلم، تتركز الموسيقى أساساً على شخصية الهادي، وتظهر فقط في لحظات وحدته وكأنها حالة من المناجاة، وتعبيراً عن حالته الجوانية المشحونة بالانفعالات المتباينة في لحظات مختلفة من الفيلم، ما بين الصدمة والحزن والهزيمة والارتباك والحيرة، وذلك من خلال آلات موسيقية مثل: بزق – كولا – البيانو – والإيقاع المثلث. ثم يختتم حمزة فيلمه بكلمات من أغنية الرحباني: “وين هي الحقيقة؟ أنا بدي أعرف..” فيرد عليه الكورس: “أنت لا تفكر.. نحن نفكر عنك، أنت لا تتدخل.. نحن نتدخل عنك.”

Visited 32 times, 1 visit(s) today