“أمير العمري يكتب: مشكلة “فتاة المصنع

"فتاة المصنع" معالجة تقليدية لموضوع قديم "فتاة المصنع" معالجة تقليدية لموضوع قديم

شاهدت فيلم “فتاة المصنع” في مهرجان قرطاج السينمائي الـ 25. ولم أكن قد شاهدته عندما عرض عروضا عامة في مصر. و”فتاة المصنع” فيلم مهم، أساسا، لأن مخرجه هو محمد خان، أحد أهم المخرجين في السينما المصرية حاليا ومنذ أكثر من ثلاثين عاما. وقد قدم خان من الأفلام ما أصبح يعتبر حاليا من كلاسيكيات السينما المصرية التي لا تنسى مثل “الحريف” و”زوجة رجل مهم” و”أحلام هند وكاميليا” و”كليفتي”.

غير أن محمد خان، صاحب البصمة السينمائية المميزة التي تجعله دون شك، ضمن طائفة المخرجين المؤلفين، صاحب الأعمال التي تتجرأ على المحظور، وتطرح بجرأة قضايا التناقضات الطبقية والصراع الاجتماعي بل والتحولات التي شهدها المجتمع المصري منذ الانتفاح الاقتصادي، من خلال شخصيات المهمشين الذين يعيشون على هامش المجتمع، كان قد إتجه منذ سنوات إلى الاتكاء على السيناريوهات التي تكتبها زوجته وسام سليمان، وهي سيناريوهات تبدو من ناحية، متسقة مع فكر مخمد خان السينمائي الذي يهتم كثيرا بالمرأة ومشاكل المرأة في مجتمع ذكوري بطريركي مثل المجتمع المصري. لكنها من ناحية أخرى، تبدو أقرب إلى طابع الفيلم التليفزيوني الاجتماعي، أكثر منها سيناريوهات تصلح أساسا لأفلام سينمائية مركبة متعددة المستويات، فهي تميل إلى الحبكة التقليدية البسيطة التي كان خان قد تخلص منها تماما في فيلمه الطليعي “كليفتي”. لكن خان فيما يبدو، مضطر للعودة إلى المسار السينمائي السائد بغرض الوصول إلى السوق السينمائية في مصر، ولذا فإنه يرحب بهذا النوع من السيناريوهات التي قد لا توفر له فرصة تقديم أفلام كبيرة، بقدر ما تتيح له الفرصة للتجويد في تقنيات الإخراج ومواصلة اهتمامه بشخصية المرأة.

على العكس من بطلة فيلمه السابق “في شقة في مصر الجديدة” (2007) التي كانت تنتمي بشكل ما، إلى الطبقة المتوسطة، تنتمي بطلة “فتاة المصنع”- هيام- إلى الطبقة الأدنى.. العاملة، و تقيم في أحد أحياء القاهرة العشوائية التي تتصف بالفقر والقذارة والتكدس السكاني، ويبدو أن كل آمال سكانها الحصول على الخبز والستر. وهيام تعمل في مصنع للنسيج، مع مجموعة من الفتيات يرتدين جميعا الحجاب المنتشر خصوصا في الأحياء الشعبية بين الفتيات.

فارس الأحلام

هيام كما نراها في الفيلم فتاة تتطلع إلى الحب، تحلم بفارس الأحلام، مثل غيرها من الفتيات. وعندما يأتي شاب للعمل كرئيس للعاملات يطلقون عليه “الباشمهندس صلاح”، سرعان ما تتنافس الفتيات على لفت انتباهه، لكن هيام تقع في حبه، ولكن من طرف واحد، ولكنها مع ذلك، تفرض نفسها على أسرته وتدخل بيته لرعايته وهو مريض، وتلح إلحاحا من أجل الحصول على تعاطفه وعاطفته إلى أن تنال منه قبلة عابرة، تترتب عليها بعض المفارقات، فهي تتصور أن القبلة تعبير عن الحب، وعندما تسري اشاعة في المصنع أن هناك إحدى العاملات حامل، سرعان ما تلصق الفتيات “التهمة” بهيام التي لا تنكرها تماما، فهي تقول لامها أن الدورة الشهرية منقطعة منذ شهرين، هنا تنقلب الدنيا فوق رأسها، ويتعين عليها أن تدفع ثمن تلك الغلطة الشهيرة في السينما المصرية، أي فقدان بكارتها. ويكاد صلاح نفسه أن يدفع ثمن الكذبة التي يتضح أنها كانت مجرد محاولة للفت نظر صلاح الذي لا يبالي ويتنكر للقبلة العابرة، ويفلت من “دفع الثمن”!

هيام تعيش مع أمها “عايدة” ذات الشخصية القوية المهيمنة، وزوج أمها الذي لا نراه سوى بعد أن ينتفض للقيام بدور الرجل التقليدي، حامي حمى الشرف. أما عايدة خالة هيام، فهي مطلقة ومطمع للرجال في عملها، ولكنها قوية الشخصية، تتغلب على ضعف راتبها بالعمل في ترتيب منازل الطبقة الأعلى وتصطحب معها في مهمتها هيام. النساء في الفيلم أقوى من الرجال، وهن اللاتي يعملن ويمسكن بزمام الأمور بينما الرجال في معظمهم عاطلون، يجلسون في المقاهي، يثرثرون أو يشكون قلة الحيلة. وشخصيات النساء شرسة، فجميع زميلات هيام في العمل يشعرن بالغيرة منها ويلصقن بها تهمة “الحمل سفاحا”، وفي مشهد عنيف تشاهد كيف تقوم جدتها بقص شعرها بقسوة عقابا لها على فعلتها المفترضة، وتضربها أمها بعنف، لكنها عندما يجد الجد ويُقدم خالا هيام على الفتك بها، تكشر الأم عن أنيابها وتهددهما بالسكين دفاعا عن ابنتها، وفيما بعد تقيم طقسا خاصا لدفن بقايا شعر هيام المقصوص في النيل وهي تتضرع إلى الله أن يعوض ابنتها عن شعرها المقصوص!

يامسين رئيس بطلة الفيلم

فيلم “فتاة المصنع” نموذج لولع خاص أصبح مستقرا لدى مخرجي الطبقة الوسطى في مصر، بصنع أفلام عن طبقة المهمشين، يحاولون من خلالها رصد “قيم” مثل التساند الاجتماعي والمفاهيم القديمة عن الشرف، وشهامة أهل الحارة وغيرها من الأنماط المألوفة في السينما التقليدية، فبعد محاولة هيام الانتحار واصابتها نشاهد كيف يهرع الجميع رجالا ونساء إليها في المستشفى، وكيف تعود زميلاتها في النهاية الى مساندتها والوقوف معها. لكن الفيلم مع ذلك، يأتي كنموذج مثالي لفيلم الميلودراما المصرية التقليدي، لا ينقذه من المبالغات الميلودرامية المصطنعة إخراج محمد خان المتمكن، الذي يتمثل في براعته في التقطيع، والانتقال من مشهد لآخر ومن لقطة لأخرى، وفي رصد التفاصيل من خلال لقطات شديدة الذكاء، مع قدرته على التحكم في الايقاع داخل كل مشهد على حدة وداخل الفيلم كله بمساعدة المونتيرة البارعة دينا فاروق، وتحريكه المجاميع، واختياره الموفق لمواقع التصوير، واستخدامه زوايا التصوير من زوايا مرتفعة بحيث تبدو الكاميرا وكأنها تراقب وترصد وتتلصص، كما تصور حالة الحياة الجافة المتعبة التي تعيشها فتيات المصنع، بين العمل على ماكينات الخياطة أو تناول الوجبات السريعة والثرثرة حول الرجال، أو انتظار الحصول على الخبز، ومحمد خان يعرف أيضا كيف يصور احتفالهم بالحياة، بالغناء والرقص والتطلع إلى الحب.

الموقف الفكري

لا يتجرأ سيناريو وسام سليمان على أن يجعل هيام تواجه فكرة العذرية المفقودة بالصمود والدفاع عن حقها في الحب، بل يجعلها تنهزم وتتراجع لنكتشف في النهاية أنها لم تفقد شيئا، دون أن نفهم ما الذي جعلها توحي بعكس ذلك أو تسكت على ما تواجهه من اتهامات من قبل الجميع: الأهل والزميلات والصديقات بل وصلاح نفسه أيضا. ويحتوي “فتاة المصنع” على كل ما يحيط بموضوع العذرية من تداعيات: مضايقات، إشاعات، اعتداء بالضرب المبرح، قص شعر، صراخ، هستيريا، محاولة انتحار، محاولة قتل الفتاة غسلا للعار بالدم، وكلها عناصر موجودة بقوة في صلب سيناريو الفيلم حاول محمد خان الالتفاف حولها بمهارته المكتسبة من أفلامه السابقة دون جدوى.

إن كل محاولات خان لا تنجح في إضفاء الفن على سيناريو متهالك عتيق يدور داخل الدائرة التقليدية نفسها وصولا الى أقصى درجات الميلودراما بل والكاريكاتورية المباشرة، فالكثير من المشاهد تبدو مضحكة رغم أن المقصود أن تكون صادمة، فالمشهد الذي يتجه فيه شقيقا الأم للفتك بهيام غسلا للعار والشرف- كما يقال- يبدو مشهدا كاريكاتوريا يثير السخرية والضحك كونه نمطيا يعود إلى أنماط الماضي في ميلودرامات السينما المصرية الشهيرة. ومشهد خلع صلاح ملابسه والظهور بلباس البحر المرزكش ثم صراخ الفتيات وجريهن نحوه، ثم نزولهن إلى البحر بملابسهن وهن يضحكن ويعابثونه، يبدو رغم طرافته، مشهدا هزليا!

والمفارقة أن السيناريو بتركيبته العتيقة يبدو متناقضا مع نفسه، فعلى حين يرمي إلى تصوير رومانسية هيام ورغبتها في الوقوع في الحب (تأثرا بشخصية سعاد حسني التي نلمحها في أكثر من لقطة على شاشة التليفزيون!) تبدو رومانسية هيام لا مبرر لها، فالشاب الذي يفتضر أنها وقعت في غرامه (صلاح) يبدو واضحا من البداية أنه لا يحبها، بل إنه يعبر لها بوضوح في مشهد مبكر عندما تلح عليه أن يذهب معها ورفيقاتها في رحلة للعين السخنة، عن لامبالاته بها، ثم يتطور الأمر إلى رفضه الصريح لها، ومع ذلك فهي مستمرة في إيهام نفسها بالحب لا تستفيق إلا في النهاية بعد لقائها معه في مقهى “جروبي”، ولكنها بدلا من أن تحتفظ بكبريائها تذهب الى عرسه لكي ترقص في تحدٍ لكي تقول له إنها لا تبالي وإنها تحررت من أوهام الحب، فأين هي الرومانسية هنا؟ بل وأين الحب من الأصل؟ إنه حب مريض من طرف واحد لا يبدو موجها إلى الشخص المناسب، فصلاح نموذج لشاب جامد المشاعر، يفتقد لاي مسحة من العاطفية، فلماذ وقعت في حبه دون غيره، وهل يمكن أن تقع فتاة اليوم في حب شخص قبل أن تتبادل معه كلمة واحدة!

عاملة المصنع

على حين أراد محمد خان أن يكون فيلمه بمثابة تحية الى الراحلة سعاد حسني بدت كل أغاني سعاد حسني التي يتم تقطيعها على مدار الفيلم، مقحمة وغير متسقة مع طبيعة المادة الدرامية في الفيلم نفسه، ففتاة بتركيبة هيام الطبقية والعُمرية يجب أن تكون أقرب في اهتماماتها إلى أغاني شرين عبد الوهاب في أفضل تقدير، وليست أغاني سعاد حسني.. ممثلة الطبقة الوسطى المصرية في عصرها الذهبي أي قبل انهيارها، ناهيك عن أن سعاد حسني كمغنية هي أقرب إلى “المونولوجست” منها إلى مطربة عاطفية تثير أغنياتها مشاعر الفتيات في الزمن الحالي!

“فتاة المصنع” رغم كل ما ذكرناه من ملاحظات يبقى فيلما مختلفا عن المسار العام الحالي في السينما المصرية، ومحاولة جادة لتقديم صورة مختلفة جديدة لفتيات الطبقة الشعبية، من اللهو إلى الحلم بالحب دون أن يتحقق الحب، إلى مراوغة المجتمع، ربما، بالتلاعب بمفاهيمه دون نجاح، لينتهي الأمر إلى صورة رمزية عن قدرة الفتاة على استعادة نفسها من خلال تلك الرقصة التعبيرية في النهاية.

عن الأداء

عن التمثيل لابد من الإشادة بالموهبة الكبيرة للممثلة الشابة ياسمين رئيس في دور هيام، بكل عفويتها وحرارتها وتلقايتها، كما تميز أداء سلوى محمد علي بأدائها الطبيعي الممتع في دور الخالة “سمره”، لكني لم أقتنع بذلك الأداء المصطنع الممطوط الذي يتكرر على نفس الوتيرة من جانب سلوى خطاب في دور الأم، فهي تبدو في كل المشاهد وكأنها تلوك الكلمات وتخرجها بصعوبة كما لو كانت تسخر، في حين يتكرر هذا الأداء في كل المشاهد التي نظهر فيها طوال الفيلم.

وكان من الخطأ أن يستعين محمد خان بممثل جاف يفتقد للقدرة على الحركة والتعبير، جامد في أدائه على هذا النحو المثير للدهشة، وهو هاني عادل في دور صلاح، بل إن كل الممثلين الرجال في الفيلم يعانون من الضعف والرتابة والنمطية. 

Visited 157 times, 1 visit(s) today