“أنتيغون” الجزائرية.. مأساة معاصرة

نعيمة ريسي في دور أنتيغون هي قلب الفيلم ومحوره نعيمة ريسي في دور أنتيغون هي قلب الفيلم ومحوره

تكمن عظمة المسرحيات الإغريقية التي أبدعها كتابها قبل قرون من ظهور التقويم الميلادي، في أنها ما زالت تلهم خيال المسرحيين والسينمائيين وكتاب الدراما عموما بأفكارها الإنسانية، يقتبسونها ويعيدون تقديمها في معالجات عصرية.

أحدث هذه المعالجات التي تأخذنا من عالم سوفوكليس إلى عالم اليوم بمشاكله الجديدة تتبدى في الفيلم الكندي “أنتيغون”  Antigoneللمخرجة الشابة صوفي ديراسب (من مقاطعة كيبيك)، فهو يتناول قضايا العنصرية والهجرة وعنف الشرطة وعقم القانون، والحلم بالتحقّق في مجتمع جديد هربا من الموت في الوطن. والمعالجة التي كتبتها المخرجة نفسها جاءت بالطبع، بتصرف كبير رغم حضور معظم شخصيات المسرحية الأصلية. لا يوجد هنا “كورس” أو مجموعة من المنشدين يردّدون الأغاني التي تعلّق على أحداث العمل، كما تغيب الملامح المعروفة لـ”كريون”، خال أنتيغون وشقيق زوجة أوديب “جوكاستا”.

قبل عشر سنوات جاءت إلى كندا الفرنسية أسرة مكونة من الجدة “مينيس” (رشيدة أوسعادة) ومعها أربعة أطفال قتل والدهم في الصراع المشتعل في الجزائر. الأطفال الأربعة هم: الابن الأكبر “اتيوكيل” (حكيم براهيمي)، والأصغر “بولينيس” (رواض الزين)، والابنة الكبرى “اسمين” (نور بلخيرية)، والصغرى “أنتيغون” (نعيمة ريسي). تمر السنون. ولا يزال وضع الأسرة في المهجر غير مستقر، فلم يحصل الجميع بعد على الإقامة الدائمة. ولكن أنتيغون تتفوّق في دراستها وتنال مكافأة مالية نتيجة تفوّقها في المدرسة الثانوية. إنها ما زالت في السابعة عشرة من عمرها. تتطلع إليها الأسرة في أمل. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. فالآلهة تدبّر أمورا أخرى غير ما يحلم به المرء ويتمناه حال التراجيديا اليونانية.

الابن الأصغر بولينيس ضالع في أعمال غير قانونية ترتبط بتوزيع المخدرات، وقد سبق أن قبض عليه وقضى فترات في السجن. وذات يوم أثناء وجوده مع مجموعة من الشباب، تداهم الشرطة المكان يريدون القبض عليه، يتصدى لشرطي، وتنطلق رصاصة تصيب شقيقه اتيوكيل في مقتل. يلقى ببولينيس في السجن حيث يواجه الترحيل إلى الجزائر التي لا يعرف عنها شيئا فقد غادرها وهو طفل صغير.

يتفتق ذهن أنتيغون عن خطة لإنقاذه والتضحية بنفسها، فتقص شعرها بحيث تشبه أخاها تماما، وترتدي باروكة وتذهب لزيارته في السجن مع جدتها، ثم يحدث التبادل على أن يخرج بولينيس ليغادر كندا بأسرها. وتقبع أنتيغون في مكانه إلى أن يكتشف أمرها فتتفجّر القضية في عموم البلاد وتصبح قضية رأي عام.

ما الذي يدفع أنتيغون إلى التضحية بنفسها من أجل شقيقها المتوّرط بالفعل في أعمال مخالفة للقانون؟ هذا السؤال تجيب هي عليه بكل قوة “قلبي يقول لي..”، ويصبح هذا القول شعارا يتردّد في حملة شبابية ضخمة يتم الحشد لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لكن أنتيغون هي كما في التراجيديا اليونانية، رمز التضحية بالذات من أجل العائلة، فالعائلة تظل لها المكانة الأولى. وهذا المنطق ليس من الممكن أن يفهمه المحقّقون أو القضاة. وهي تحتج على النظام القضائي كله وتكشف عيوبه ولا إنسانيته.

موقف أنتيغون يتناقض مع موقف شقيقتها اسمين (كما في مسرحية سوفوكليس) فالثانية ترغب في التحرّر من العائلة والاندماج في المجتمع الجديد وأن تتزوج وتعيش حياة طبيعية بعيدة عن المشاكل. وأنتيغون كانت قد ارتبطت عاطفيا بشاب هو “هيمون” (وهو في المسرحية الأصلية ابن كريون خال أنتيغون وملك ثيب بعد مصرع أبيها أوديب).

ولكن والد هيمون في الفيلم ليس معادلا لكريون، وليس مثالا للشر والتسلط مثله بل هو الشخصية الوحيدة التي لا تحمل اسما يونانيا قديما، بل يُسمى كريستيان” وهو عمدة المدينة تحكمه اعتبارات سياسية ترغمه لكي يلتزم بالقانون، لكنه أيضا رجل ودود صادق يتعاطف مع أنتيغون ويشعر بمعاناة ولده، فيسعى لإثناء أنتيغون عن موقفها ودفعها إلى الاعتراف بمكان شقيقها، ولكن بلا جدوى.

من الناحية البصرية الفيلم شديد الإتقان، ويتميز بالتصوير الممتاز الذي قامت به المخرجة نفسها، كما يتمتع بالحيوية والإيقاع السريع، والانتقالات المحسوبة جيدا بين الداخل والخارج، وشريط الصوت الجذاب الذي تستخدم فيه المخرجة الموسيقى الحديثة الشبابية، وكذلك الكثير من الأغاني الشعبية من منطقة القبائل في الجزائر التي يفترض أنها أصل تلك العائلة المهاجرة. وتبتكر المخرجة فكرة جلوس الجدة في الحديقة المقابلة للسجن، تنشد كل يوم الأغاني القبائلية، يحيط بها عدد يتزايد يوميا، من الشباب والكبار، في شبه فنية صامتة تضامنا مع أنتيغون.

شخصية هيمون غير مخدومة جيدا في السيناريو، والمشاهد التي يظهر فيها هي الأضعف في الفيلم. كما أن أداء الممثل أنطوان ديسروشير يهبط كثيرا بإيقاع المشاهد التي يظهر فيها مع الممثلة الواثقة، أي الموهبة الجديدة التونسية الأصل نعيمة ريسي.

من لم يطلع على مسرحية سوفوكليس ربما لن يستمتع كثيرا بمتابعة هذه المأساة العصرية تماما، وربما يجد أيضا غرابة في استخدام أسماء عائلة هيبونوم، بل وربما لا يستطيع أن يفهم تمسك أنتيغون بالتضحية على نحو ما فعلت. ولكن الفيلم يمضي على صعيد آخر، طارحا الكثير من التساؤلات حول العلاقة الملتبسة بين الشمال والجنوب، بين حكومات الشمال وقوانينه، وبين ما يجري في الجنوب من تداعيات قد تكون في معظمها نتيجة التناقضات التي ترسبت من عهود السيطرة الاستعمارية.

نعيمة ريسي في دور أنتيغون، هي قلب الفيلم ومحوره، ووجودها يضمن للفيلم حيويته وتألقه بأدائها المذهل في دور يجعلها قريبة الشبه كثيرا من “جان دارك” معاصرة تضحي بحياتها من أجل ما تؤمن به. هذه ممثلة سيكون لها شأن كبير في المستقبل. بقي أن أذكر أن هذا الفيلم حصل على جائزة أحسن فيلم كندي في مهرجان تورنتو السينمائي، كما تقدّمت به كندا للرشيح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي، ولكنه لم يصل إلى الترشيحات النهائية.

Visited 77 times, 1 visit(s) today