السينما كأداة للمقاومة: جلاوبر روشا نموذجا (4 من 4)

Print Friendly, PDF & Email

في أنطونيو داس مورتيس([i])Antonio das Mortes 1969 فقد أعاد روشا توظيف العناصر التي تعامل معها في أفلامه المبكرة، حيث ظهرت هنا في مزيج مركب يجمع بين الأوبرا الشعبية، الكوميديا الموسيقية، الويسترن، وتوظيف لأسطورة القديس جورج والتنين.

    تجري أحداث الفيلم في (سرتاو)– وهي نفس البلدة التي كانت مكانا لأحداث فيلمه إله وشيطان– وفي هذه المنطقة قدم روشا عدداً من الشخصيات التي استمدها من الأساطير والتراث الشعبي. وبعضها محض خيال: الكولونيل، هوراسيو الضرير، لورا، ماتوس، رئيس الشرطة (ممثل الطبقة الوسطى، رمز القانون والنظام، والذي يعيش على حلم مجيء الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد)، المدرس الذي يبحث عن دور سياسي لا يجرؤ على اتخاذه.. أما بقية شخصيات العمل فمستمدة مباشرة من الميثولوجيا الدينية: الرجل الأسود أنتاو، المرتبط بأفريقيا وأساطيرها، وهو ذو شخصية سلبية للغاية طوال الفيلم (ويبدو أنه المعادل الرمزي للشخصية البرازيلية)، لكنه في النهاية يفاجئ الجميع بأن يخرج عليهم مثل القديس جورج ويطعن التنين المتمثل في هوراسيو؛ وهناك أيضًا الراهبة الصامتة. وأخيرا هناك شخصيات مستمدة من الأساطيرالشعبية: الشخصية التي سمي الفيلم باسمها، أنطونيو، وهو القاتل الذي يتم استئجاره والذي تميز طوال الفيلم بعباءته المكسيكية والقبعة، والذي قتل في السابق لامبياو (قائد العصابات التي تقاتل لأجل الفقراء)، ويستدعيه هوراسيو ليقتل كويرانا، خليفة لامبياو. وفي النهاية هناك “جاجينكوز” jaguncos، عصابة من القتلة المأجورين (وقد كان أنطونيو في البداية واحدا منهم)، ويلجأ إليهم هوراسيو في النهاية، بعدما يحدث  التحول في شخصية أنطونيو.

    وكما في “الإله والشيطان” يبدأ روشا الفيلم بمشهد من كاميرا ثابتة لصحراء سرتاو القاحلة،  ثم نسمع صوت طلقات الرصاص، يعقبها ظهور شخصية أنطونيو في الكادر وهو يطلق الرصاص صوب هدف ما. وما يلبث أن يظهر هذا الهدف داخل الكادر، متمثلا في فلاح بسيط، يأخذ في الصراخ، ثم يحتضر متأثرًا بالرصاصات التي تلقاها. هذا المشهد قصد به روشا استدعاء شخصية أنطونيو، لدى المتلقي، التي ظهرت سابقا في الإله والشيطان. 

    لكن ثمة اختلاف كبير بين أسلوب روشا في الإله والشيطان وأسلوبه في أنطونيو. بداية من التصوير وحركة الكاميرا، حيث يصور روشا الأشخاص أو المجاميع بزاوية تسعين درجة على خلفية ذات ألوان زاهية، بحيث يظهر المكان مستو، خاليًا من عمق المجال في معظم المشاهد؛ وحتى طريقة القطع ومدته إذ تبدو اللقطات مركبة طويلة متوافقة مع بنية السرد الخطية. وقد اعتمد روشا في فيلمه على أسلوب مونتاج يماثل أسلوب آيزنشتاين (المونتاج الديالكتيكي الذي يهدف إلى إبراز المعنى عبر التضاد أو التقابل بين مشهدين). فنحن إذ نرى هوراسيو وهو يشجب مطالب الناس، ويقسم ألا يأخذ أحدًا الأرض منه، ويرفض الإصلاح الزراعي؛ نجد روشا ينتقل من هذا العجوز الأعمى إلى ممر جبلي حيث يرقص الناس ويغنون، ثم يبتعد بالكاميرا ببطء في لقطة عامة، ليرسخ لدينا إدراك أن ما يخشاه الكولونيل هو التمرد، وهو أقوى بكثير من أي سلاح تقني.

    كان على روشا اكتشاف تلك القوة الكامنة في الناس بغية تحريرها..القوة التي من الممكن أن تخلق الثورة. فلا يوجد تاريخ ثوري في البرازيل، هناك فقط تاريخ للقهر والعبودية، تولد عنه تاريخ مواز من الخوف والخنوع. لذا ينبغي، كخطوة أولى نحو التمرد، تحليل ذلك الخوف، ثم تحويله لطاقة إيجابية تقهر اليأس الخنوع. من هنا استحضر روشا في أنطونيو، العديد من الشخصيات والقصص الدينية والأسطورية التي تلعب دورًا مؤثرًا في الثقافة البرازيلية، وأعاد إحياءها وربطها بالحياة المعاصرة. وربما هدف روشا من هذا اكتشاف البعد الثوري للأسطورة، والدور الذي من الممكن أن تلعبه، إذا ما تم توظيفها.

    للفيلم ثلاث ذروات رئيسة، تظهر جميعها في النصف الثاني من الأحداث. الأولى عندما يقوم الكولونيل باستدعاء أنطونيو إلى سرتاو للتخلص من كويرانا المتمرد، كما تخلص من قبل من لامبياو. ويظهر التناقض بين شخصية أنطونيو وكويرانا، فأحدهما يقاتل نيابة عن الفلاحين أما الآخر فيقاتل ضدهم. ويمثل القتال بينهما تجسيدًا لهذا الاختلاف. وأمام الناس الذين يرقصون ويغنون حول المواجهة، أو “النزال بين تنين الشر والقديس المحارب”- وفقًا للعنوان الأصلي للفيلم، يقبض كلاً من أنطونيو وكويرانا على منجل وسيف ويجز كلاً منهما بأسنانه على طرف قطعة من القماش الحمراء التي تصل بينهما. يصيب أنطونيو كويرانا إصابة غائرة، ما يلبث بعد ذلك أن يحمله ليلقيه في منطقة ما داخل الجبل، وتلك هي الذروة الأولى في الفيلم.

يحدث التحول الرئيس في الفيلم من خلال النقلة الحاسمة في شخصية أنطونيو من الشر إلى الخير، من قاتل مأجور، إلى مدافع عن حقوق الفلاحين، وما تخلل ذلك من مرحلة انتقالية يعي فيها مدى الشرور التي ارتكبها، وقد كان لشخصية المدرس دور في هذه النقلة. وعند هذه النقطة يقوم روشا ولبعض الوقت بإخراج كلا الشخصيتين من عالمهما. فهما يغادران القرية في سرتاو ويدخلان عالما أكثر “واقعية”. مكان به شاحنات وطرق سريعة وحركة وتجارة، عالم الاقتصاد الصناعي. ونرى لقطات تجوالهما بين الشاحنات بالتبادل، مع لقطات أخرى، بطريقة المونتاج المتوازي، لأهالي سرتاو الفقراء من ناحية، والمؤسسات الرأسمالية التي تبتلع اقتصادهم من ناحية أخرى. ويبدو مشهد الطريق هذا موحيًا، إذ يشير إلى أن الإقطاعي الطاغية قد هدم كل الجسور التي تربط بين الفلاحين المتدينين وهذا العالم، عن طريق اقتصاد يتجاهلهم، وحالة روحانية لا مكان لها في عصر الطرق السريعة. وهنا يشير التناقض البصري إلى المسافة الاجتماعية والاقتصادية بينهم، وهي مسافة يتوجب على أنطونيو– وهو يستمر في نقلته من كونه قاتلًا مأجورًا، إلى حامٍ لهؤلاء الناس– أن يقطعها.

    تبدأ أولى مهام أنطونيو في عالمه الجديد متمثلة في محاولة انتشال المدرس من عجزه النفسي والوجداني ليعيده قسرا إلى سرتاو.ويوظف روشا الموسيقى هنا من خلال إضافة أغنية بوب في الخلفية…”أنهض، انفض عنك الغبار. هيا اصعد…لا يبقى القوي في الأسفل ولا يحتاج مساعدة امرأة…”. ومثله مثل جودار، يجد روشا أن كافة مستويات الخطاب، من العميق وحتى السطحي، تفيد في بناء وتكامل رسالة الفيلم. فتصبح كلمات أغنية بوب، تبدو سطحية، مكملة لمشاهد أنطونيو التي يحاول فيها إخراج المدرس من عالمه، تماما مثلما وظف روشا الأغاني الدينية والفولكلورية في مشاهد القتال بين أنطونيو وكويرانا، والتي منحت القتال جوًا أسطوريًا. والواقع أن توظيف روشا للأغنية والموسيقى، عموما، في هذا الفيلم قد بلغ ذروته، إذ لا يخلو مشهد، حتى أثناء الحوار، من حضور لهما.

    وبينما يواصل روشا المزج بين تلك الأنماط، تتوالى الأحداث التي تدفع بالسرد نحو التصاعد. فيأخذ أنطونيو المدرس كي يرى جثة كويرانا، الذي لقي مصرعه على يد عصابة جاجينكوز، في مشهد عمد المونتاج إلى الوصول فيه بالمشاهد إلى الذروة. حيث يجمع الكادر بين المقاتل والمفكر وهما ينظران خارجه في دهشة، ويتم القطع نحو الشيء الذي ينظران إليه، جثة كويرانا معلقة في جذع شجرة جاف (يستدعي هنا مشهد صلب المسيح، وللصليب حضور قوي في كل أعمال روشا). وبينما تتحرك الكاميرا مقتربة من هذا الشخص الغريب الذي يرتدي الملابس مبهرجة الألوان (الزي الشعبي البرازيلي)، يعلن تراك الصوت عن أغنية جديدة، وهو موال كوميدي شعبي يتحدث عن لامبياو الأسطورة، الذي، كما يقول الموال، ينهب وكر للعب القمار ويحرر السود المسجونين بداخله. ويأخذ المدرس سيف ومسدس كويرانا، في حين تسلم الراهبة لأنطونيو قبعته وبندقيته. وهنا يلاقيهم هوراسيو ولورا والعصابة في مواجهة أخيرة. وتكون الكنيسة هي مكان اللقاء، حيث يجتمع فيها كافة طوائف المجتمع البرازيلي. وفي لقطة لهذه البناية البيضاء ذات النوافذ الزرقاء (الكنيسة) يظهر المدرس- وتلك هي الذروة الثانية للفيلم- مسلحا بسيف البطل الصريع، ليعلن عن اندلاع الثورة كما لو كانت هي النهاية:

أيها الكولونيل!…لقد حان الوقت…وتفتحت أعين من في هذه البلدة…لم يسبق لي أن أرقت دماء أحد. ولكنني مستعد لأن أريق دمي انتقاما لأهل سرتاو المهانون المقموعون. وإني لأستشهد هنا بكلمات الكتاب المقدس التي تقول…العين بالعين والسن بالسن!

بعد هذه الدعوة يقوم أنطونيو والمدرس بتقسيم المهام فيما بينهما، وروشا هنا يلمح لتلك الإشكالية القديمة للعلاقة بين النظرية والتطبيق. يقول المدرس: “ستقاتل بشجاعتك وسأقاتل أنا في ظلك”. فيجيبه أنطونيو: “كلا. قاتل بأفكارك، فهي تفوقني قيمة”. ويتقدمان سويا لقتال العصابة في مشهد يتطابق مع مشاهد القتال في أفلام الويسترن الأمريكي، حيث الطريقة الاستعراضية في الفتال. وروشا هنا يحول المشهد غربي الطابع الخاص برعاة البقر إلى أوبرا ثورية كبرى (وهنا نؤكد على فكرتنا السابقة من أن روشا لم يقف موقفًا عدائيًا من التجارب السينمائية الأخرى، بما فيها الأمريكية، لكنه كان يجيد توظيفها لخدمة أهدافه).

    تستمر الأحداث في التصاعد وصولا للذروة الثالثة. فمع وصول تبادل إطلاق النار إلى ذروته يصعد أنتاو ومعه الراهبة لمواجهة الكولونيل. ويبدو المحارب الأسود الآن كما لو كان القديس جورج. وبعد سلسلة من اللقطات المتداخلة والتي تحاكي أيضًا أسلوب آيزنشتاين الذي يكرر تصوير نفس الحركة من عدة منظورات زمنية ومكانية، يُطعن الكولونيل ويسقط صريعًا. لقد تم قتل التنين. وتلك هي نقطة التقاطع بين التاريخ والأسطورة، وهي نفسها لحظة اكتمال اللحظة الثورية في الفيلم. ويترك روشا للمشاهد التفكير فيما قد يحدث من أحداث بعد هذا. وينتهي الفيلم بعدد من المشاهد للشخصيات الرئيسة– المدرس (يحمل حبيبته التي قتلت في المعركة)، أنطاو والراهبة (يمتطيان الحصان وأنطاو يمسك الرمح الملوث بدماء هوراسيو)، والقس، وهم الذين يمثلون حماة الشعب. ويختتم موال لامبياو الذي كان مازال يشدو بأن يخبرنا بحرق البطل لكتاب الشيطان وتحطيمه لساعته (كان هذا يوم الخسران للشيطان..لقد ذهبت ثروته أدراج الرياح..فقال الشيطان: لا مزيد من الأهوال..ستغدو حياتي شتاءً طويلًا..وسأذهب الآن لنهايتي). وتبقى شخصية أنطونيو، الذي كان قاتلاً مجرما، فصار بطلًا يقاتل لأجل الشعب، مبهمة، وهو يهيم فوق طريق سريع تظهر لافتاته علامات الهيمنة الأمريكية (مجموعة من الأيقونات لبعض الشركات الأمريكية الشهيرة). يبحث عن مكان للراحة بعد أن أعياه الطريق، كما لو كان روشا يشير بذلك إلى نفسه طامعا في شيء من الراحة قبل أن يستكمل طريقه الثوري الطويل([ii]).


([i])  Glauber Rocha, Director, Antonio das Mortes, Versatil,1969.

  • اعتمدت في تحليلي لهذا الفيلم على رؤيتي الخاصة، إضافة إلى استفادتي من التحليل الذي قدمهPhillip Kollkerللفيلم في كتابهسابق الذكر(هامش37) ص  220- 226.
  • Q

[ii]))بعد فترة قصيرة من إخراجه أنطونيو داس مورتيس يغادر روشا البرازيل، مضطرًا، متوجهًا للكونغو، حيث أخرج فيلما يتحدث عن الاستعمار، للأسد سبعة رؤوس Der Leone Have Sept Cabezas 1970. ويتضح من عنوان الفيلم النزعة الأممية لروشا، إذ هو مكتوب بأكثر من لغة. ثم انتقل روشا إلى أوروبا، وأخرج فيلمه تاريخ البرازيل História do Brasil 1974وهوفيلم وثائقي مدته (166 دقيقة) يروي فيه تاريخ البرازيل الحديث.يعود روشا لبلده عام 1975، ليخرج ثلاثة أفلام بعيدة عن الاتجاه الثوري الذي التزمه منذ بداية أعماله، كلاروClaro 1975، دي كافلكانتيDi Cavalcanti 1977، وجورجآمادو في السينما Jorjamado no cinema 1977،وهي أفلام أقرب إلى السينما الوثائقية، وتبدو كأنها تحية من روشا لبعض المبدعين السابقين عليه. أما فيلمه الأخير، الذي لم ينل استحسان النقاد أو حتى المتابعين لأعماله، فهوعمر الأرضA Idade da Terra 1980  يعود فيه روشا لتيمة الحكي التاريخي التي بدأها في تاريخ البرازيل. وقد توفي روشا في العام 1981، ومثلت وفاته نهاية تيار السينما الجديدة.

Visited 21 times, 1 visit(s) today