يوميات فينيسيا- 6: اسوار العزلة وعقاب الذات

Print Friendly, PDF & Email

أمير العمري

لاحظت هذا العام أولا زيادة كبيرة في أعداد المترددين على المهرجان من الجمهور العادي الذي أتى خصيصا لمشاهدة الأفلام، ومعظم هؤلاء الشباب يقيمون في جزر أخرى أقل تكلفة بالطبع من الإقامة في جزيرة ليدو حيث يقام المهرجان.

ولاحظت ثانيا أن بلدية فينيسيا بالتعاون مع مجلس إدارة البينالي، أنفقت بسخاء، من أجل دعم المهرجان من الناحية اللوجستية، فتم تمهيد المنطقة المحيطة بقصر المهرجان والمقر الصحفي وتزيينها بكل ما يمكن أن تتفتق عنه عبقرية مصممي الديكور الايطاليين المعروفين بذوقهم الرفيع، وتم افتتاح مقهى ومطعم يليق بالمهرجان قاصر فقط على الصحفيين داخل المبنى التاريخي المسمى حتى الآن بـ”الكازينو” رغم أنه توقف عن أن يكون كذلك منذ سنوات بعيدة، وهو المقر العملي للمهرجان إلى جانب “قصر السينما” الذي تقع في داخله “صالة جراندا” أي قاعة العرض التاريخية التي افتتحت في عهد الديكتاتور موسوليني عام 1934 وأنشئت أصلا خصيصا لإقامة أول مهرجان سينمائي في العالم وهو الذي أطلق عليه وقتها- ومازال- الموسترا، أي المعرض على غرار معارض الفنون.

وقد حضرت المهرجان في الثمانينيات عندما كانت العروض الصحفية تقام في قاعة بسيطة صغيرة نسبيا تقع في الطابق الأول من فندق إكسيلسيور الراقي الذي يستقبل كبار النجوم، مع بعض العروض في قاعة بيرلا الواقعة داخل مبنى الكازينو وكانت قاعة بدائية بمقاعد مرهقة، غير منظمة، قبل أن يتم تحديثها وتزويدها بنظام صوت حديث فيما بعد، لتصبح من أفخم قاعات المهرجان. وكان “الكازينو” يغلق أمام عروض الصحافة في المساء ويتحول طوال الليل، إلى نشاطه الأساسي أي استقبال المقامرين في صالات القمار الرئيسية في الطابق الثالث تحديدا، وكان يشترط بالطبع الدخول بالملابس الرسمية.

مبتى الكازينو في الليل (الصورة من تصويري)

في أواخر التسعينيات وضع المهرجان يده بالكامل على “الكازينو” فتوقف عن أن يلعب دوره كمكان للمقامرة، وخضعت كل قاعاته لإدارة المهرجان، وأصبح مقرا لثلاث قاعات، أعيد هذا العام، تصميم وتحديث وتجديد قاعتين منها (غير قاعة بيرلا)، مع عودة قاعة الصحفيين (المزودة بأجهزة الكومبيوتر والانترنت) إلى العمل كما كانت قبل جائحة كورونا، في الطابق الثالث.

مبنى “الكازينو” أقيم عام 1938، وهو نموذج للعمارة الفاشية التي تتصف بالعظمة والإبهار في الواجهة الحجرية الصماء المرتفعة الشامخة. ومن الداخل ينتشر الرخام الإيطالي الملون الفاخر يغطي جميع الأرضيات والسلالم، وتزين النقوش البديعة أسقف القاعات والبهو حيث ترتفع الأعمدة الرخامية.

هذا العام أقيمت أيضا دار عرض جديدة، أضيفت الى قاعات المهرجان وكانت قد أقيمت دار عرض جديدة أخرى قبل سنوات قليلة، فأصبح المهرجان يضم 9 شاشات، وتفوق بذلك على مهرجان كان الذي لايزال يعاني من عدم القدرة على التوسع ولا على التخلص من القاعات القديمة المتهالكة الرديئة الموجودة.

من أهم أقسام المهرجان قسم الكلاسيكيات الذي ينقسم إلى نوعين من الأفلام، الكلاسيكيات القديمة لعدد من الأفلام المشهودة في تاريخ السينما، والأفلام الجديدة التي أنتجت عن فن وصناعة السينما، أو عن أعمال كبار المخرجين. ومن هذه النوعية الأخيرة عرض المهرجان فيلما جديدا بعنوان
“سينما جودار” عن أعمال المخرج الفرنسي الكبير، وفيلما آخر بعنوان “سيرجيو ليوني: الإيطالي الذي اخترع أمريكا”.
 وقد شاهدته باعتباري مؤلف الكتاب الوحيد في العربية عن السينمائي الإيطالي العظيم، وسيكون لي مقال منفصل عنه قريبا.

سيرجيو ليوني مع زوجته وابنائه من الفيلم التسجيلي البديع

هذا هو اليوم السادس من أيام المهرجان. في الصباح شاهدنا عملا بديعا من أيرلندا- بريطانيا، هو فيلم “منفى إينيشيرن” The Banshees of Inisherin من إخراج مارتن ماكدوناه، وبطولة الممثل الكبير كولن فاريل، وبريندان جليسون وكيري كوندون وباري كيوجان، وهو في الحقيقة مباراة في الأداء التمثيلي.

ويبرز فيه بوجه خاص، أداء كولن فاريل في دور شاب يدعى “بادرياك سوليبان” يرعى الماشية ويعيش على حليبها، في قرية قاحلة بجزيرة أيرلندية فقيرة وقت الحرب الأهلية في العشرينيات من القرن الماضي، يعاني من الوحدة والقلق والفراغ الناتج عن جفاف الحياة في القرية بشكل عام، وهو على علاقة قديمة، مع “كولم” (بريندان جليسون) الذي يقرر فجأة قطع علاقته به وينذره بعدم التحدث إليه مستقبلا، بل ويهدد بقطع إصبع من أصابع يده إن عاد إليه الشاب ثم قطع باقي أصابع يده اليمنى لو تكرر الأمر. ولكن بادرياك لا يمكنه أن يفهم رغبة صديقه قط. ولكنه لا يكف عن ملاحقته، يريد أن يفهم السبب.

بادرياك يعيش في بيت فقير مع شقيقته التي لم تتزوج رغم تقدمها نسبيا في العمر، والتي تقضي وقت فراغها الكبير في مطالعة الكتب. وهي تعطف عليه وتعامله كما لو كانت أمه وهو ابنها، فهي أكثر منه نضجا في المشاعر كما أنها أكثر ذكاء ومعرفة وإدراكا لما يحدث في العالم. وهو مصر على محاولة فهم سبب قطع كولم علاقته به، ويحاول بشتى الطرق استفزازه واستعادة العلاقة التي لا يجد بديلا عنها لكليهما، خصوصا في هذه البيئة العقيمة. لكن كولم ينفذ تهديده ببتر إصبع يده ثم بتر باقي الأصابع وكأنه يعاقب نفسه، ومع ذلك يستمر في تأليف القطعة الموسيقية التي تشغل باله. فهو مغرم بآلة الكمان، يريد أن يختلي بنفسه لكي يؤلف مقطوعة موسيقية ويشعر انه تأخر كثيرا في تحقيق حلمه هذا.

إنها كوميديا سوداء، تثير الضحك بقدر ما تثير الألم. هناك شاب صغير شبه مختل، هو “دمينيك”، الإبن الوحيد لشرطي القرية القاسي القلب الذي يسيء معاملة ابنه، فيلتصق بصاحبنا بادرياك، يسرق الشراب من غرفة أبيه لكي يتشارك في احتسائه مع بادرياك الذي لا يجد فيه- رغم ذلك- تعويضا عن صديقه القديم كولم.

أما كولم فهو يريد أن ينأى بنفسه عن بادرياك تماما، ويتخذ موقفا صامتا سلبيا حتى بعد أن يحرق بادرياك بيته البسيط انتقاما من موت حماره الوحيد بسبب خطأ ارتكبه كولم عندما ألقى بأصابعه المبتورة أمام دار بادرياك فتعفنت وأكل منها الحمار فتسمم!

كولن فاريل وجليندان جليسون في أحد مشاهد الفيلم

دومنيك، ابن شرطي البلدة، رغم حساسيته ورغبته في التواصل، عاجز عن التعبير عن نفسه، فهو خجول مضطرب، وعندما يشير إلى شقيقة صديقه، معربا لها عن هيامه بها تعتذر له، فهي تكبره كثيرا في العمر.. وعندما تأتيها فرصة للعمل بعيدا عن تلك الجزيرة التي تكاد تصيب المرء بالجنون، تترك شقيقها وترحل رغم شعورها بالحزن لمفارقته.

نحن أساسا، أمام شخصيتان لرجلين مختلفين، وإن كان كل منهما يحاول أن يعثر على وسيلة للهرب من حياة الفراغ القاتل في تلك الجزيرة المنعزلة، التي لا يسمع الناس فيها سوى أقل القليل، تصلهم من بعيد أصوات قذائف المدافع على الجانب الآخر من البحر، يشاهدون الدخان الناتج عن معارك الحرب الأهلية، دون أن يكونوا طرفا فيها.  

بادرياك ظل لسنوات، على موعد يومي في الثانية بعد ظهر كل يوم، مع صديقه كولم، وكانا يلتقيان في الحانة لاحتساء البيرة والثرثرة في لاشيء. ولكن كولم أدرك بعد أكثر من عشرين عاما أنه سئم إضاعة الوقت والثرثرة فيما لا ينفع مع هذا الشخص الذي اكتشف أنه غبي بليد، وأدرك أن من حقه أن يحلم بعيدا عن أسوار هذا “السجن”، وأن يلحق قبل أن يأتي الموت الوشيك، يحقق بعضا من متعة الإبداع، لربما تعوضه شيئا عن سنوات ضائعة.

كولن فاريل (بادرياك) مع حماره الأثير غلى نفسه

أما بادرياك فهو يرى ان الصداقة بين الرجال الناضجين ليست مثل الزواج، أي لا ينفع معها الطلاق، بل يجب أن تمتد إلى الأبد. لذلك فهو يرفض ويظل يرفض بإصرار نهاية الصداقة، ويلح على استعادتها بينما صديقه القديم مصر على القطيعة النهائية، ولا يجد مناصا من تنفيذ تعهداته ببتر أصابع يده ربما أيضل كعقاب للذات!

بينما يريد كولم أن يتجاوز العزلة داخل هذه الجزيرة التي لا يحدث فيها شيء سوى الموت، عن طريق تأليف المقطوعة الموسيقية التي يطلق عليها “منفى جزيرة إينيشيرن” وهو عنوان دال للمقطوعة وللفيلم نفسه، لا يرى بادرياك بديلا عن العيش في الجزيرة، ويرفض رفضا قاطعا أن يرحل نحو عالم جديد وفرصة جديدة خارجها.فيلم بديع في مغزاه وسياقه، يمكن متابعته باستمتاع رغم سوداوية أفكاره التي يخفف من قسوتها الطابع الفكاهي الذي يصبغ الكثير من عبارات الحوار وكأننا نشاهد مسرحية من تلك التي برع في كتابتها مارتن ماكدوناه. ولكن لا بأس، فهناك مذاق جديد، وبعض الاسقاطات الفلسفية والتأملات التي تنبع من الحوار، تدفعنا إلى التأمل في مسار الحياة، ومغزى ما يمكن أن تحمله لنا القدر.

Visited 7 times, 1 visit(s) today