فيلم “توني إيردمان”: سخرية وعبث وفلسفة

Print Friendly, PDF & Email

كان أكثر فيلم تربع على قمة قوائم ترشيحات النقاد لنيل “السعفة الذهبية” في مهرجان “كان” الأخير، فيلم “توني إيردمان” Toni Erdman للمخرجة مارين أده، لكن المفاجأة أنه لم يفز، لا بالسعفة ولا بأية جائزة أخرى، بما في ذلك جائزة أحسن ممثل التي كان يستحقها بطله دون شك.

لم يحظ فيلم من أفلام مسابقة مهرجان كان الـ 69 بإجماع الجمهور والنقاد والصحافة الدولية (ما يقرب من خمسة آلاف صحفي وناقد) مثلما حظى هذا الفيلم الألماني، فقد جعل الجمهور يضحك الجمهور كما لم يضحك في قبل، ويسعد أيما سعادة، وهو يشاهد هذا العمل الذي يخل بأول مبدأ من مباديء الكوميدي السينمائية، فهو يقع في 162 دقيقة أي ما يقرب من ثلاث ساعات، بينما لا تتجاوز أفلام وودي ألين أكثر وأفلام عبقري الكوميديا السينمائية شارلي شابلن، أكثر من ساعة ونصف، إلا فيما ندر.

تجاوز الجمهور عن الطول المفرط لزمن الفيلم، وأخذ يجد ما يستمتع به من مشاهده، طريفة، منتظرا أن يرى إلى أين ستؤدي هذه المواقف التي  تكاد تشبه رقصة طويلة ممتدة بين شخصين اثنين في هذه الكوميديا الإنسانية، التي فيها من الحزن بقدر ما فيها من المرح، بل ومن السخرية والعبث أيضا. فنحن أمام ثنائي، أب وابنته، وينفريد وإينيس.

وينفريد مدرس موسيقى متقاعد قارب السبعين من عمره، يعيش وحيدا منفصلا عن زوجته بصحبة كلبته المخلصة الوديعة التي هرمت معه، والإبنة “إينيس” تجاوزت الثلاثين لكنها لم تتزوج ولا يبدو أن اهتمامها يدور في محيط الزواج والإنجاب، فطموحها كله يتركز حول الصعود الوظيفي، فهي تعمل في فرع شركة بترول عالمية في العاصمة الرومانية بوخارست، يستغرقها الانشغال في العمل بكل دقائقه، تريد أن تثبت نجاحها ولو على حساب كل متعة أخرى في الحياة، يعكس وجهها العابس المتجهم، نوعا من الصرامة التي تثير حتى استياء زملائها في العمل.

تقوم إينيس في البداية بإجازة قصيرة إلى بلدتها في ألمانيا حيث تزور والدها الذي يبدو على العكس منها، رجلا مهزارا، لا يضيع فرصة للمداعبة والمعابثة، وهو ما لا تتقبله إينيس ببساطة. يحاول الرجل التسرية عنها بعد أن شعر بما تعانيه من ضغوط في العمل تبقيها متوترة مشدودة الأعصاب، لكن سرعان ما تغادر “إينيس” عائدة إلى بوخارست حيث تنغمس في الاجتماعات العملية، والإشراف على مسار العمل بجدية تامة، فهي مسؤولة عن مراقبة الأداء والعثور على  آليات ووسائل لخفض التكاليف عن طريق الاستغناء عن بعض العاملين، أي أن مهمتها بعيدة تماما عن نطاق المشاعر، فالمهم تحقيق نجاح.

هناك استطرادات كثيرة ستأتي في سياق الفيلم، لتفاصيل العمل، والعلاقة بين إينيس ورئيسها وكيف أنها تشعر بالتهديد كونها امرأة وسط الرجال، وما تمارسه الشركات المتعددة الجنسيات من استغلال للعمال، خاصة في البلدان الأوروبية الأكثر فقرا ضمن منظوممة الاتحاد الأوروبي (رومانيا)، والهدف الدرامي هو أن يصبح وينفريد، والد إينيس، مدخلا للسخرية والهزء من كل هذه الأجواء المتجهمة الاستغلالية، وهي سخرية تصل إلى حدود ما يعرف بـ “الفارص” أي الهزل المباشر الذي يذكرنا بالمسرح التجاري. إلا أن ما ينجو بالفيلم، هو ما يكمن من فلسفة تحت نسيج التهريج والإضحاك والمواقف العابثة والعبثية، وإن كانت الحكمة الفلسفية التي سيصل إليها الفيلم قرب نهايته، سبق لنا أن خبرناها من قبل في أفلام أخرى.

الوحدة والشيخوخة

بعد وفاة الكلبة المخلصة وطغيان الشعور بالوحدة، يقوم الوالد بزيارة مفاجئة لابنته في بوخارست، حيث يحاول أن يقترب منها، أن يخترق سياجها الحديدي الجامد، يلقي بالنكات، يتحايل لكي يدخل على قلبها بعض السعادة، يكرر أمامها لكل من يلقاه على سبيل التفكه والمعابثة، أنه يفكر في “استئجار ابنة”. وفي أحد المواقف الطريفة يربط يده إلى يدها بواسطة سلسلة يغلقها، ولكنه لا يستطيع أن يفتحها، فقد نسى أين وضع المفتاح، ولكن إينيس مرتبطة بموعد اجتماع مصيري في العمل، لذلك يخوض الاثنان مغامرة الذهاب للبحث عمن يستطيع أن يكسر الطوق. إنها إشارة إلى رغبة الأب في إعادة الصلة مع ابنته التي يشعر أنها أصبحت بعيدة عنه، جغرافيا ووجدانيا.

إينيس تدفع والدها دفعا للمغادرة والعودة من حيث أتى. وسيتظاهر هو بأنه قد حزم حقيبته الصغيرة واستقل سيارة تاكسي ومضى إلى المطار بينما تكتفي هي بأن تلوح له مودعة من شرفة مسكنها، وفي لقطة طويلة تركز الكاميرا على وجهها لنلمح بعض ملامح الأسى تحت القناع الجامد، صحيح أنها تشعر بنوع من الحصار من وجود والدها لكنها تشعر أيضا بقلق خفي عليه. ولا يمر وقت طويل قبل أن يعود وينفريد ليفاجأ ابنته في شكل جديد تماما بعد أن تنكر في شخصية غريبة الأطوار، فارتدى باروكة طويلة الشعر، ووضع في فمه طاقما من الأسنان الطويلة، وارتدى ملابس مضحكة، واستأجر أيضا سيارة من سيارات ملوك النفط الأمريكيين، واتخذ لنفسه اسم “توني إيردمان”، وأخذ يعيث فوضى أينما حل، وهو يهبط أولا على ابنته في العمل مع زميلاتها، ويقدم نفسه باعتباره رجل أعمال يرغب أيضا في الاطلاع على أعمال الشركة لأنه قد يستثمر فيها. ولكن كل تصرفاته تثير ضحك واستغراب الفتيات، بينما تتعرف إينيس بالطبع عليه بينما تتظاهر بأنها لا تعرفه لكي تتفادى الشعور بالحرج.

محاولة للتأمل في العلاقة بين الأب والإبنة

توني إيردمان، سيحل أينما حلت إينيس، يحاول أن يفسد كل شئ ببراءة طفل مشاكس، وبفلسفة مهرج حكيم. إنه يتناقض بملابسه الغريبة المضحكة، مع المظهر الجاد لكل من حوله، وأولهم ابنته التي تحرص على اغلاق أزرار السترة جيدا، وعندما يرى كيف يطرد رئيس الفرع عاملا في الموقع لتقصيره في أمر تافه، يبتعد وينزل سرواله تحت شجرة قريبة ويعتزم التبرز. إنه يعلق بطريقته على ما يراه من أمور يرفضها. وهو يقدم نفسه الى سيدة ممن يلتقيهن في احدى الحفلات باعتباره السفير الألماني في بوخارست، لكنه يتصرف بطريقة متحررة تماما من أي بروتوكول.

معاناة في العمل

إمعانا في تصوير ما تعانيه إينيس في عملها، نرى كيف يفرض عليها رئيسها أن تصاحب زوجة مسؤول المهم التى من الفرع الرئيسي للشركة، في جولاتها للتسوق والترفيه، وهو ما يهبط بمستوى عملها ويعتبر أمرا مهينا، لكنها تقبل على مضض، لكي تحافظ على وظيفتها، ثم تدريجيا ستصل أيضا إلى الشعور بعبث كل شئ. إنها تغني عن السعادة مضطرة لمجرد الخروج من أحد تلك المواقف المحرجة التي يضعها فيها والدها، وعندما تجد صعوبة في تبديل فستانها، تنتزع الفستان وتستقبل ضيوفها الذين جاءوا للاحتفال بعيد ميلادها، عارية تماما، ثم تفرض عليهم التجرد من ثيابهم، بعد أن قررت في لحظة شعور بالعث أن يكون الحفل حفلا للعراة!

كل هذه المفارقات والمشاهد الطريفة التي يعيث خلالها “توني إيردمان” فسادا، ويتلاعب بالجميع، وصولا إلى قمة السوريالية في مشهد يرتدي فيه شعر حيوان أسطوري خرافي ضخم ويهبط على حفل عيد الميلاد، تجعله ينجح أخيرا في لمس الوتر الحساس الداخلي في قلب الابنة. وفي موقف يلخص حكمة الفيلم عندما يقول لها: إن الإنسان يجري ويعمل ويرهق نفسه كثيرا ويتوتر، ويمضي قطار العمر، لتأتي لحظة يكتشف أن حياته ضاعت هباء، وأنها لم تكن تساوي كل هذه المعاناة، ولكن يكون الوقت قد تأخر، فما معنى أن تمضي الحياة دون قدرة على أن نستمتع بما فيها بقدر الإمكان!

لاشك اننا أمام عمل جيد ومتميز وإن كان لا يرقى إلى مستوى التحفة الفنية، ففيه الكثير من الاستطرادات والتكرار والمبالغة من أجل إثارة الضحك (بعض اللقطات يمكن أن تكون مزعجة مثل إخراج إيردمان ريح بصوت مسموع، وممارسة صديق إينيس الاستمناء فوق قطع الحلوى ثم تناولها قطعة منها) ويعاني الايقاع بشكل واضح في الجزء الأخير، فبعد مشهد ظهور الأب مرتديا شعر ذلك الحيوان الأسطوري الضخم، يهبط ويسير في الطريق العام، يتحلق حوله الأطفال، يتطلعون إليه في سعادة، بينما يشعر هو بالاجهاد، ويتنفس بصعوبة شديدة، ثم يتمدد على أرضية الحديقة القريبة. هنا كان يمكن أن تلحق به ابنته وينتهي الفيلم، لكن المشكلة أن الفيلم يستمر بعد ذلك ليفقد الفيلم إيقاعه، ويكاد المتفرج يفقد مزاجه.

ثنائيات ذهنية

نلاحظ هنا اللعب على ثنائيات مثل: الأب الابنة، أي الجيل القديم (مدرس موسيقى عاش الحلم والجمال والفن والابداعوالجيل الجديد (الجيل العملي الذي يعمل في بيئة ترتبط بالتكنولوجيا الجديدة والشركات متعددة الجنسيات، والضحك مقابل المأساة، الحياة أمام الموت (موت الكلبة إشارة إلى اقتراب موت الرجل)، الجنس الذي ليس جنسا صحيحا، والرجل الذي يتصرف كمجنون لكنه ليس مجنونا، والجنون المصطنع كوسيلة للتغلب على جنون العالم، والتهكم المستمر من أخلاقيات البورجوازية وصب اللعنات عليها بطريقة السخرية الطريفة.

ولعل من أهم عوامل تماسك الفيلم ونجاحه في جذب المشاهدين، رغم طوله الزمني المفرط، الأداء التمثيلي الرفيع، سواء من جانب الممثل النمساوي الكبير “بيتر سيمونشيك” في دور وينفريد/ إيردمان، والممثلة الألمانية “ساندرا هوللر” في دور “إينيس”. وبدون تلك الكيمياء التي ربطت بينهما، لم يكن الفيلم قد وصل إلى كل ما حققه من إقناع وقبول، ولاشك أن الفضل في اختيار وحسن ادارة الممثلين على هذا النحو البديع، يعود إلى المخرجة التي تركت مجالا للارتجال خاصة مع الانتقال بين لغات عدة في الفيلم: الألمانية والانجليزية والرومانية، كما نجحت في اختيار مواقع التصوير.

أجمع النقاد على ضرورة حصوله على “السعفة الذهبية”

Visited 24 times, 1 visit(s) today