الأفلام المصرية ما قبل الكورونا .. تجارب مختلفة

مروى الأزلى بائعة الكبدة في "صندوق الدنيا" مروى الأزلى بائعة الكبدة في "صندوق الدنيا"
Print Friendly, PDF & Email

أعادت دور العرض المصرية فتح أبوابها، باجراءات وقائية متعددة، وبشروط خاصة بعدد الحاضرين، وكان موسم 2020 السينمائي، قد شهد في بدايته عرض 9 أفلام مصرية طويلة، بينها تجارب مميزة تستحق التنويه، ثم جاء قرار أغلاق دور العرض السينمائية بسبب وباء الكورونا، ليوقف عجلة العروض، وليصنع فجوة واسعة بين أفلام الموسم السينمائي الأولي، وأفلام موسم عيد الأضحى، هذا إذا كانوا سيعرضون فيه بعض الأفلام التي تنتظر دورها، أما أفلام عيد الفطر فقد اختفت، بعد أن أغلقت دور العرض في هذه الفترة الهامة، رغم وجود أفلام مصرية طويلة، كانت جاهزة للعرض.

الأفلام المصرية التسعة التي عرضت في فترة ما قبل وقف العروض بسبب كورونا هي: (1) دفع رباعي .. قصة جمال ربيع وسيناريو وحوار خالد سليمان ومحمد عواد وإخراج  إيهاب عبد اللطيف (2) بنات ثانوي.. تأليف أيمن سلامة وإخراج محمود كامل (3) لص بغداد .. تأليف تامر إبراهيم وإخراج أحمد خالد موسى (4) يوم وليلة.. تأليف يحيى فكري وإخراج أيمن مكرم (5) دماغ شيطان .. تأليف عمرو الدالي وإخراج كريم إسماعيل (6) الفارس والأميرة وهو فيلم كارتون طويل من تأليف وإخراج بشير الديك (7) رأس السنة .. تأليف محمد حفظي وإخراج محمد صقر (8) صندوق الدنيا.. سيناريو وحوار عماد البهات وأسامة حبشي وإخراج عماد البهّات (9) بعلم الوصول .. تأليف وإخراج هشام صقر.  

أفضل فيلمين بين هذه الأفلام  من حيث تكامل العناصر الفنية هما “رأس السنة” و”صندوق الدنيا”، وهناك ثلاثة أفلام فيها جدية وجهد كبيرين، وفيها شخصيات رسمت باجتهاد واضح، ولكنها تعاني من مشكلات في المعالجة أو النهاية، وهي “بنات ثانوي” و”بعلم الوصول” و” يوم وليلة”، وهناك فيلمان هامان لأنهما يقدمان نوعية مختلفة، وباتقان أفضل من تجارب سابقة، ويفتحان الباب أمام أفلام مصرية فى هاتين النوعيتين، وهما فيلما “لص بغداد” و”الفارس والأميرة”.

رأس السنة

أبطال فيلم “راس السنة”

تهدينا دراما “رأس السنة” الناضجة التى كتبها محمد حفظى وأخرجها محمد صقر في فيلمه الروائى الأول قراءة ذكية وعميقة ليس فقط للتناقضات الطبقية بين شخصيات الفيلم، ولكن أيضا لتناقضاتهم الداخلية، وأبرز تلك التناقضات الصراع بين قيم قديمة وأخرى جديدة.                                       

ما يميز الفيلم كأحد أفضل أفلام 2020، أن محمد حفظى ابتعد تماما عن التنميط، والأفكار الجاهزة فى رسم معالم شخصياته، وابتعد كذلك عن الأبيض والأسود، لكى يقدم المناطق الرمادية في شخصياته، مثل أي دراما ناضجة، كما أنه ابتعد عن الإدانة المسبقة الساذجة، واكتفى فقط بأن نرى الشخصيات من الداخل، مثلما نراها من الخارج، والمدهش أن صقر كمخرج شاب فى تجربته الأولى، تفهم هذه اللعبة الطبقية والنفسية، ونجح فى إدارة ممثليه، وفى تقديم دورين مميزين للغاية لكل من إياد نصار وأحمد مالك، وفي خلال يوم وليلة حتى صباح اليوم التالى، عشنا تجربة اكتشاف للشخصيات وللمكان معا، حيث تدور الأحداث في منتجع يطل على البحر الأحمر، بالقرب من الغردقة، أربعة وعشرون ساعة كشفت الناس اللى فوق والناس اللى تحت والعلاقات بينهما، ثم تفرق الجميع بغير لقاء، وكأننا أمام خطين لا يلتقيان إلا فى عمل أو مصلحة، وكأن حواجز المستوى الإقتصادى تحدد الخطوط الفاصلة بقوة، ثم تزيد التناقضات الداخلية فى حياة كل شخصية من ترسيخ تلك الفواصل.

صندوق الدنيا

رانيا يوسف بطلة “صندوق الدنيا”

 أما فيلم “صندوق الدنيا” فهو يعيد قراءة شخصيات المدينة، يتعاطف مع الذين يعانون في سبيل لقمة العيش، دون أن ينزلق الى ميلودراما فجة أو فاقعة، مجرد حكايات من دفاتر العاصمة المنسية، قدمت من خلال سيناريو بارع في سويعات قليلة من الليل، تتكامل القصص وقد يتقاطع بعضها، يصل إلينا معنى الفيلم كاملا، نعرف بعضا من الأقنعة اللازمة للإستمرار، وتستقبل المدينة في النهاية زبونا جديدا، اختار أن يبقى رغم غياب أبيه،  يدخل الصبى بإرادته عالم الشحصيات / العرائس  مثل الآخرين.

العمل بالتأكيد هو أفضل أفلام عماد ككاتب وكمخرج، بعد تجارب أقل نضجا فى فيلمى “استغماية” و”البلياتشو”، ونقطة التفوق الأولى بدأت بالتأكيد من السيناريو المتميز، الذى ينتقل من شخصية الى  شخصية أخرى بسلاسة، دون أن نفقد إحساسنا بتقاطع بعض الحكايات، ودون أن نفقد حضور شوارع وأماكن وسط البلد، بل إن هناك توظيفا جيدا لبعض الألعاب السردية، بحيث نعود أحيانا الى الماضى القريب جدا، وتتكرر بعض المشاهد لتؤكد لحظات محددة، كما أن توزيع الأدوار وإدارة الممثلين كان جيدا بشكل عام، مع تميز خاص فى أداء كل من خالد الصاوى وأحمد كمال وعلاء مرسى ورانيا يوسف، أما استخدام العناوين فهو أيضا أمر لامع وموظف بشكل غير مزعج، أراها لحظات توقف تثير التأمل، وتمهد للإنتقال الى قصة جديدة، العنوان الأول مثلا هو “حلم”، بينما ما رأيناه شئ أقرب الى الكابوس، وهناك مثلا عنوان “ممرات الخوف” الذى لا يمثل فحسب عنوان رواية كتبها أحد أبطال الفيلم، ولكنه أيضا المود العام لحكاية هذه الشخصية، التى كادت أن تصبح مجرمة، هذه العناوين لا تكرر إذن ما سنراه، ولكنها تدعونا للتأمل، ومناقشة مأزق الشخصية وظروفها، فهل مثلا كان رهان الممرضة صحيحا؟ وهل الإحتفال فى مشهد النهاية عنوان على صمود وهمى، “كالطيور ترقص مذبوحة من الألم”، أم أنه فعلا ” النفس الأخير” قبل الإستسلام لسطوة المدينة؟

بنات ثانوي

من “بنات ثانوي”

هناك ملاحظات بالطبع لا يمكن إغفالها على فيلم “بنات ثانوي”، مثل توحيد أداء الفنيات فيما يتعلق بإلقاء الحوار، رغم أن إحداهن مثلا تربت فى بيئة أعلى اقتصاديا، ثم أنهارت شركة والدها، وفيما يتعلق بأحمر الشفاه على كل الوجوه، حتى داخل منزل فتاة محافظة لا تترك فرضا، ولكن ملاحظتى الأهم تتعلق بالتأكيد بنهاية مبتسرة لا يحتاجها الفيلم، حيث يكفيه أن يعرض المشكلة، دون أن يبحث عن حلول أخلاقية تريح المتفرج، ولعل هذه النهايات الأخلاقية هى العيب الأوضح فى أفلام سابقة جيدة من إنتاج السبكية مثل “كباريه” و”الفرح”، وها هو أحمد السبكى ينتج فيلما هاما هو “بنات ثانوى”، ينتهى بأن كل شئ تمام، وكل شئ تم حلّه رغم المصائب التى حدثت فى الجزء الأخير من الفيلم، وهو أمر ضد منطق الدراما نفسها، فإذا كانت الفتيات في مأزق قبل مصائب الفيلم الأخيرة، فكيف خرجن منها بسهولة بعد ما رأيناه من كوارث؟

لدينا خمس شخصيات تم تضفير حكايتهن بشكل جيد، هن طالبات فى  الثانوية العامة، وعلاقتهن معا هي عائلتهن البديلة، أسرارهن مع بعضهن، وأحلامهن صغيرة جدا: سالي التى تنتمى لأسرة متحررة نسبيا، كان الأب ثريا يمتلك شركة سياحة، وأغلق شركته بعد ثورة يناير، سالي مفتونة بالبث المباشر، ونشر الأسرار على الأنستجرام، ولها علاقة غرام مع شاب يفترض أنه ابن رجل ثرى، أما شيماء فهى تعانى من أب مدمن للمخدرات، يريد تزويجها لصديقه الذى يمنحه الصنف، وفريدة وحيدة حرفيا، فقدت والديها في حادثة قطار، وتعولها خالتها، وتتوهم الفتاة حكاية حب مع طالب لا يعيرها اهتماما، بينما تبدو آيتن فتاة متدينة يلعب بعقلها شاب فشل فى دراسته، فأصبح إماما لجامع، وهو جاهز بكل الفتاوى التي تدفع آيتن للزواج منه عرفيا، وتبقى رضوى التى تريد أن تخطف أستاذها المدرس الوسيم من زوجته المدرّسة.

الجميل فعلا أن بناء الشخصيات يتم بشكل متدرج، ومن خلال علاقاتها مع الشخصيات الأخرى، مع اقتناص تفصيلات مؤثرة، مثل مشهد ذهاب ثلاث فتيات  الى المول، وسؤالهن عن أسعار الشنط والساعات، والأجمل أن تنوع الشخصيات لم يؤدي الى تشوش التيمة، نحن أمام جيل يغيب فيه الآباء، أسراره معلنه من خلال وسائل التواصل الإجتماعى، وكل فتاة تساعد الأخرى وفقا لخبرتها المحدودة، وكأننا أمام عائلة بديلة للأسر، أو كأننا أمام خمس فتيات تحاولن السباحة معا بدون مساعدة على الإطلاق، وبدون أي خبرة أو تعليم.

يوم وليلة

خالد النبوي في فيلم “يوم وليلة”

هذا الفيلم جرئ وهام، ولكن هناك ملاحظات كثيرة جعلته أبعد ما يكون عن التكامل الفنى، وخصوصا أن الفكرة التى يدور حولها قدمت من خلال أفلام كثيرة أفضل، أعني بذلك محاولة تعرية الفساد فى مستوياته المختلفة، من خلال شخصيات متعددة، مع محاولة الربط بينها من حيث المكان أوالمناسبة، هناك مثلا فيلم سعيد مرزوق الأشهر “المذنبون”، وهو من روائع السينما المصرية، وهناك أيضا فيلم “عمارة يعقوبيان” من إخراج مروان حامد، وهو من أفضل الأفلام المصرية في السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين، حتى الأفلام التى كتبها أحمد عبد الله مثل “كباريه” و”الفرح” و”الليلة الكبيرة” و”ساعة ونص” كانت أيضا تستهدف تعرية نماذج إنسانية من الفاسدين والمذنبين.

الحقيقة أن فيلم ” يوم وليلة”يمكن مقارنته أكثر بالتحديد بفيلم “الليلة الكبيرة” من تأليف أحمد عبد الله وإخراج سامح عبد العزيز، حيث ترتبط الأحداث بالإحتفال بمولد ما، هو في فيلم “يوم وليلة” مولد السيدة زينب الشهير، وحيث يكون مغزى الدراما الأساسى هو تشريح وتعرية نماذج فاسدة، ورصد التناقض بين الإحتفال الشكلى بالدين في الظاهر، واستسهال الحرام فى الواقع، وهناك في “يوم وليلة” محاولة لتكثيف الزمن حيث تدور الأحداث فى يوم وليلة كما يشير العنوان، فما هو نصيب فيلمنا إذن من النجاح الفنى مقارنة بهذه الأفلام السابقة عليه؟

هناك طموح فنى كبير فى رسم الشخصيات الأساسية والمساعدة، وهناك فكرة هامة هى أن كل فرد ضحية ومذنب في نفس الوقت، كل فرد يسرق غيره، ويتعرض للسرقة فى نفس الوقت، وهناك فكرة أكثر أهمية هى أن الضحية سرعان ما يتحول الى جلاد مع الآخرين، وهناك أيضا جرأة كبيرة فى التناول تحتاجه هذه الموضوعات بالتأكيد، بل إن هناك مناطق شائكة كثيرة عولجت بدون خوف، ولكن مشاكل “يوم وليلة” واضحة فى عدة أمور مثل عدم تكثيف الأحداث فى بؤرة واحدة قوية ومؤثرة، واستخدام السرد المسلسلاتى التقليدى والقائم أساسا على حوارات طويلة،  وعدم الإستفادة تقريبا من طقس مولد السيدة نفسه، إلا فى مشهد الحضرة، التى يمكن بالمناسبة أن تكون طوال العام وليس فى المولد فقط، واستفاد الفيلم من المولد أيضا في مشهد المذيعة ولقاءاتها، وهى أضعف شخصيات الفيلم وأكثرها سذاجة، ثم المشكلة الأكبر في تنفيذ السيناريو، حيث تفاوت أداء الممثلين، وارتباك المونتاج، وغياب الإحساس بالزمن والترابط، وكلها مشكلات حادة وعويصة، رغم الإجتهاد الذى يستحق الإحترام والتقدير.

بعلم الوصول

لقطة من فيلم “بعلم الوصول”

لو صمدت مثلى حتى نهاية فيلم “بعلم الوصول”، من تأليف ومونتاج وإخراج هشام صقر فى عمله الروائى الطويل الأول، لاندهشت كثيرا لأن كل الأزمة التى تعانى منها بطلة الفيلم، والتى تلعب دورها الممثلة بسمة بإجادة تستحق التقدير، قد تم حلها من خلال خطاب عشوائي وصل إليها، ينقل لنا تجربة شخصية لا نعرفها، ويكرر عبارات عن رفض العجز، وجلب الأمل، وقهر الخوف.

هذه النهاية العجيبة تتناقض مع ما رأيناه من حالة نفسية صعبة فعلا، تصل الى درجة محاولة البطلة الإنتحار، كماتهاجمها كوابيس مزعجة، وتبدو تقريبا غير قادرة على العمل، وغير قادرة حتى على رعاية زوجها، أو طفلتها الصغيرة، حالة تستدعى الذهاب الى طبيب متخصص، وربما احتاج الأمر الى علاج طويل بالعقاقير، وللإقامة لفترة فى مستشفى، لأنها ملامح مرض اكتئاب عميق، من الواضح أن بطلتنا هالة عانت منه منذ وفاة والدها، وهو حدث مرت عليه سنوات.

 الفيلم ، الذى شارك إبراهيم البطوط فى كتابة السيناريو له، لا يكتفى بذلك، حيث تتوالى الكوارث على رأس هالة، فيتم القبض على زوجها، والعجيب أن هذا الحدث الكارثى، سيغير تماما من سلوكها، حيث تتحدى العجز والكسل، وتعود الى عملها بل وتتحمل مسؤولية شقيقتها، وأخيرا تظهر حكاية الخطابات، بعد أن أصابتنا حالة هالة البائسة بالإكتئاب، فتغير السطور مالم يغيره الزوج الطيب، وينفتح الكادر أخيرا بعد أن أصابنا الإختناق من كلوزات فى كل مكان، حتى وهالة تسير فى الشارع، في مرات قليلة معدودة.

 تذهب الكوابيس بدون طبيب، وتشرق الشمس، ويتحقق الأمل، نتنفس الصعداء لأن الأزمة انتهت، ولكننا لا نصدق أبدا ما نراه، ولا نظن أبدا أن بناء الشخصية طوال معظم الفيلم، وقبل ظهور الخطاب الأول المكتوب، يتسق على الإطلاق، لا مع النهاية المتفائلة، ولا حتى مع عودة الروح الى هالة رغم القبض على زوجها، والذى لو كان يعرف أن غيابه سيشفى زوجته، لارتكب خطأه مبكرا، بدلا من أن يعيش تحت كوابيسها، ومحاولات انتحارها.

هنا مشكلة ” بعلم الوصول” الكبرى، فالإكتئاب مرض لا تشفيه الكلمات، ولذلك فقد زادت جرعة رسم معالم محنة هالة، ولو اكتفى الفيلم بمجرد تعكر المزاج، أو حتى ببعض الإضطراب السلوكى، لأمكن أن نتقبل فكرة الخطابات الساحرة، وحتى في هذه الحالة، فإن الفكرة تكفيها أن تكثف فى فيلم قصير، ولكن “بعلم الوصول” يعيد ويزيد ويكرر، ومخرجه الفاهم يترجم الأزمة فى كادرات مغلقة، وينقل الى المشاهد كآبة حقيقية، واختناقا لا مهرب منه، إلا بفتح أبواب صالة العرض للفرار، وخصوصا أن الألوان كابية تماما، والأماكن مغلقة كذلك، فمن شقة هالة، ننتقل الى شقة الأم، ومن البنك الذى يعمل فيه الزوج خالد ( محمد سرحان)، ننتقل الى النيابة والتحقيقات، وعندما تعمل هالة، ننتقل الى فصل مغلق، ولا ننسى شقة صديقة هالة الوفية، التى لعبت دورها ببراعة وبحضور كبير بسنت شوقى، ونحن لانخرج من صالة الشقة، إلا للحجرة التى يرقد فيها الوالد المريض، الذى يموت بعد أن انفطرت قلوبنا على حالته، والذى يفترض أنه يذّكر هالة على الأقل بوالدها الغائب، ولكن هالة كما ذكرنا تتجاوز أزمتها مع القبض على زوجها، فتنطلق فى كل الإتجاهات، ثم تأتى عبارات الخطاب الساحر، فتفرّج كربها، وتفرّج كربنا أيضا.

 لص بغداد

من فيلم “لص بغداد”

أقدّر كثيرا تلك الأفلام التى تعرف النوع السينمائى الذي تشتغل عليه، تدرسه وتحاول تقديمه بأعلى درجات الإتقان المتاحة. فيلم”لص بغداد” ينتمى الى تلك النوعية، فقد نجح فى تقديم مزيج جيد جدا من فيلم المغامرات والكوميدى والأكشن معا، وهو أمر مركب وليس سهلا، لأنه يحتاج الى خفة الإضحاك، وخيال المغامرة المحلق، والإبهار بالمعارك والمطاردات المتنوعة، وقد تحقق ذلك الى حد كبير، بل إن النتيجة التى شاهدتها يمكن أن تكون بداية لسلسلة أفلام مصرية مدهشة وفائقة التسلية، مثلما حدث مع ” الفيل الأزرق” و” ولاد رزق” .

” لص بغداد” بالإضافة الى ذلك فيه عناصر متميزة مثل السيناريو والإخراج والمونتاج (باهر رشيد)  والموسيقى ( خالد الكمار) والديكور والإشراف الفنى ( أحمد شاكر) ، ولكن الأساس فى الحكاية كلها هو ضبط هذا المزيج، بحيث يبدو الفيلم كوحدة متماسكة، وبحيث لا يطغى الضحك على الأكشن والمغامرة مثلا، أعجبنى ذلك للغاية بالنظر الى أن هناك نماذج متباعدة لأفلام المغامرات، فمن رحلة البحث عن الكنز فى “عماشة فى الأدغال” التى غلب عليها الكثير من التهريج، الى الخطوة الكبيرة المميزة فى فيلم “أفريكانو” بمزيج معقول من الكوميديا والحركة، وصولا الى فيلم “ورقة شفرة” الذى افتقد مشاهد الحركة، رغم لغز الحبكة، فإن “لص بغداد” يبدو بالنسبة لي كخطوة أكثر نضجا ومهارة، مما يفتح الباب الى مزيد من الأفكار والمغامرات في نفس الإتجاه.

 ربما ما زال محمد عادل إمام  بطل الفيلم متأثرا رغما عنه بأداء والده عادل إمام، خصوصا فيما يتعلق بالإفيهات الكوميدية، ولكنه يثبت هنا أنه يمكن أن يقدم فيلم حركة بشكل جيد ومميز، كما أن الثلاثى ياسمين رئيس وأمينة خليل وفتحى عبد الوهاب ظهروا أيضا فى أدوار مميزة، وكذلك محمد عبد الرحمن فى أفضل أدواره  السينمائية حتى الآن، أما عن نهاية الفيلم فهى تبدو كما لو كانت تمهيدا لجزء ثان قادم، لقد حققت المغامرة فى الفيلم بعض النجاح، وفتحت أقواس الشخصية على مغامرة جديدة، وهو أمر من السهل متابعته في أجزاء أخرى.

الفارس والأميرة

أفضل ما أثبته فيلم الكارتون الطويل “الفارس والأميرة” من تأليف وإخراج بشير الديك، هو أننا نستطيع أن نصنع هذه النوعية من الأفلام الصعبة، والتى تحتاج الى ميزانيات عالية، صحيح أن إنتاج الفيلم قد تعثر لسنوات طويلة، حتى عرضه التجارى فى  الصالات المصرية والعربية فى هذا العام 2020، ولكن ما شاهدته، رغم بعض الملاحظات، يؤكد أن لدينا أهم ما يميز هذه الأفلام، وأعنى بذلك المواهب التى تستطيع أن تكتب وتنفذ الخيال صوتا وصورة ومؤثرات. وهناك أمر آخر حققه بشير الديك، وهو أحد أهم وأبرز كتاب السيناريو المصريين، وأحد أعمدة تيار الواقعية الجديدة، وأفلامه مع عاطف الطيب ومحمد خان من علامات السينما المصرية، أنه قدم حكاية عربية تماما لها أصل تاريخى حقيقى، مما يعنى أيضا أننا نستطيع أيضا أن نستلهم من تاريخنا ومن قصصنا واقعية وخيالية، بعد أن سبقتنا الأفلام الأمريكية فى استدعاء لص بغداد، وألف ليلة وليلة وعالم الفراعنة، فى أفلام كارتون شهيرة، لدينا إذن من يستطيع أن يقدم رؤيتنا الخاصة فى التاريخ، وفى القصص الخيالية، وربما يؤدى كل ذلك، إذا حقق “الفارس والأميرة” نجاحا تجاريا عربيا ومصريا، الى فتح الباب أمام تجارب أخرى لأفلام كارتونية مصرية طويلة، تكون أكثر اكتمالا، وأكثر مواكبة لتكنيك أفلام التحريك، الذى قطع أشواطا واسعة منذ الفترة التى بدأ فيها مشروع فيلم “الفارس والأميرة”.

التحية والتقدير للتجربة الهامة، والإشادة بالأداء الصوتي للمشاركين فى الفيلم مثل محمد هنيدى وماجد الكدوانى ، ومدحت صالح و الرائعة دنيا سمير غانم ( تمثيلا وغناء)، والكبار مثل عبد الرحمن أبو زهرة وأمينة رزق ، مع تميز عناصر مثل الأغانى وألحان وموسيقى هيثم الخميسى، كل ذلك لا يمنعنا من ذكر ملحوظات هامة أبرزها المونتاج الذى منح الفيلم إيقاعا أسرع مما ينبغى، والذى حقق قفزات غير سلسلة فى بعض المشاهد، بدا أحيانا أن هناك محاولة للإختزال، مع أن السيناريو متماسك وجيد بشكل عام، وبعض المشاهد كانت تحتاج الى إيقاع أهدأ يشبع التأثير بشكل أفضل.

الملاحظة الثانية خاصة بهذا المزيج بين الفصحى والعامية المصرية، وما صنعه من مسافة واضحة بين المشاهد، خاصة أن مشاهد العامية، ومعظمها من نصيب العفاريت، كوميدية  هزلية وفيها الكثير من الإفيهات المعاصرة !، تمنيت أيضا ألا يستخدم صوت الرواى إلا فى البداية، حيث لم يضف الكثير للمشاهد المكتوبة بشكل جيد، ولا للأغنيات المعبرة عن المواقف، وتمنيت كذلك عدم الإغراق فى تفصيلات تاريخية، أو أسماء للأماكن، لأننا لسنا بصدد التوثيق التاريخى، كان يكفى فعلا الإطار العام للأحداث، وخصوصا أن الصراع محكم، والمعارك مقدمة بشكل ممتاز، وبالذات معارك النهاية، رغم أن بعض خلفياتها الملونة كانت أضعف وأقل واقعية من خلفيات بقية مشاهد الفيلم.

يستلهم الفيلم قصة فتح بلاد السند وبطلها الشاب محمد بن القاسم، الذى يقوم ، وهو فى سن الخامسة عشرة، ومعه حفنة من الأصدقاء، وخبير البحر العجوز أبو الرياح، بمغامرة لاسترداد سيدات وأطفال من المسلمين، قام القراصنة المتحالفون مع داهر حاكم السندستان بأسرهم، بينما يقود الصراع على الجانب الآخر، كاهن معبد إله الدمار، الذى يستعين بعفريتين من الجن، يؤدى أصواتهما هنيدى والكدوانى، لكى يتم التخلص من محمد بن القاسم، فى الوقت الذي يحرر محمد أميرة اسمها لولا بينّى من القراصنة، فتقع فى غرامه، ويطلق عليها اسم لبنى، ولكنه يعود بالأسيرات الى العراق، و يضطر للزواج من ابنة الحجاج ابن يوسف الثقفى، ويتولى حكم منطقة شيراز.

أخيرا سيلجأون الى محمد ابن القاسم لفتح السند، بعد أن فشل من أرسلوا لهذه المهمة، وسيكون على الفارس الشجاع أن يستولى أولا على حصن الديبل، وأن يواجه أفيال وحشود جيش داهر، وبينما يتحول العفريتان الى مساندة محمد بن القاسم، تنتظر الأميرة لبنى لقاء محمد بن القاسم، ثم تعاونه لاستكمال الإنتصار.

بشير الديك الكاتب المحترف نجح فى تضفير خطوط حكايته، ونجح أيضا فى إدارة صراع جيد من البداية حتى النهاية، مع توظيف مميز للأغنيات فى مواقف محددة، وكان أجملها كتابة ولحنا وتنفيذا أغنية “الدب القطبى”، حيث يمتزج غناء لبنى مع غناء محمد بن القاسم، رغم أنهما فى مكانين مختلفين، ومن العناصر المميزة أيضا الصوت والميكساج والمؤثرات الصوتية.

مجهود كبير واضح، وفريق عمل ضخم اشترك فى التحريك وعمل الخلفيات وقام بعمل مونتاج الصوت وتسجيل الأغنيات والموسيقى من خلال أوركسترا كبير ومعتبر، هذه الجدية تستحق كل تحية، بل إن تصميمات الراحل الكبير مصطفى حسين لاتقل أبدا عن تصميم الشخصيات فى أي فيلم كارتون كبير أمريكى أو يابانى، يجب أن تستمر هذه المواهب التي حققت الفيلم، بعد أن أثبتوا مع بشير الديك انه لا يوجد مستحيل، وهو نفس مغزى رحلة محمد بن القاسم العجيبة لفتح بلاد السند.

Visited 71 times, 1 visit(s) today