الأفلام الغنائية المصرية.. من حليم إلى تامر حسني

د. ماهر عبد المحسن

عرفت السينما المصرية الأفلام الغنائية في مرحلة مبكرة جداً من تاريخها، حتى إن البعض يؤرخ لبداية هذا التاريخ بالفيلم الغنائي “أنشودة الفؤاد” للمطربة نادرة، الذي أخرجه ماريو فولبي عام 1932، وتلاه فيلم “الوردة البيضاء” الذي قام ببطولته محمد عبد الوهاب، وأخرجه محمد كريم عام 1933.

وفي كل الأحوال، فإن الأفلام الغنائية كان لها حضور كبير في بدايات القرن الماضي، وقد استمر هذا الحضور لسنوات طويلة لاحقة، نظراً لأنه ارتبط بمطربين كان لهم وزن وثقل في الحياة الفنية في مصر، مثل عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وليلى مراد ومحمد فوزي وعبد الحليم حافظ وشادية وصباح ونجاة ومحرم فؤاد… والقائمة تطول.

أنشودة الفؤاد

 وفي هذا السياق، يمكن القول إن عنصر الغناء كان هو الدافع لمشاهدة هذه النوعية من الأفلام، بدليل أن المطربين الذين قدّموا أفلاماً غنائية لم يكونوا، جمعيهم، يجيدون فن التمثيل. كما إن الموضوعات التي قاموا بالتمثيل فيها لم تكن دائماً جديدة أو عميقة، لذلك انحصرت في الكوميديا والرومانسية، ولم تتطرق إلى القضايا الاجتماعية إلا قليلاً، بينما انعدمت القضايا السياسية تماماً.

وتعد شادية حالة استثنائية، لأنها الوحيدة، بين المطربين والمطربات، التي خاضت التحدي، ونجحت في تقديم أفلام متنوعة، اعتمدت فيها على التمثيل الخالص مع قليل من الغناء.

وتعتبر الأفلام الغنائية حالة فريدة في موضوعنا، لأن المطرب، خلافاً للممثل، مهما بلغت نجوميته، يظل له النصيب الأكبر من حب الجماهير. وعلى ذلك، يدخل المطرب تجربة التمثيل معتمداً على جماهيرية مسبقة، بمعنى أنه، كما يقال، ضامن لشباك التذاكر، خاصة إذا كان بحجم الأسماء التي أشرنا إليها.

وهنا ينبغي أن نميز بين مرحلتين في تاريخ السينما الغنائية: مرحلة ما قبل رحيل عبد الحليم حافظ، ومرحلة ما بعد رحيلة. فالعندليب الأسمر كان أيقونة الأفلام الغنائية دون منازع، حتى في ظل وجود عمالقة كبار مثل عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش، لأن عبد الحليم كان الأقرب سناً و روحاً من الشباب، ولأن معاناة عبد الحليم وكاريزمته الشخصية كانت سبباً في تعاطف الجمهور معه. أضف إلى ذلك ذكاء حليم، الذي جعله يشعر بنبض الجماهير، ويحرص دائماً على تقديم الجديد الذي يجذب محبيه إلى أعماله. كما إن أغانيه الوطنية التي عبّرت عن لحظات الهزيمة والانتصار، جعلت صوته وأغانيه أكثر قرباً من وجدان الناس.

ولأنى لم أكن من جيل عبد الحليم، فلم أعرفه ولم أتأثر به إلا عن طريق أفلامه التي كان يعرضها التليفزيون دائماً، خاصة في ذكرى وفاته التي كنت انتظرها من السنة إلي السنة، حتى أشاهد “أيامنا الحلوة” و “الخطايا” و “شارع الحب” و “معبودة الجماهير” أحب الأفلام إلى قلبي.

أبي فوق الشجرة

وظل حلم مشاهدة فيلم “أبي فوق الشجرة” يراودني لسنوات، لعدة أسباب أهمها أن الفيلم لم يكن يُذاع على شاشة التليفزيون، ولأن أغانيه كانت تُذاع دائماً في التليفزيون وفى الإذاعة، وكان لديّ الفضول لمعرفة السياقات العاطفية والاجتماعية التي صاحبت هذه الأغاني، والسبب الأخير، والطريف، أني كنت قد شاهدته في السينما في مرحلة سنيّة صغيرة جداً مع والدي، ولم أكن أتذكر منه سوى بعض المشاهد الضبابية، غير الواضحة، التي صُورت على البلاج بالإسكندرية.

وقد تحقق الحلم أخيراً، في واحدة من المرات التي أُعيد فيها عرض الفيلم في إحدى سينمات وسط البلد بعماد الدين (ليدو أو بيجال على ما أذكر)، وكان يُعاد عرضة دائماً في السينمات الشعبية. والحقيقة أن دوافعي لدخول الفيلم كانت واضحة بالنسبة لي، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لدوافع الآخرين، فأن يذهب الجمهور إلى السينما، حتى لو كان من عشاق العندليب، لمشاهدة فيلم تم إنتاجه منذ سنوات بعيدة (عام 1969)، فهذه مسألة تستحق التأمل. والحقيقة أن تأملي لم يدم طويلاً حتى عرفت السبب، فمن المؤكد أن الفيلم كان وما يزال يستحق المشاهدة في دور العرض، لأن الفيلم، الذي أخرجه حسين كمال، يُعتبر تحفة بصرية جذابة وممتعة، خاصة أن أحداث الفيلم تدور بين الإسكندرية ولبنان، وقد كان كمال، بشهادة الكثيرين، يُعد بهذا الفيلم رائداً مهماً من رواد أغاني الفيديو كليب التي ازدهرت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. فقد نجح، بدرجة كبيرة، في الاستفادة من المناظر الطبيعية في الإسكندرية ولبنان، لدرجة أن صارت هذه المناظر أيقونات سياحية للمدينتين. أضف إلى ذلك أن “أبي فوق الشجرة” اعتمد على نفس أبطال فيلم “الخطايا”، أكثر أفلام حليم جماهيرية، بالإضافة إلى ميرفت أمين صاحبة الوجه الملائكي المعبّر، كما أن الفيلم لعب على التيمة التي أثبتت نجاحها في فيلم “الخطايا”، وهى تيمة الابن العاق، الذي يتحدى والده ويخرج عن الطوق، فتحدث بينهما مواجهة صادمة ومؤثرة، يتلقى فيها حليم صفعة على وجهه في “الخطايا” وعدة صفعات في “أبي فوق الشجرة”، وهى المسألة التي كان لها أبلغ الأثر في خلق حالة كبيرة من التعاطف بين الجمهور ونجمه المحبوب.

أبي فوق الشجرة

فهل ذهب الجمهور إلى السينما لهذه الأسباب؟

ربما، خاصة أن الجمهور، كما هي العادة دائماً، كان من الشباب، ومن المخطوبين، والذين مازالوا في طور العاطفة ولم تتوج عاطفتهم بإجراء رسمي بعد. لكن المفاجأة التي اكتشفتها بنفسي، في ذلك الوقت، أن كثيراً من الشباب دخل الفيلم بسبب كم القبلات التي كانت فيه، بين حليم وميرفت أمين، وبينه وبين نادية لطفي، لدرجة أن البعض كان يقوم بحساب عدد القبلات، وكان البعض الآخر يقارن بين النجمتين، ليعرف أيتهما أكثر إثارة وجاذبية، والطريف أن كفة نادية لطفي كانت هي الأرجح، والسبب كان واضحاً. فميرفت أمين كانت تمثل العفة والبراءة، بينما لعبت نادية لطفي دور الراقصة المجرّبة، التي منحت حليم ما كان يفتقد إليه مع ميرفت أمين.

والمسألة، بهذا المعنى تحتاج إلى إعادة قراءة لأحداث الفيلم، فالقضية الأساسية لم تكن في العلاقة الميلودرامية التي وقعت بين ابن انزلق إلى مستنقع الرزيلة، وأب أراد أن ينقذه فوقع هو أيضاً فيها، وإنما القضية كانت صراعاً قلبياً وإنسانياً بين امرأتين يُحار بينهما رجل، بحيث يتخبط كثيراً قبل أن يدرك الخيار الصحيح. وبهذا المعنى، نرى أن الاسم الأنسب للفيلم هو “رجل بين شجرتين” وليس “أبي فوق الشجرة”، شجرة ناعسة تظلل على نفسها وعلى حبيبها (ميرفت أمين) وشجرة متفتحة الأوراق ومفرودة الفروع والأغصان تسع الحبيب والغريب كذلك (نادية لطفي).

وإذا انتقلنا إلى المرحلة التالية بعد وفاة العندليب، فسنجد أن الأفلام الغنائية تراجعت، وفقدت الكثير من شعبيتها، خاصة أن مستوى الأغنية نفسه تدنى، كما أن المحاولات الجادة في الأغنية، في بداية هذه الفترة، كانت تعاني من عقدة عبد الحليم، كما عانى الجيل نفسه من عقدة نجيب محفوظ، خاصة بعد نوبل. وللحق فقد حاول أبناء هذا الجيل أن يشق طريقه بشكل مغاير، بعد أن فشل في محاكاة العندليب، إلا إن تجاوز هذا الحاجز احتاج إلى سنوات قبل أن يتحقق، ويتقبل الجمهور نجماً آخر، خلافاً لحليم، يقوم ببطولة الأفلام الغنائية.

وفي هذا السياق، برز إيمان البحر درويش، الذي اعتمد على أغاني سيد درويش التي سبق وأن غناها (إيمان) على المسرح، وحققت نجاحاً كبيراً، ونجحت أيضاً هذه الأغاني سينمائياً بعد وضعها داخل إطار بصري درامي أضفى عليها مزيداً من الجاذبية، لكن ظلت بالرغم من ذلك محدودة النجاح والانتشار. والطريف أن أكثر الأغاني السينمائية نجاحاً كان مكتوباً له خصيصاً، بعيداً عن تراث الجد، الذي كان سبباً مباشراً في تعرف الجمهور علي إيمان وتعلقه به، باعتباره النسخة المعاصرة من الجد، بعد أن طرأت عليها التعديلات، مثل أغنية “طير في السما” التي غناها في فيلم يحمل نفس الاسم. وهو في هذه الأفلام لم يخرج من عباءة عبد الحليم، ولذلك لم تستمر تجربة إيمان السينمائية الغنائية طويلاً، فلم تتعد الأفلام الخمسة: “تزوير في أوراق رسمية”، “حكاية في كلمتين”، “طير في السما”، ” زمن الممنوع”، ” لقاء في شهر العسل”.

تزوير في أوراق رسمية

وفي المقابل، تعتبر تجربة مصطفى قمر، هي الأكثر نضجاً، في نظرنا، ليس على المستوى الغنائي، ولكن على مستوى الموضوع، حيث قدّم قمر عدداً من الموضوعات المتنوعة، بالرغم من تقليديتها، مثل “حريم كريم” و “عصابة الدكتور عمر” و “حبك نار” و” أصحاب ولا بزنس” تراوحت ما بين الرومانسية والكوميدية والأكشن، وقد حققت نجاحاً جماهيرياً لدى فئة الشباب نفسها، التي دأبت على دخول السينما، بمناسبة، أو دون مناسبة. ويكفى أن رصيد قمر من هذه الأفلام أحد عشر فيلماً، وهو رقم يؤكد رغبته في أن يكون ضمن قائمة الشرف لنجوم الأفلام الغنائية، التي تضم عمالقة الطرب في الوطن العربي كما أشرنا سابقاً.

ويمكن أن نقول الشيء نفسه بالنسبة لتجربة محمد فؤاد، التي كانت سبباً مباشراً في تحول أذواق المشاهدين، ونجحت في إعادة الجماهير إلى دور العرض لمشاهدة الأفلام الغنائية، خاصة في فيلم “إسماعيلية رايح جاي” الذي يعتبره الكثيرون نقطة تحول كبيرة في مسار السينما المصرية خلال هذه الفترة، خاصة أنه ضمّ ممثلين صغاراً صاروا نجوماً كباراً فيما بعد، مثل محمد هنيدي، وخالد النبوي، وحنان ترك، وقد نجح هذا الفيلم نجاحاً جماهيرياً كبيراً، واستمر عرضه في السينما لأسابيع طويلة. وتعتبر الخلطة الميلودرامية، التي صاغها السيناريو ببراعة، بحيث مزجت الغنائي بالنفسي بالاجتماعي، على غرار الأفلام الهندية، سبباً مهماً في شعبية الفيلم، كما أن أغاني فؤاد الناجحة التي ضمّها هذا الفيلم، كان لها أكبر الأثر في تدعيم هذه الشعبية، وهذا النجاح الجماهيري اللافت. لكن الطريف أن الأغنية الأكثر نجاحاً في الفيلم، والتي يرجع إليها الفضل في إقبال الجماهير على دور العرض، كانت “كامننا” التي شارك في أدائها، مع فؤاد، محمد هنيدي بخفة ظل محببة لدى الجماهير، كما كتب كلماتها عنتر هلال، الذى اشتهر بأغاني مثيرة للجدل، مثل “بابا أوبح”.

لكن ظل فؤاد، أيضاً، متأثراً بالعندليب الأسمر، في موضوعاته الرومانسية والاجتماعية، خاصة تلك التيّمة المتكررة التي اشتغل عليها حليم كثيراً، وهى قصة الشاب الفقير الذى يطمح في النجاح والشهرة عن طريق الفن، وتقف الظروف أمامه، غير أنه ينجح في النهاية في الوصول لمبتغاه، وتحقيق حلمه. وقد بلغ من تأثر فؤاد بحليم أنه كان يرتدى معطفاً أسود في أغانيه الحزينة، التي يؤديها في ليالي شتوية باردة. كما أنه كان حريصاً، مثل العندليب، على أن يسانده ممثل كوميدي خفيف الظل، مثل هنيدي أو أحمد حلمي أو أحمد آدم، وهى واحدة من الطرق التقليدية، المعروفة في السينما المصرية لجذب الجماهير.

وربما كان الاختلاف الوحيد، أن فؤاد، في سياق محاولة الخروج من عباءة عبد الحليم، قدم أدوار الأكشن كما في فيلم “غاوي حب”، وهو اللون الذي لم يلعبه حليم أو أي من مطربينا القدامى لتعارضه مع شخصية المطرب العاطفية ذات الإحساس الرقيق. ويُعد محرم فؤاد استثناءً في هذا السياق، حيث لعب أدوار الحركة في فيلمي “حسن ونعيمة” و “عشاق الحياة”.

غير أن الخطوة الكبيرة في هذا السياق جاءت مع تامر حسني، الذي كان يؤدى في أفلامه كأي شاب مصري، مطرب أو غير مطرب. وهنا نذكر له أنه قدّم كل الألوان تقريباً، الرومانسي في سلسلة “عمرو وسلمي” الناجحة جداً جماهيرياً، والاجتماعي مع عبلة كامل في “سيد العاطفي”، والكوميدي كما في “البدلة” مع أكرم حسني، حتى السياسي، كما في مسلسل “آدم” الذى لعب بطولته مع ماجد المصري، وهو اللون الذى لم يجرؤ مطرب مصري على الاقتراب منه.

أيس كريم في جليم

ويعتبر تامر حسني، هو نجم الشباب، ونجم الأفلام الغنائية حالياً، خاصة في ظل توقف مصطفى قمر، ومحمد فؤاد، وعزوف عمرو دياب عن التمثيل بعد تجارب أربع لم يُكتب لهما النجاح المنتظر، وهي ” السجينتان”، “العفاريت”، “آيس كريم في جليم”، “ضحك ولعب وجد وحب”. ويمكننا أن نقول إن حسني أقرب لدياب لا إلى عبد الحليم، لأنه لم يكتف بأن يكون رومانسياً حالماً، وإنما حاول أن يستفيد من الشكل المعاصر للبطل الرومانسي، وهو البطل الذى يحرص على الاستعانة بعمليات التجميل، و الانتظام فى صالات الجيم من أجل تحقيق نوع من التوازن بين الوسامة من ناحية، والقوة من ناحية أخرى. وقد شاهدنا هذا النموذج، بعد دياب، في خالد سليم، الذى لم يستمر طويلاً.

والحقيقة أن فيلم تامر حسني “الفلوس” يؤكد ما ذهبنا إليه. فحسني لم يقدّم فيلماً غنائياً أو كوميدياً أو رومانسيا ً خالصاً، كما اعتدنا في الأفلام الغنائية التقليدية، وإنما قدّم فيلماً مثيراً يحتوي على الحركة والإبهار البصرى بنحو أكثر من العناصر الغنائية أو الاستعراضية. والحقيقة أن هذا هو سبب مشاهدتي للفيلم في دار العرض، لأنى عرفت أن الفيلم يقدّم الجديد الذى يستحق المشاهدة من خلال الوسيط السينمائي، على مستوى الفكرة، وعلى مستوى الصورة. والمتابع لهذا الفيلم سيتوقع لتامر حسنى تحولاً كبيراً في السنوات القادمة في المضمار السينمائي، ربما يذكرنا بجون ترافولتا، الذي تألق في بداياته كمطرب عاطفي، ثم تحول إلى ممثل مقنع وناجح في أدوار الشر والحركة، خاصة في “نزع الوجه” face off ، الفيلم الأشهر لدى الجمهور المصري، الذي تقاسم فيه البطولة مع نيكولاس كيدج.

ولا شك أن الطفرة التي تشهدها السينما المصرية هذه الأيام، على مستوي التقنية والعناصر البصرية، ستساعد كثيراً في هذا التحول، ليس بالنسبة لتامر حسنى فقط، وإنما بالنسبة لصورة المطرب السينمائي عموماً. فلا شك أن الغناء أسفل الشرفات، والانتقام عن طريق الحرمان العاطفي، وإشعار المحبوب بالندم، لم تعد تيمات كافية أو معبّرة عن روح هذا العصر المنفتحة والمعقدة في الآن نفسه، كما أن صورة المطرب المثالية الحالمة، لم تعد مناسبة للتطورات التي لحقت بمعنى الشباب، ومعنى الرجولة، ومعنى المسؤولية. فليس هناك أدنى تناقض بين أن يكون المطرب وسيماً وخشناً في الوقت نفسه. كما أنه ليس هناك ضرورة في أن يعمل المطرب، دائماً، في الفن، لأنه، في التحليل الأخير، إنسان، ويمكن أن يمارس أي مهنة.

Visited 5 times, 1 visit(s) today