شاعرية التكرار في الخطاب السينمائي المعاصر
يثير تكرار الصورة وحركة الاشياء في السينما لدي المشاهد لذة حسية، ونهم جمالي شاعري، حيث يري المشاهد المعني أو الشئ او الاحساس او الصورة أكثر من مرة ، فينتظر شيئا جديداً في شئ شاهده من قبل، وقدرة المخرج علي ابهار المشاهد في هذا التكرار، تكون معياراً مهماً في زيادة تأثير شاعرية التكرار علي المشاهد، فكلما كان المخرج اكثر جمالياً وشاعرياً كان الامر اكثر قوة. ويقترب معني التكرار في السينما من معناه في الشعر، باختلاف نوعية الوسيط أو الخطاب، ففي الشعر يتعلق التكرار بالكلمة والمعني، أم في السينما يتجاوز الكلمة المتمثلة في السرد والحوار، إلي الصورة وهي الاقوي والأكثر تأثيرا علي الفرد من الحوار في الفيلم، فتكرار الصورة الجمالية الشاعرية، يحدث في نفسية المشاهد أحساسا بلذة شاعرية تتجدد وتتكشف مع تكرار اللقطة. ويحاول المقال هنا تبيان هذا التكرار في السينما، وبعض تجلياته في بعض الافلام، ومدي تقاربه مع معناه في الشعر.
الشعر والسينما
يلاحظ أن السينما بها كثير من الصور والسرد المليء بالشاعرية، وهناك الكثير من المخرجين اللذين يصنفون على انهم من اصحاب الروح الشاعرية، ويأتي عنصر التكرار كأحد معايير الجمال في الشعر، ومعايير تكوين بنيته النصية، وهذه العلاقة الشائكة بين الشعر والسينما، لا تتوقف عن الجدل، واثارة الاسئلة، وهنا نحاول التركيز، علي معني التكرار في السينما من الناحية الشاعرية، واذا نظرنا الي اراء بعض الفلاسفة في هذا المنحي، نجد الفيلسوف والمنظر الادبي والجمالي يوري لوتمان يقول “أن الميل الي التكرار هو احد المباديء التي يقوم عليها الشعر، والتكرار يصنع اختلافاً، فكل تكرار يخلق علاقة تناغم وتضاد وتجاوز ومقارنة، فالتكرار في الادب لا يعني اننا نعيد نفس الشئ في كل مرةأبدا، بل التكرار يزيد النص ثراءً وتنوعاً ويساعد علي فهم بنيته”. وهذا يؤكد ان تكرار لقطة في الفيلم، لا يعني أعادة نفس الشئ، انما هو يزيد من فهم فكرة الفيلم، بجانب الي اللذة الشاعرية من تكرار الصورة وجمالياتها.
وهذا التكرار في السينما لا يعبر عن نظام ومنطق ما، انما هو انعكاس العالم يحدث بشكل جزئي للنظام، فليست هناك منظومة تشير وتؤسس لهذا التكرار، فهناك كثير من انواع التكرار في السينما، ويقول يوري لوتمان ” البنية الشعرية ذات طبيعة تكرارية حين تنتظم في نسق لغوي، وهي نص شعري ليس في الحقيقة نظاماً، بل هو إحداث جزئي للنظام، وهو لوحة شعرية للعالم يقدم نظام كليا تتحق من خلاله الموقعية التكرارية بالكامل، وهي موقعية بتمثل محورها الاساسي فيما يدعي بالتوزاي”.
شاعرية كارستامي
كل افلام المخرج الايراني عباس كيارستامي تعبر عن حالة شعرية خالصة، البناء الشعري لدي كيارستامي هائل وضخم، يكاد يكون غير مدرك، فكيارستامي، لديه ثقافة شعرية سواء نظرية او انه شاعر بنفسه، فهو قادر علي تحويل القصيدة الي صورة، بجانب انه يتجاوز الشعر نفسه في بعض افلامه، ومن وحي خياله الشعري، فالصورة لديه هي صورة الشعر، السرد لديه سرد شعري، المونتاج لديه مونتاج شعري، المجال واللقطة لديه لقطة شعرية، من يستطيع المسك بمفاتحيه اللغوية في الشعر يجب ان يكون شاعرا مبتدأ علي الاقل، الامر اشبه بحالة شعرية لا تتوقف، فالشعر خطاب رومانسي بشكل فظ ومفرط، فهناك دائما قيم انسانية مجسدة لديه، فالشعر الذي يسعي دائما الي علاج الروح، وايجاد مساحات هائلة للاستمرار في مواجهة قبح العالم، يتجسد لدي كيارستامي بشكل صريح وجمالي ومدهش، انها سياحة الشعر في افلام رجل اراد أن يجعل من السينما الشعر، انه رائد مدرسة الشعر في السينما، لذا نال شهرة واسعة للغاية لدي كثير من المشاهدين.
ورغم ان كيارستامي يعتبر الاب الروحي لمعني الشعر في السينما، إلا أن المقال سيركز على جانب واحد من شعرية كيارستامي حيث سيتم الإشارة إلى جمالية التكرار في بعض افلامه، ففي فيلمه “الرياح سوف تحملنا”، تظهر جماليات تكرار المشاهد واللقطات كثيرا، وبأشكال مختلفة ومتغيرة، حيث هناك تكرارت في مشهدية معينة ، فالفيلم يحكي عن رجل ومعه أخرون يذهبون الي قرية لتسجيل بعض الملاحظات دون تحديد هدفهم من الزيارة، هناك تكرارات في مشاهد لهذا الراجل، حيث مشهد حلاقة الذقن، ففي مشهد تكون المرآة هي الكاميرا، ومشهد أخر يحلق ذقنه وهو يتحرك علي السلالم ويحدث طفلا ينتظره في الاسفل. وايضا هناك حركة السيارة التي يركبها هذا الرجل وتسير في اتجاهات مختلفة في مكان صحراوي به بعض الاشجار، ففي احد المشاهد يأخد الطريق الي الامام، وفي مشهد أخر يقوم بالاستدارة بالسيارة ويدخل بين شجرتين، ومشهد ثالث يغير فيه الاتجاه. وهذ الاماكن الخارجية للطبيعة الخلابة والحقول والتلال والطرق المتعرجة وتكرارها بشكل جمالي فهي لا تدل عن قصة الفيلم، انما تعبير شعري للمعني ككل. والفيلم هو عنوان قصيدة شعر لفروغ فروخزاد، فكانت الصورة بها لمحات شعرية بل تجسيدا للقصيدة عن موت امرأة وتفاصيل الاخرين المتابعين لذلك، لذا يأتي التكرار الجمالي كجزء من القصيدة نفسها.
شاعرية بيلاتار
وتتميز افلام المخرج المجري بيلاتار، بشاعرية الصورة بشكل مفرط، فهناك جمالية الأبيض والاسود، والمعني السوداوي الحزين للحياة الملئ بالشاعرية، والمناظر والاصوات الطبيعية، التي تجسد وتمثل معاني كثيرة، وذلك يمثل شاعرية المجاز والرمز، وجمالية التكرار وشاعريتها موجودة في أفلامه، خاصة في فيلمه “حصان تورينو”، حيث يتكون الفيلم من سبعة أيام يحدث تكرار فيهم لكل شئ حول تفاصيل حياة أب وأبنته، ولكن هذا التكرار يختلف نسبيا في بعض الاشياء وظهور تفاصيل جديدة، ولكن التكرار الرئيسي موجود، والمشهد في كليته يتكرر كل يوم، حيث تناول الطعام وشكل المائدة ونوع الطعام، وطريقة الاستيقاظ، والجلوس علي الكراسي، والخروج من المنزل وتدبير شؤون الحصان الذي يساعدهم في تدبير حياتهم اليومية، وأيضا شدة وقوة الرياح التي تحيط بالمنزل، والمناظر الطبيعية التي تحيط بالمنزل الخشبي الذي يتميز بشكل وملامح باهتة وضبابية.
ويأتي هذا التكرار في فيلم بيلاتار، لتأكيد المعني أيضا، فهناك تأويل لتأكيد روح البؤس الشديدة وقسوة العالم، وملامح الحضارة الحديثة، واغتراب الانسان عن انسانيته ومثاليته، و هناك تأويل ديني لفكرة السبع أيام، وهي مدة خلق العالم، وهي رمزية دينية، يريد بيلاتار اثبات معني ما، وهذا التكرار يشير الي جماليات المعني، فهو تكرار مفرط، وليس تكرار جزئي ظهر في بعض اللقطات دون غيرها، انما هو تكرار رئيسي، فالفيلم مقسم الي سبعة أيام بسبعة تكرارات لكل شئ.
تكرار الملل
في فيلم (Bent (1997، اخراج سين ماثياس، هناك حالة من التكرار الحياتي والملل والجنون فهذا الفيلم يتحدث عن معاداة النازية في المانيا للمثلية. فهناك ممارسات عنيفة وعقابية من جانب قوات النازية ضد بعض المثليين في المعسكرات.
وجاء التكرار في مشاهد الفيلم لتعذيب اثنين من المثليين في المعسكر، حيث يقومون بحمل الحجارة من مكان الي مكان اخر بدون جدوي ودون هدف، وذلك بدافع الملل، وقال أحدهم للأخر إن الهدف من ذلك هو إيصالنا لحالة الجنون نفسها. وأيضا تحول الامر الي حال اكثر عبثيا عندما قام الاثنان بحمل الثلج الصغير الموجود علي الأرض ووضعه الي مكان اخر قريب من مكان تواجده، وتكرر هذا المشهد مثل تكرار مشهد حمل الحجارة، حيث يتم تكليفهم بحمل أي شئ من اجل التعذيب والملل. وهناك تكرار لمشاهد تخيلية بينهم لممارسة الحب، دون ان يلمسا بعضهما البعض، فجاء الحوار بينهما جمالياً يدل علي قسوة احتياجها لهذا الامر وحرمانها منه بشكل فعلي.
الهدف من التكرار في هذه المشاهد التعبير عن معني في الحياة، معني الملل، فهذا النوع من التعذيب يقصد به اشعار الشخص بالملل الذي يتحول إلي ألم نفسي وشعور باللاجدوي، ورغم ذلك إلا أن هذه التكرارت لها جمالياتها التي حضرت بقوة.وكانت المشاهد طوال الفيلم جمالية أيضا، من حيث ملابس البطلين وحركتهما، وشكل الحجارة، والالوان التي تشكل المشاهد، وزوايا التصوير.
شاعرية جارموش
تتميز أفلام جيم جارموش المخرج الامريكي المستقل، بشاعرية ضبابية حزينة، فهناك نسائم تلمس لقطات افلامه، وريح حزينة تهب علي المشاهد وتجلب له عالم تشاؤمي يعبر عن معني العالم.
ففي فيلمه الاخير “باترسون”، هناك حالة شاعرية متكاملة، في الفيلم نفسه يتحدث عن الشعر، ويتحدث بطل الفيلم الذي يدعي “باترسون” الذي يكتب الشعر في الفيلم كجزء من الحكاية السردية، وهناك أيضا حالة من جماليات التكرار الشعري والتشابه والمجاز ومزج الخيال بالواقع في الفيلم، فاستطاع جارموش أن يجعل الفيلم نفسه قصيدة شعرية لا تتوقف عن التدفق الجمالي، وجداء الفيلم معبرا عن كثير من معايير وجماليات الشعر، فالامر أقرب الى حالة احتفالية كرنفالية بالشعر، دعوة لا تتوقف لالتهام الشعر، تذوقه وتنفسه، والعيش فيه، كأن جارموش يريد أن يقول للمشاهد “دعك من الواقع، وعش في الشعر دون توقف”.
وتميز الفيلم بشاعرية التكرار، حتي أصبح هذا المعني المتجسد في الفيلم يشير أن الحياة نفسها مجموعة من التكرارات، تكرار النوم والاستيقاظ، تكرار لحظات الحب، تكرار لحظات الملل في العمل، تكرار لحظات الرغبة في كل شئ، وهذه اشارة لمعني في الحياة، بهذا يكون الفيلم قطعة من الحياة نفسها في قصيدة شعرية.
وهناك مشاهد تكررت حول قراءة باترسون لبعض أبيات القصائد التي يكتبها بنفسه، يصاحبها صور ولقطات ضبابية بشدة للحياة والاشياء، وذلك يصنع شاعرية الصورة وتكرار الجملة معاً. وهذه الصورة الضبابية ظهرت اثناء عملة فهو يقود حافلة للركاب في المدينة التي يعيش فيها ويسير في شوارعها كل يوم بشكل اعتيادي وروتيني، هذه الضبابية مثل الحلم، مثل اللاوعي، وايضا الايام تتكرر مع زوجته، فكل يوم يستيقظ وهي في حضنه، ويتم كتابة تاريخ اليوم علي الشاشة، وكل ذلك لا يدل سوي علي أن هناك ملل في كل شئ، ولكن الحب بين الزوجين الذي يظهر في الحكاية وقصائد الشعر التي تقرأ يعتبران مقاومة للذات وحائط صد امام الملل والروتين والاعتياد الذي يغلف حياة البطل “باترسون”.
ويمكننا الحديث عن أكثر من مثال لجمالية التكرار في الفيلم فهناك مشهد فيه تكرار بظهور اطفال توأم يشبهون بعضهم البعض في الملامح والملابس، وايضا يأتي ذلك في سياق أن باترسون وزوجته يريدون توأم، ويحدث التكرار هنا بالمزج بين الواقع والخيال والاحلام، وايضا عالم الزوجه شاعري للغاية، فهي تقوم بطلاء الجدران باللون الابيض والاسود وهو لون الكعك الذي تصنعه، وهو تكرار وتشابه شاعري.